لا يمكن اعتبار المجزرة الأخيرة الذي حدثت بباريس سوى أقوى دفعة تتلقاها الظاهرة الشعبوية التي ظهرت مؤخرا بألمانيا. الحركة المعروفة باسم "بيغيدا" أو (الوطنيين الأوروبيين المناهضين لأسلمة الغرب)، نجحت خلال هذا الأسبوع في استقطاب عدد أكبر من المتعاطفين أكثر من أي وقت مضى؛ إذ وصل عدد الأشخاص الذين شاركوا في مسيرة للحركة إلى حوالي 25 ألف شخص، لفوا بشوارع مدينة دريسدن. وقفزت المجموعة المعادية للإسلام والمسلمين على الفرصة من أجل تصوير الإسلام في صورة ديانة تتأسس على العنف، وتشكل تهديدا لألمانيا؛ علاوة على تغييرها الغرب. كما استغلت الحركة تزايد المخاوف الأمنية وكذا تصاعد طلبات اللجوء بالأراضي الألمانية لتصل مستويات قياسية لم تعهدها ألمانيا منذ التسعينيات، كمطية لتوظيف المخاوف التي يبدو أن الألمان يحملونها في صدورهم لصالح نشر مواقفها. قبل حدوث مجزرة باريس، كانت حركة "بيغيدا" والحركات المشابهة لها بالبلاد، التي تعارض "أسلمة أوروبا المسيحية"، و"الغزو الأجنبي" لألمانيا، تعيش على وقع التقهقر بعد انطلاقة مكوكية بدأت قبل نهاية 2014. وقد بدأت تظاهرات الحركة في الشوارع (تعد أضخم المسيرات المناوئة للإسلام في أوروبا برمتها) تعرف بعض التقهقر، وقد نجحت المظاهرات المضادة للحركة في مختلف أرجاء البلاد في خطف الأضواء من مسيرات "بيغيدا". داخل مدينة دريسدن الشرقية لوحدها، منشأ الحركة، بدا أن القضية التي تدافع عنها "بيغيدا" استهوت نواة صلبة من الأشخاص لا يفوق عددهم الألف. في غضون ذلك، أشارت الانقسامات الداخلية داخل المنظمة المنقسمة والغامضة، وكذا الانشقاقات في صفوف حزب أقصى اليمين بألمانيا "حزب البديل لألمانيا"، بأن المجموعة ستنقسم وتزول قريبا، لتنضم إلى قائمة التيارات الوطنية الألمانية الأخرى التي لا يعيرها الاهتمام أي أحد داخل المشهد السياسي الألماني. وفي الواقع، أحاطت بالحركة الكثير من الألغاز المتنافرة من الناحية المنطقية إلى درجة أن أغلب الملاحظين توقعوا زوالها في أقرب وقت. ويدعي حشود المتظاهرين بأن ألمانيا أصبح يسيطر عليها المسلمون، بالإضافة إلى عدد من الأجانب، الذين يعد تواجدهم السبب وراء المعضلات الاجتماعية التي تتخبط فيها البلاد، وكذا ارتفاع قيمة الضرائب، وتصاعد معدلات الجريمة، وتزايد المخاوف الأمنية. يقول هؤلاء بأنه يوجد عدد كبير من المسلمين والحاملين للجنسيات الأجنبية إلى درجة أن الألماني العادي يحس كأنه غريب في بلده. ويتحجج هؤلاء بأنه إذا استمرت الأمور على نفس الوتيرة، سيفوق عدد المسلمين عدد الألمان بحلول العام 2035. كما أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل، التي تحدثت بشكل صريح عن ترحيبها باللاجئين وبمعارضتها للجماعات (لم تنعتها بالاسم) التي تدعو للكراهية وتنشر الأحكام المسبقة، قد قامت "بالغدر بهم"، حسب ما يدعي لوتز باشمان، أحد مؤسسي مجموعة "بيغيدا"، الذي يرى بأن الأحزاب السياسية ببرلين والمنابر الإعلامية متواطئة وتشتغل في تنسيق تام بينها. الوقائع والمعطيات في حد ذاتها لا تصب في مصلحة حركة "بيغيدا". فمدينة دريسدن، على سبيل المثال، يوجد بها عدد جد ضئيل من المسلمين (يشكلون 0.4 في المائة فقط من نسبة الساكنة)، وعدد محدود من المهاجرين (أربعة في المائة)، وهي نسبة تقل بكثير عن نسبة المهاجرين الموجودين بعدد من المدن الألمانية الأخرى. وبطبيعة الحال فإن قوانين الشريعة لا يتم تطبيقها على ضفاف نهر "إيلبي"، ولا يظهر أثر للنساء المحجبات داخل مناطق التسوق بدريسدن بشارع براغ. كما أن مسلمي ألمانيا البالغ عددهم 3.5 ملايين شخص (يشكلون 4 في المائة من الساكنة) في غالبيتهم العظمى يحترمون القوانين، ويتحدثون أكثر من لغة واحدة، وهم مواطنون مسالمون. ويقول 90 في المائة من المسلمين بألمانيا بأن الديمقراطية هي شكل جيد من الحوكمة. علاوة على ذلك، توضح الدراسات الحديثة بأن المهاجرين يدرون على الدولة الألمانية مداخيل أكثر مما تصرفه عليهم، في الشق المتعلق بالإنتاجية وأداء الضرائب. "البديل لألمانيا" في المقابل، مدينة دريسدن ليست بالمكان المعروف بتسجيله لغياب فرص العمل. فعلى النقيض من ذلك، فالمدينة تحقق نجاحات باهرة شرقي ألمانيا من حيث إنشاء المقاولات الصغرى الجديدة وتواجد جامعات تدرس أحدث العلوم والتكنولوجيات. وفي ظل وصول التشغيل لأعلى مستوياته بألمانيا برمتها، يتفق الخبراء في الاقتصاد على أن ما تحتاج إليه البلاد هو المزيد من اليد العاملة ذات المهارة العالية لشغل المناصب الشاغرة، والتي لا يمكن الحصول عليها في الوقت الراهن سوى من خلال استقبال المزيد من المهاجرين. وعلى المدى البعيد، ستحتاج ألمانيا إلى يد عاملة إضافية لتعويض نموها السكاني الضعيف؛ وبالتالي ستضطر كذلك إلى استقدام اليد العاملة من خارج الحدود الألمانية. وبالنسبة لتهديد الديانة المسيحية، فالغالبية العظمى من الألمان القاطنين بالشرق هم علمانيون. بيد أن الأحداث المأساوية التي شهدتها فرنسا؛ وبالموازاة مع الأعمال الشنيعة التي يقوم بها المتطرفون الإسلاميون بنيجيريا وكذا سلسلة محاكمة الجهاديين الذين عاشوا داخل ألمانيا، تظهر على أنها تتغلب في حجيتها على الوقائع والمعطيات، على الأقل بالنسبة للموالين لحركة "بيغيدا". "جميع من قاموا بتجاهل المخاوف التي أشار إليها بعضنا بخصوص التهديد الإسلامي أو من ذهبوا إلى حد السخرية من ذلك نالوا جزاءهم من خلال هذا العمل الدموي"، على حد تعبير ألكسندر غولاند، أحد قادة "حزب البديل لألمانيا"، الذي حذر من مغبة "تشويه سمعة" بيغيدا، في تصريحات أدلى بها هذا الأخير يوم 7 يناير، مباشرة بعد وقوع مجزرة شارلي إيبدو. وسواء تعلق الأمر بمواقف تتأسس على الوقائع أم لا، فذلك يوضح بجلاء وجود التربة الخصبة داخل ألمانيا لانتشار مثل هاته الآراء؛ كما هو الحال في باقي بلدان أوروبا الشمالية. وتوضح الدراسات مثل استطلاع الرأي الأخير لمعهد "اينفرا ديماب" بأن 22 في المائة من الألمان متعاطفون مع "بيغيدا"، في حين أن 72 في المائة منهم ليسوا كذلك. (وقبل أسبوع على هجمات فرنسا كانت النسب 21 في المائة و76 في المائة على التوالي). وفي استطلاع رأي آخر أنجزته مؤسسة "بيرتيلسمان ستيفتونغ" المستقلة وذات الأهداف غير الربحية، أوضح أن فزع الألمان من الإسلام تصاعد خلال السنتين المنصرمتين؛ إذ يعتبر اليوم 57 في المائة من الألمان بأن الإسلام يشكل خطرا عليهم مقارنة ب 53 في المائة تم تسجيلها في 2010. ويقول نحو 40 في المائة بأن العدد الكثيف للمسلمين بألمانيا يدفعهم إلى الإحساس بأنهم أغراب في بلدهم الأصلي، في الوقت الذي يقول فيه 24 في المائة بأنه يتعين فرض حظر على قيام المسلمين بالهجرة إلى ألمانيا. (لسخرية الأقدار، فإن حصة الأسد من اللاجئين المتوافدين اليوم على ألمانيا هم المسلمون السوريون الفارون من المتشددين المتطرفين المحسوبين على الدولة الإسلامية بالعراق والشام.) الإسلاموفوبيا ومعاداة السامية أحد الأسباب التي تجعل الإسلاموفوبيا أحد الأمور الجذابة القادرة على الانتشار بشكل واسع هو أنها لا تشكل أحد الطابوهات، على خلاف معاداة السامية، التي تتقاسم الكثير من الملامح مع الإسلاموفوبيا. ويوما واحدا فقط على هجمات باريس، قامت صحيفة "دي فيلت" الأوسع انتشارا من بين المنابر الإعلامية المحافظة، بنشر مقال رأي في صفحة كاملة، كتبته أيان حرسي علي، الناشطة السياسية الهولندية من أصول صومالية التي تعد واحدة من أشرس منتقدي الإسلام، ادعت فيه بأن الإسلام دين يقوم على العنف. "يتعين علينا الإقرار بأن إسلاميي الوقت الراهن تحفزهم إيديولوجيا دفينة داخل النصوص الأولى للإسلام. لا يسعنا أن نواصل التظاهر بأن الأعمال التي يقومون بها يمكن وضعها بمعزل عن الأفكار التي منحتهم الإلهام"، كما ورد في مقالها. الحجج التي تعتمد عليها ليست بالأمر المستجد داخل ألمانيا حيث تعبر عن ذلك الآراء المماثلة لعدد كبير من الشخصيات المحافظة، وكذا عدد من الاشتراكيين الديمقراطيين البارزين، مثل أستاذ الاقتصاد ثيلو سارازان، والناشطة النسوية الليبيرالية أليس شوارزر. توضح استطلاعات الرأي بأن هؤلاء يشكلون جزءا من الاتجاه العام السائد. وبمعزل عن معاداة الإسلام، الذي يعد أهم شعار ترفعه بيغيدا اليوم، فإن الحركة على ارتباط وثيق بعدد من المواضيع التي كان يقول الشعبويون الألمان اليائسون بأنها كانت من بنات أفكارهم منذ عدة عقود خلت؛ مثل البطالة التي تتسبب فيها الهجرة، والجرائم التي يرتكبها الأجانب، وسوء استغلال المساعدات الاجتماعية التي تقدمها الدولة، والفخر الوطني، وانحياز وسائل الإعلام، وتواطؤ الأحزاب المهيمنة على المشهد السياسي. ويرى عدد من المثقفين الألمان، وبينهم أستاذة العلوم السياسية جيسين شوان، بأن الحافز المشترك بين صفوف المتعاطفين مع الحركات المشابهة لبيغيدا، والذين يتشكلون في غالبيتهم الساحقة من الرجال، هو المخاوف من فقدانهم لوضعهم الاجتماعي الحالي، الذي يكون في الغالب مرتبطا بانتمائهم إما للطبقة المتوسطة أو الفئة السفلى من الطبقة المتوسطة. وحسب شوان فإن حدة الفوارق بين الأغنياء والفقراء لم تكن جد قوية داخل ألمانيا ما بعد الحرب، في الوقت الذي مازال فيه الألمان المقيمون بالشرق يجنون أقل من المقيمين في الغرب. وداخل شرقي ألمانيا، فإن حالة الاستياء لدى فئة عريضة من المواطنين بخصوص مستقبلهم داخل ألمانيا الموحدة جعلتهم يقاطعون صناديق الاقتراع. علاوة على ذلك، فإن العديد من فرص الشغل شرقي ألمانيا، بما في ذلك تلك التي تظهر بدريسدن ومحيطها، لا تمنح نفس الضمانات طويلة الأمد مثل تلك التي تمنحها الشركات القوية بالغرب؛ وفي الواقع، فإن فرص العمل تلك يمكن أن تختفي في حالة تسجيل انكماش اقتصادي. عن موقع "فورين افريرز" الإسلام جزء من ألمانيا وبما أن بيغيدا ليست حزبا سياسيا؛ ولا تطمح لتنال ذلك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو كيف ستتعامل هذه الحركة مع الاستحقاقات الانتخابية. وقد عمد الشعبويون الألمان الذين يلتزمون بالكياسة، والذين يجسدهم "حزب البديل لألمانيا"، بإضافة معاداة الإسلام إلى ترسانتهم العام المنصرم بعدما اهتدوا إلى كون التلويح بمعارضة عملة الأورو الموحدة لن يكسبهم المزيد من الأصوات الانتخابية (نالوا 5 في المائة في المجموع) لضمان حصولهم على مناصب تشريعية. ويرغب ممثلو "حزب البديل لألمانيا"، من أمثال غولاند، باستغلال هجمات باريس، وكذا ظاهرة بيغيدا، من أجل نيل مقاعد إضافية في الانتخابات الجهوية بألمانيا الغربية (لاسيما بهامبورغ وبريمان) بعدما نجحوا في الظفر بعدد من المقاعد بألمانيا الشرقية. بيد أنه من السابق لأوانه معرفة ما إن كانت هذه الاستراتيجية ستؤتي أكلها أم لا. وقد ضايق الصعود السريع لبيغيدا العديد من الأشخاص بألمانيا، وتسبب في خروج العديد من التظاهرات المعارضة لبيغيدا بأعداد أكبر بكثير. وبمدينة دريسدن، جذبت مسيرة معارضة لبيغيدا ما يزيد عن 35 ألف شخص، وبمدينة ليبزيغ، خرج في مسيرة أخرى نحو 30 ألف شخص. وقد عبر القائمون على الكنائس عن معارضتهم لما تدعو إليه بيغيدا، وذهبوا إلى حد إطفاء الأضواء داخل كاتدرائية "كولون" خلال مظاهرة لأحد فروع الكنيسة الموالية لبيغيدا. علاوة على ذلك، تم تسجيل تزايد في المساعدات التي يتم تقديمها للاجئين السوريين بألمانيا مما زاد من مصاعب المشتغلين في توفير المساعدات الاجتماعية بعدما وجدوا صعوبة في التعاطي مع الكم الهائل من المساعدات. وفي ظل الأجواء الراهنة، يتعين على النخبة السياسية الألمانية وأتباع الديانة الإسلامية بألمانيا وهيئات المجتمع المدني السيطرة على مجريات الأمور. وعلى امتداد الأسابيع الأخيرة، أعطت القوى الديمقراطية بألمانيا، تحت قيادة المستشارة ميركيل نفسها، جميع الإشارات بأن هذا هو ما تسير على القيام به. ولم تقم فحسب المستشارة الألمانية وكل الأحزاب (باستثناء حزب البديل لألمانيا وبعض الحالات المعزولة داخل معسكر المحافظين) بالتنديد بما تقوم به بيغيدا؛ بل ذهبوا إلى حد رفض أخذ مطالب الحركة بعين الاعتبار، مثل اتباع سياسة متشددة في الهجرة مثل تلك التي أقرتها سويسرا. وقد قامت ميركيل بالثناء على التصريحات التي أدلى بها عدد من القياديين داخل الحزب الذي تنتمي إليه، والتي جاء فيها بأن الإسلام يشكل جزءا من ألمانيا وسيظل كذلك. ورغم أن الأغلبية بألمانيا بين أياد آمنة، فإن أفكار وأفعال أقلية لها كذلك عواقبها. وفي حال ظل "حزب البديل لألمانيا" متماسكا، فإنه سيتمكن حتما من الحصول على مقاعد انتخابية بالجزء الغربي من البلاد مما قد يتسبب في قلب الحسابات السياسية؛ وهو ما قد يتسبب في خسائر لحزب المسيحيين الديمقراطيين الذي تنتمي إليه ميركيل. حركة بيغيدا في حد ذاتها قد تكون مجرد أداة ضمن اللعبة الديمقراطية، وتشكل مواقفها المتطرفة تهديدا لأمن اللاجئين والمهاجرين. وفي الماضي، كانت منازل المسلمين، ومساجدهم ومراكز اللجوء التابعة لهم تتعرض للإحراق على يد المتطرفين الألمان المنتمين لأقصى اليمين. ولا يوجد أفضل من ذلك بالنسبة للإسلاميين المتشددين الذين قد يستغلون ذلك كاستراتيجية لزرع الخلاف بين المسلمين وغير المسلمين بألمانيا وباقي الدول الأوروبية. يمكن أن يتسبب ذلك في ظهور جيل جديد من الشباب المسلمين الساخطين، والمهمشين والغاضبين الذين قد يسهل عليهم حمل الشعلة.