مولاي اسماعيل العلوي، رجل اجتمعت فيه كل الهويات والتقت عنده كل التوجهات المتناقضة، بانسجام.. فهو الشريف العلوي، والمناضل الشيوعي، وحفيد الإسلامي (عبد الكريم الخطيب)، وابن الباشا، أمه حفيدة الكباص، وزير الحرب والصدر الأعظم، وخاله (عبد الرحمان الخطيب) وزير الداخلية، وابن خالته (حسني بنسليمان) أقوى جنرالات المملكة... على «كرسي الاعتراف»، يُقر مولاي اسماعيل بأن شخصيته تأثرت بثلاث شخصيات: «أبي الذي ألهمني الجدية والاستقامة؛ وجدتي لأمي، للا مريم الكباص، التي كانت شخصية قوية، وكانت تحارب الخرافات إلى درجة أنها كانت تنكر وجود الجن؛ وخالي عبد الرحمن الخطيب (وزير الداخلية الأسبق) الذي ألهمني فكر الحداثة والعقلانية». على «كرسي الاعتراف»، يحكي مولاي اسماعيل عن الوعي الوطني الذي «داهمه» وهو لم يتجاوز الرابعة من عمره، عندما احتل العساكر الفرنسيون بيتهم في سلا، عقب انتفاضة يناير 1944، وكيف كانت الأميرات، كريمات محمد الخامس، يسألنه وهو طفل، عند زيارتهن لبيت جدته في الجديدة، عن انتمائه الحزبي فيجيب: «أنا حزبي مخزز» (يعني استقلالي حتى النخاع). ثم يتوقف مولاي اسماعيل طويلا عند استقطابه من طرف السينمائي حميد بناني إلى الحزب الشيوعي، وكيف أن والده، الرجل الصارم، لم يفاتحه في الموضوع، ولكنه بكى -في غيابه- بحرقة على تحول ابنه إلى الشيوعية. في «كرسي الاعتراف»، نتطرق مع مولاي اسماعيل العلوي إلى تجربته السياسية والإنسانية الغنية بالأحداث والأفكار. - ما هي أبرز الأسماء المنتمية إلى الحزب الشيوعي المغربي التي التقيت بها بعد انتقالك، في 1962، إلى باريس لمتابعة الدراسة هناك؟ كان هناك عبد الكبير الخطيبي وحسن الحاج ناصر (انتمى لاحقا إلى منظمة إلى الأمام) وعمر الفاسي وحميد الحبابي. - ما هي المهام التي تكلفتَ بها في بداية التحاقك بباريس؟ أصبحت مكلفا بالنشرة الطلابية «الطالب المكافح»، كما كنت مسؤولا عن اللجنة الثقافية. وفي هذا السياق، سأحكي لك حكاية طريفة جعلت رفاقي يتهكمون عليّ قليلا. في تلك المرحلة كنا، كرفاق، قد أخذنا على عاتقنا أن نتحدث، خلال لقاءاتنا واجتماعاتنا، باللغة العربية، لكي نؤكد أننا مجموعة مستقلة عن الحزب الشيوعي الفرنسي، وهكذا شكلنا مجموعة لغوية «Groupe de langue»، وحدث مرة أنني أردت أن أقول للرفاق إنني أنا المسؤول عن هذه اللجنة الثقافية، فقلت بعفوية أنا «Commissaire a la culture»، كما لو أننا كنا في عهد لينين وتروتسكي، ولذلك تهكم علي الرفاق قليلا «لكن، ما كاين مشكل».. - متى تناهى إلى علم عائلتك أنك انتميت إلى الحزب الشيوعي؟ لا أدري، فلم يسبق لي أن طرحت هذا السؤال على أحد داخل عائلتي، كما لم يسبق أن استفسرني أي منهم عن الأمر. لا شك أن والدي، بحكم توصله بتقارير الأجهزة الاستخباراتية، كان على معرفة بالأمر.. - هل بقي والدك باشا على مدينة القنيطرة؟ نعم، بقي في القنيطرة إلى غاية سنة 1964، حيث تم تعيينه باشا على مدينة فاس في نونبر من السنة نفسها، وستوافيه المنية في ماي 1965. وحسب ما يحكيه ابن عمي مصطفى العلوي، الذي كان بدوره عضوا في الحزب الشيوعي، فإن والدي كان يوما رفقة عمي الذي كان ابنُه البكر، يوسف العلوي، قد انتمى بدوره إلى الحزب الشيوعي، وحدث أن تطرق أحدهما، بحسرة، إلى انتماء ابنيهما البكرين، يوسف وأنا، إلى الحزب الشيوعي، فانخرطا في البكاء (يضحك).. - ألم يسبق لوالدك أن فاتحك في موضوع انتمائك إلى الحزب الشيوعي؟ عندما كنت أتابع دراستي بالدار البيضاء للحصول على شهادة ال»Propédeutique» (القسم التحضيري للدخول إلى الجامعة)، كانت إحدى زميلات القسم قد بعثت إلي برسالة ضمَّنتها عددا من الخزعبلات، كما رسمت فيها، بمداد أسود، منجلا ومطرقة (رمز الماركسيين اللينينيين).. - تقصد بكلمة «خزعبلات» أمورا عاطفيا؟ «هدرة ديال الشباب. يمكن شويا ديال العاطفة»، وقد بعثت الرسالة إلى منزلنا في القنيطرة، وكنت أنا، في تلك الأثناء، مسافرا إلى أوربا، حيث كنت معتادا على السفر في العطل، باستعمال «الأوطو سطوب»، ولم تكن هذه الرسالة تحمل طابعا بريديا، بل مجرد ختم «طابع عادي»، لذلك حسب والدي أنها رسالة إدارية رسمية، خصوصا وأنني كنت قد طلبت الحصول على منحة لمتابعة دراستي بالخارج، ففتحها، علما بأنهلم يكن، عادة، يفتح الرسائل الخاصة بي. وعندما وقعت عيناه على «ذيك المطرقة والمنجل» نادى علي، بعد عودتي من السفر، وحاول إقناعي بأنه لا يجب عليّ أن أسير في هذا الاتجاه (حملُ أفكارٍ شيوعية)، وأذكر أنه ضرب لي مثلا، عزف فيه على وتر العاطفة، حيث قال: «منين ذاك الفارس؟ قال لو من قبيلتي».. - أي أنه نبهك إلى أنك من «قبيلة» العلويين، ولا ينبغي لك بالتالي أن تنتمي إلى «قبيلة» الشيوعيين؟ «هذا هو.. يعني افْهمْ راسك».. - مع أنك حينها لم تكن قد انتميت بعدُ إلى الحزب الشيوعي.. نعم، لم أكن قد انتميت إلى الحزب بعد. - بعد وفاة والدك بمدة قصيرة، عدت من فرنسا واستقررت نهائيا بالمغرب؟ والدي توفي في ماي 1965، وأنا أنهيت دراستي الجامعية في يونيو من نفس السنة. - هل كانت وفاة والدك عاملا حاسما لتقرير عودتك إلى المغرب؟ لا، معظم أفراد جيلي لم يكونوا وقتها يفكرون في الاستقرار في بلدان الهجرة. أما دراستي العليا فقد تابعتها هنا في المغرب، خصوصا وأن تخصصي في الجغرافيا كان يفرض عليّ أن أكون موجودا في المغرب لدراسة جغرافيته، وليس جغرافية بلد أجنبي. - خلال السنة الموالية لالتحاقك بفرنسا للدراسة، نشبت حرب الرمال بين المغرب والجزائر؛ كيف كان موقفك كطالب شيوعي من هذه الحرب؟ من الصعب على الإنسان أن يعود إلى تلك الفترة ويحدد، بالتدقيق، كيف كانت مواقفه، ولاسيما أن عددا من الحقائق ظهرت لاحقا، منها أن حكام الجزائر سرعان ما اندمجوا في التصور الجيوسياسي الذي كان لفرنسا حينها، أي أنهم أصبحوا ورثة فرنسا بشكل مطلق، وبالتالي أصبحوا يرفضون أي نقاش حول الحدود مع المغرب، ولاسيما في الجنوب الشرقي؛ كما كانوا يسعون إلى الوصول إلى المحيط الأطلسي. هذه الآن أصبحت أمورا مثبتة بالوثائق، فقد أتيح لي مؤخرا الاطلاع على بحث قام به المؤرخ المغربي السي الجيلالي العدناني، قدم فيه وثائق مهمة، لم يسبق نشرها، تبيِّن أنه خلال الفترة السابقة على استقلال الجزائر كانت هناك مناورات من قِبل العسكر الجزائري للانسياق خلف التوجه الذي رسمه الفرنسيون منذ أن وضعوا أقدامهم في المنطقة.