عثر الروس، في ما أطلق عليه اسم المبادرة الرامية إلى جمع المعارضة السورية في موسكو وإعدادها للحوار مع نظام الأسد، على مناسبة استثنائية، ليعيدوا تعويم أنفسهم دبلوماسيا على الساحة الدولية ويجدوا الأرضية المشتركة للتعاون مع الغرب، لعل ذلك يكون مقدمة لإعادة إصلاح العلاقات الروسية الأمريكية المتدهورة. فالحقيقة أن الرهان الرئيسي لسلسلة الاجتماعات التي ستتولى تنظيمها روسيا، إذا نجحت الدعوة، ليس بقاء النظام ولا حتى القضية السورية بأكملها، وإنما الخروج من العزلة والطريق المسدود الذي وصلت إليه سياسة الرئيس بوتين. وبما أنهم غير قادرين على التنازل عن أوكرانيا لأسباب إيديولوجية وقومية ورمزية، فقد وجدوا أن أفضل ما يمكن أن يجمعهم مع الغرب هو بيع القضية السورية؛ ولا أعني بذلك أن لدى الروس الرغبة في التنازل عن سورية في مقابل تمسكهم بأوكرانيا، وإنما مساعدة الغرب على التغطية على رغبته في التملص من التزاماته تجاه الشعب السوري وإراحة باله من الانتقادات التي بدأت تتفاقم لسياسة أوباما، والغرب عموما، التي أدت إلى تراجع المعارضة الديمقراطية السورية، وحصول طفرة كبيرة لقوى التطرف والإرهاب العالمية على أراضي سورية والعراق، بسبب تردد الغرب في دعم الثورة السورية، وإجبار الأسد على التنحي، كما كان قد طالب منذ السنة الأولى للثورة. بمجرد قبول المعارضة السورية الالتقاء مع ممثلي النظام السوري، خارج أي إطار سياسي أو قانوني، وعلى أرضية ما سمي الحوار الوطني المباشر، ودون شروط، تكون موسكو قد ساهمت في دفن مفاوضات جنيف، وجميع قرارات مجلس الأمن التي تنص على مفاوضات رسمية واضحة، لها هدف محدد، هو الانتقال نحو نظام ديمقراطي، وآلية تنفيذية هي تشكيل هيئة حكم انتقالي تعد البلاد للحقبة القادمة، وشروط أساسية معروفة، في مقدمتها وقف إطلاق النار، وإطلاق سراح المعتقلين، والاعتراف بحق التظاهر السلمي، وتقديم المسؤولين عن الجرائم إلى المحاكمة. كل هذا سوف ينسى، ولن يبقى إلا ما يتفق عليه «المعارضون السوريون» الذين اختارتهم موسكو بالاسم، وحسب ميولهم واتجاهاتهم القريبة منها، ليفاوضوا بعضهم على حساب تهميش الشعب السوري وتغييبه، تماما كما فعل النظام من قبل، وتسليمه لتسلط أجهزة نظام القتل المنظم، دون شروط، أي دون غطاء سياسي أو قانوني تمثله قرارات الأممالمتحدة وبيان جنيف. ولا يعني ترك السوريين يتحاورون للوصول إلى حل، بدون رعاية دولية وقرارات ملزمة، في حرب يتدخل فيها العالم كله، وتخوض فيها إيرانوروسيا حربا طاحنة ضد الشعب واستقلال سورية وحريتها، لا يعني إلا شيئا واحدا هو استقالة المجتمع الدولي، وإجباره السوريين على القبول بمفاوضات بشروط الأسد، أي بالتسليم للقوة. الرابح الأول من هذا السيناريو هو الروس الذين سيمسكون، من خلال هذه العملية، بكل الأوراق، وسيتمتعون بهامش مبادرةٍ لا حدود لها تجاه الأسد والمعارضة والغرب معا، وسيفرضون الحل الذي يتماشى مع مصالحهم وتصوراتهم التي لم يخفوها على أحد في أي يوم، وهي أولوية محاربة الإرهاب، أي التمرد والثورة وحركات الاحتجاج، وحماية النظام القائم وأي نظام، باسم الدفاع عن مؤسسات الدولة، وهذا كان موقفهم قبل الثورة وخلالها وسيستمر بعدها. ولا يعيرون أي أهمية لاحتجاجات المعارضة على سياسات الأسد وطابع نظامه الأمني، لأنهم، ببساطة، لا يتصورون الدولة هم أيضا إلا مؤسسة أمنية، ولا يعترفون بحقوق الشعب الروسي، حتى يعترفوا للشعب السوري بحقوقه الأساسية. والرابح الثاني هو الغرب، وفي مقدمته الولاياتالمتحدة التي تنتظر الفرصة، لتتحرر من التزاماتها تجاه الشعب السوري، بعد أن تبين لها أن ثمن هذه الالتزامات أكبر من المقاطعة الاقتصادية، والمساعدة الإنسانية والكلمات الطيبة، والغرب غير قادر على ذلك، أوليس في وارد أن يقدم أي تضحية لصالح شعبٍ، لا يشعر تجاهه بأي تعاطف أو قرابة سياسية أو ثقافية أو إنسانية. ولن يستطيع أن يتملص من وعوده والتزاماته التي فرضت عليه في بداية الثورة، طالما استمرت المعارضة في التمسك بقرارات مجلس الأمن وبيان جنيف وآليات تطبيقه المتفق عليها. والمستفيد الثالث هو نظام الأسد الذي سيضمن، بهذه الحوارات الشكلية، تخفيف الضغط الدولي السياسي والعسكري عنه، وربما إعادة تأهيله، بدعم من الروس والعرب الخائفين من الإرهاب، الذي شجع عليه الأسد نفسه من قبل، مع تعديلات شكلية، بما فيها احتمال استبدال الأسد وبعض الشخصيات الكريهة المرتبطة به، لحفظ ماء وجه الغربيين، في حال نجحت موسكو في إقناع حليفتها طهران بإمكانية ضمان مصالحها الرئيسية من بدونه، وهي مصالح ليس بإمكان الغرب تحملها، ولا الحرب ضدها، ومحورها تصميم إيران على الاحتفاظ ب»جيش شعبي» في سورية، كما صرح بذلك نائب قائد الحرس الثوري، شبيه بجيش حزب الله في لبنان وأكبر منه. ما يحصل للحركة الوطنية الديمقراطية السورية، في كفاحها ضد نظامٍ لا تقل رعايته الدولية عن التي حظيت بها، ولاتزال، المنظومة الصهيونية في فلسطين، هو طبق الأصل لما حصل للحركة الوطنية الفلسطينية عندما تخلت عن قرارات مجلس الأمن والأممالمتحدة، مرجعية لمفاوضات السلام، وتركت مؤتمر مدريد عام 1991، وبحثت عن «اختراق» من خلال قناة أوسلو السرية، والتي لا تخضع فيها المفاوضات لأي مرجعية قانونية ولا تلتزم بأية ضوابط دولية. وكانت نتيجتها كارثة على حلم الدولة الفلسطينية، بمقدار ما أدخلت المفاوضات التي بدت واعدة، في البداية، في نفق لم تخرج منه حتى اليوم، مكّن تل أبيب من التحكم في مسارها وأجندتها واجتماعاتها، وتحولت فيها القضية الفلسطينية إلى مسألة ثانوية في السياسة الدولية، وتحررت فيها الولاياتالمتحدة من التزاماتها، وغسلت بفضلها إسرائيل من كل خطاياها وجرائمها التاريخية. ينبغي للمشاركين المحتملين في اجتماعات موسكو أن يدركوا أن أي خروج عن إطار جنيف يعني تحرير المجتمع الدولي من التزاماته تجاه الشعب السوري المنكوب، وتركه فريسة لمحور الأسد إيرانروسيا يستفرد به، مع مباركة الغرب والولاياتالمتحدة وتشجيعهما. وكل قبول من المعارضين السوريين بالأسد شريكا في مشروع إنقاذ سورية واستعادة السلام والاستقرار فيها، بعد قتله المنهجي والمتعمد مئات الألوف من أبناء الشعب السوري، وتشريده الملايين منهم، وتدمير شروط حياتهم الحاضرة ومستقبلهم، يعني غسل النظام وتبرئته من جرائمه؛ ويعني، أكثر من ذلك، تجريم الثورة والمعارضة، وتحميلهما المسؤولية في الجرائم التي كان الأسد ونظامه المسؤول الأول عنها، سواء تعلق الأمر بالتي ارتكبها مع ميليشياته مباشرة أو التي دفعت إليها سياساته العدوانية والإجرامية. أخيرا، لا أعتقد أن العالم قد عرف معارضة قبلت بأن تفاوض عدوها، والمسدس على رأسها، ونجحت في تحقيق أدنى نتيجة لشعبها. وكم سيكون من المهانة أن يقبل معارضون سوريون، أو من يطلقون على أنفسهم هذا الاسم، الدخول في حوار أو مفاوضات مع نظام لايزال مستمرا في قصف المدنيين بالبراميل المتفجرة، لقتل المزيد منهم، وارتكاب مجزرة مرعبة كل يوم، يذهب ضحيتها مئات الضحايا بين قتلى وجرحى ومعطوبين مدى الحياة. على الأقل، وحتى لا تظهر بمظهر العجز والذل والتسول على الحل السياسي من خصم لم يتعامل معها ومع الشعب كله، خلال نصف قرن، إلا بالسلاح، ولم يرحم طفلا ولا شابا ولا شيخا، ولم يتردد في محاربة شعبه بالسلاح الكيماوي، من واجب المتحدثين باسم المعارضة، مهما كانوا، وحفظا لكرامتهم الشخصية، حتى لا نقول احتراما لدم الشهداء والضحايا، أن يرفضوا الجلوس على مائدة مفاوضات إلى جانب المتهم، رسميا، بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، من منظمات حقوق الإنسان، وأن يعلقوا مشاركتهم بوقف النظام استخدام البراميل المتفجرة والأسلحة الثقيلة ضد المدنيين، مع العلم بأن الأسد خلال كل تاريخه، ابنا عن أب وأبا عن جد، لم يحترم كلمةً، ولم يعرف معنى الالتزام ولم يف بوعد. سيسأل بعضهم ما هو الحل إذا كان اجتماع موسكو ينذر بأوسلو سورية، تقود إلى التنازل بعد دون نتيجة، وإلى المقامرة بتضحيات الشعب الهائلة؟ الجواب بالتأكيد ليس في الدعوة إلى استمرار الحرب، وإنما في التمسك بمبدإ المفاوضات القائمة على أسس متينة، تقود، بالفعل، إلى حل يضمن، في الوقت نفسه، استمرار الدولة ومؤسساتها، وتلبية الجزء الرئيسي من مطالب الشعب، وفي مقدمها حقه في تقرير مصيره بحرية، ووضع حد لحكم الوصاية البوليسية، ورهنه الدولة لمشاريع الهيمنة الإقليمية والدولية. وهذا ليس هدفا صعبا ولا مستحيلا، ولا حتى بعيدا، فالنظام قد هلك تماما، وكذلك حلفاؤه الذين يواجهون أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية متفاقمة. ونحن، اليوم، في مرحلة عض الأصابع الأخيرة. والشعب السوري الذي خسر كل ما كان بإمكانه أن يخسره وما كان بإمكان أعتى أعدائه أن يكبده إياه، هو الأقدر والأقوى على الصمود، وإجبار خصمه الهمجي، مهما كان لؤمه، على أن يكون الأول في الصراخ والاستسلام. والشعب الذي قدم ما حيّر العالم من تضحيات، وما واجه من تحالفات، وما عانى من خيانات، هو الذي سيصمد، وستكون له الكلمة الأخيرة، ولن يقبل بغير الكرامة والحرية والنصر. برهان غليون