ما الذي يدفع مليارديرا فرنسيا إلى الاستثمار في قطاعٍ ثمارُه الربحية ُغير مضمونة؟ ربما المغامرة التي تطبع سلوك المستثمرين عموما، وربما الحس الإنساني الذي يفتقده معظم المستثمرين في مجتمعاتنا العربية. كزافييه نيل ثري فرنسي عصامي، قرر الاستثمار في المستقبل، فأنشأ مدرسة خاصة، لكنها مجانية، لا تمنح شهادات علمية بيد أنها تضمن للمتخرج عملا بأجر يبدأ من 45 ألف يورو سنويا. اسم هذه المدرسة النموذجية Ecole 42، وتقوم فكرتها البسيطة على إلغاء كل مكونات المدرسة التقليدية من معلم وأوراق وطباشير.. مدرسة شرطُها الوحيد: الرغبة والمثابرة، لا تعتمد على مقررات نظرية جامدة أو نظريات بيداغوجية متكلسة؛ هي، باختصار، مدرسة المستقبل النموذجية، أساسُها العمل المشترك. الطلاب هم الذين يحددون التوقيت ونوع المشاريع التي يشتغلون عليها، أبوابها مفتوحة 24 ساعة في اليوم، سبعة أيام في الأسبوع وطيلة أيام السنة بدون انقطاع. فلسفة الثري كزافييه بسيطة، وتتلخص في أن "الدبلوم" لا يضمن النجاح في سوق العمل. هو نفسه كسب مليونه الأول في صناعة الأفلام الإباحية، وكسب ملياره الأول في شركة للاتصالات، وهو الآن المالك الرئيسي لأسهم إحدى أكبر الصحف الفرنسية. هل هو انتقام من طرفه من الثلة المثقفة التي تستثمر في لغو الكلام دون أن تضمن لنفسها ثمن إيجار شقة؟ على أية حال، فإن صاحب هذه المدرسة النموذجية، التي فتحت أبوابها في بناية عصرية بباريس، عين لها مديرا معروفا في الأوساط التعليمية، واسمه نيكولا ساديراك الذي كان مديرا لمدرسة عليا يرتادها أبناء الذوات، والآن يعيش نجاح هذه التجربة عن قرب، بحيث وصلت طلبات الالتحاق بمدرسته إلى أكثر من 70 ألف طلب، بينما المدرسة أنشئت لتستقبل حوالي ألف طالب فقط. وأمام هذا الإقبال الكبير، يتم القبول بناء على مقابلات قبْلية لكشف مؤهلات الطالب ومدى جديته في إكمال المشوار الذي يستمر ثلاث سنوات. كزافييه نفسه لم يتعد تحصيله العلمي المستوى المتوسط. لا يعقده هذا الأمر، ويستشهد بحالة بيل غيتس الذي لم يكمل هو، أيضا، مساره الأكاديمي، إلا أنه غيّر وجه العلم والعالم. وعلى سبيل الإثارة والاستفزاز، اشترى حقوق الأغنية الأسطورية لفرانك سينترا "هذا طريقي" (My Way) وكأنه يريد أن يقول لمن ينظر إليه نظرة استغراب: "هذا طريقي أنا، فدلوني على طريقكم أنتم"، وخاصة أولئك الأثرياء الذين ورثوا مجدهم المالي عن آبائهم. يخصص كزافييه جزءا يسيرا من عائدات ثروته، المقدرة بسبعة مليارات يورو، لتمويل هذا المشروع الناجح؛ كما أن بيل غيتس يخصص، عن طريق المؤسسة التي تحمل اسمه، بعضا من ثروته الضخمة لمكافحة الأوبئة في العالم الثالث. كزافييه صدمته أرقام المنقطعين عن الدراسة في بلده.. أكثر من 150 ألف تلميذ يغادرون مقاعد الدراسة مبكرا لأسباب متعددة، منها الأنظمة التعليمية التقليدية التي لا توائم متطلبات العصر. لهؤلاء يريد توفير فرصة الإبداع والعطاء بطريقة أخرى أكثر حرية، وبالتالي أكثر إبداعا. أحد الطلاب يعلق للصحافة قائلا: ما تعلمته هنا خلال سنة لم أتعلمه طيلة حياتي! إنها الثقة في النفس والرغبة في العطاء دون قيود. هل هذه الفكرة قابلة للتطبيق في بلد آخر مثل المغرب؟ بدون أدنى شك، لكن شريطة توفر هذه العناصر أولا: مستثمر ذو ضمير حي، بيئة حاضنة للإبداع، قطاع خاص متضامن وعقلية منفتحة. إبان عهد الحماية، وكرد فعل على المدارس الأجنبية، أقدم سياسيون شباب على إنشاء مدارس خصوصية تقدم تعليما بديلا من وجهة نظرهم. كانت تلك الخطوة نوعا من النضال السياسي والمقاومة السلمية. والآن، ومع تهاوي المنظومة التعليمية في المغرب برمتها حتى أصبحت مضحكة أمام العالمين، أنشئ مجلس أعلى للتعليم والبحث العلمي لتشخيص الأمراض وتقديم الوصفات العلاجية. إلا أن الإحساس العام لدى الأسرة التعليمية في المغرب هو أن هذا القطاع التعليمي لا أمل في شفائه، في ظل غياب استراتيجية مستقبلية واضحة المعالم، وأمام الموت السريري لضمير القطاع الخاص الذي يتنافس فقط على مأذونيات استغلال الحجر والرمل والزفت.