عبد السلام الصروخ اخترنا محاورة الدكتور حسن الطريبق في ملف السجالات الثقافية، باعتباره شكل "نقطة ارتكاز" و"الهدف المفضل" في حرب إيديولوجية وسياسية اتخذت لبوسات نقدية أدبية وإشكالات ثقافية -لم تكن مفتعلة- ولكن اقتضتها ضرورة المرحلة الممتدة من بداية السبعينيات إلى بداية التسعينيات، عبر جريدة «المحرر» -«الاتحاد الاشتراكي» بعد ذلك- التي كانت المنبر الأثير للمثقفين اليساريين والتقدميين، وجريدة "العلم" عبر ملحقها الثقافي، وهي الجبهة التي منها كان يرد حسن الطريبق على القصف العنيف لهؤلاء، بقصف مضاد وغير متكافئ لأنه كان يقاتل وحده، فيما "مثقفو حومته " كانوا يغرقون في صمت غير مبرر. إلا أن هذه المرحلة ورغم عنفها، فقد شكلت مرحلة مزدهرة، ودينامية مشهودة في الاهتمام الإعلامي -رغم حزبيته- بشأن الثقافي الذي حظي بأولوية لا مثيل لها في تاريخ الصحافة المغربية مند نشأتها حتى الآن. - كيف تصدرت المشهد السجالي منذ 1973 وعلى امتداد عشرين عاما، وكنت في موقع الصدارة أو المواجهة؟ السجالات جاءت عفوية، وقد عشتها ضمن الكوكبة الثقافية المغربية في صورتها العامة، حيث كانت تتحرك وتعطي عطاءها، الذي كان يختلف ويأتلف في بعديه السياسي والثقافي، وكانت بعض أعمالي قد تعرضت للنقد، وكنت أصغي إلى ما يقال وأقرؤه بإمعان وأقتنع، حسب وجهة نظري، بالسليم الطوية ومستقل القصد، لأستفيد منه، تسليما بقول القائل: «إذا مر بي يوم ولم أتخذ يدا ولم أستفد علما فماذا كان من عمري؟». كما كانت هناك كتابات أخرى تعرضت لتجربتي ببعض الغمز واللمز، وتجاوزت بعض الحدود، وفيها إسقاط لتفسيرات لم أكن مسلما بها لأنها خارجة عن نطاق الاستقامة الثقافية بمفهومها الأخلاقي، ومن ذلك نوع من الأخذ والرد والطرح والجواب عن الطرح، فكانت تلك السجالات النقدية، واشتد أوارها وتقوت شوكتها وتعددت الأسماء المشاركة فيها، وجاء العامل السياسي ليطغى على العامل الثقافي بطريقة لا أقول إن فيها نوعا من الاهتبالية والتجاوز، ولكن فيها نوع من عدم الطوية في طرحها بدوافع سياسية وإيديولوجية، كانت ولا زالت تتبرعم في صورتها الفكرية، إنما كان فيها هائج ومائج وعلى نوع الرغبة في الإيقاع بالخصم السياسي، مع العلم أنه لم يكن عندي قصد لذلك، فاشتد أوار هذه السجالات، وكنت أحس بنفسي وحيدا أمام جيش عرمرم من مثقفي اليسار ومن غير مثقفي اليسار من اليمين المتطرف، الذين كانوا يسمون بالأحرار وغيرهم، حيث اجتمع أهل مكة والمدينة ضد حسن الطريبق. - قلت إن الأمر جاء عفويا، إلا أن مجموع تلك المقالات والسجالات شكلت نوعا من الاصطفاف الإيديولوجي والسياسي بين معسكر المحافظين الذي مثلته، ومعسكر الاشتراكيين أو اليسار، إذ بدا المشهد «واعيا» من حيث مواقع الصراع وليس عفويا. الصراع السياسي صراع مشروع، ومطلوب أن ينتصر الإنسان لإديولوجيته، ولم يكن ممكنا أن ينجر الإنسان إلى الثقافة ليجرها من عنقها، فهناك حدود وقيود للثقافة بمفهومها الحضاري، من حيث عدم الاعوجاج في الشأن الثقافي، بل يجب التسليم بالحقيقة، وعدم الغلو في الإيديولوجيا، فكان شكل من أشكال البدونة الثقافية على شاكلة: كل الذي ليس من دربي يجب أن يحطم، وكل ما هو من دربي يجب أن يسيد، هذا هو المنطق الذي كان، وأنا كنت ضد هذا، وإلا لكان الأمر يتعلق بالمسائل الثقافية فقط. لقد كنا جميعا في الكليات نقرأ ونتلقى الأشياء الجديدة ونستروح الرياح الجديدة أيضا، سواء كانت يسارية أو يمينية. كنا على انفتاح، ونحاول أن نجدد أساليب حياتنا ووعينا وثقافتنا وتوجهاتنا في السياسة، ومن تلك الكوكبة التي واجهتني وكانت معي في الجامعة: أحمد المجاطي (المطاعي كبور) والطاهر بنجلون ونجيب العوفي ومحمد بنيس وإدريس الودينوني الذي هو إدريس الناقوري وإلياس إدريس، الذي أشك أن الأمر يتعلق بمحمد برادة. وجميعهم أدخلتهم في جنة الميز، فهم من الذين اصطفتهم «التعاونية النقدية الاشتراكية»، حيث وجدت نفسي معرضا لحصار من اليسار، مع أنني ناشئ في بيئة ومستوى مادي وثقافي متساو، حيث لما لم يجدوا الثور الهائج المائج الذي يغرسون فيه سيوفهم ونبالهم إلا وجدوا حسن الطريبق. - لماذا كنت وحيدا في هذه المعركة؟ كانت لي قناعة بأنني أدافع عن مشروعية ثقافية شخصية. - ألم تكن حزبية أو إيديولوجية؟ كنت أدافع عن مشروع ثقافي، ولم أكن من الغلاة المتعصبين، حيث لم أتول أي مسؤولية سياسية في حزب الاستقلال إلا مرة، بكيفية مؤقتة، هي مفتشية حزب الاستقلال بالعرائش والقصر الكبير، خرجت سريعا منها، بعد أن وجدت نفسي لا أطيق هذه المهام، وقد توليت ذلك في مرحلة متأخرة. ولذلك لم أكن أباشر الثقافة من خلال السياسة، وإنما أمارس السياسة من خلال الثقافة، وهذا لم يكن له من داع يجعل خصومي... - (مقاطعا) لكنك كنت ناطقا رسميا لمشروع ثقافي محافظ «مضاد للآخر» الاشتراكي التقدمي. فلنفترض أنني كنت في موقع وفي وجهة لا ترضي، فأنا مثقف حر، غير خاضع للتحكم، ثم إنني أمثل طبقتي، وطبقتي لم تكن تنزل على ظهر الشمس لتضيء. كنت متواضعا، بدأت عملي معلما في الابتدائي والثانوي، وتدرجت عن طريق الامتحانات، وكنت أخشى أن تقع ورقتي بين يدي أحد أولئك المتعصبين المسيطرين على الكليات، فكنت أتجنبهم، باستثناء الأساتذة الشرقيين أو الذين ليس لهم اصطفاف اتحادي. حيث كانت المسائل تتعلق بنوع من الخشية وبنوع من التدبر والهروب من مواجهة المواقف. لقد كنت حرا في الطرح، ولم يؤثر ذلك في توجهاتي السياسية والفكرية، ولا زلت مقتنعا، من الناحية الثقافية والسياسية، بأني مواطن حر في وطن حر، كمضمون وليس كشعار، لأن من كانوا ينتمون إلى اليسار لم يكونوا كلهم على قناعة بتلمود الماركسية، بل كانوا أحرارا أيضا. وكل أصدقائي، بالمناسبة، كانوا من اليسار. فالمجاطي والإدريسي كانا لا يفارقاني عندما كنت آتي إلى الرباط. إذ كنت على علاقة طيبة معهما، وكانت الواسطة هو محمد الخمار الكنوني، رحمه الله، الذي كنت أجتمع به وبهم. كانت هناك أشياء مضحكة تقع في هذه الاجتماعات، حيث كان المجاطي يأتي وفي جيبه مقالة عني، وكان هناك من يجيئني ليشي لي بذلك، فيما كان الجواب عن مقالته في جيبي. رغم ذلك كنا لا نتناول هذه المسائل، التي تظل مسكوتا عنها إلى أن تطلع في الملاحق الثقافية. - كان المجاطي هو المطاعي كبور؟ نعم كان المطاعي كبور هو المجاطي، والبشير الودينوني هو إدريس الناقوري، الذي خرج من زمرة اليسار وذهب إلى التوجه الإسلامي. - كنتم أصدقاء. نعم، وزملاء في الجامعة. ومنهم من كان لا يزال يدرس كنجيب العوفي، وقد التقينا مرارا وتكرارا في مواقف طيبة نبيلة. أتساءل: هل كان الأمر – الذي كان يُكتب – بغير إحساس لدى بعض الإخوان؟ هل كانوا يقومون بوظيفة ما؟ أم ماذا؟ أنا عانيت في إخراج هذه المساجلات في مجموعتين - بما لا زال يتوفر عندي وقد ضاع منها الكثير- راجعتها معتمدا على قناعتي ويقيني، وعند إعادة قراءتها وجدت أنها تعكس حقيقة مهولة، لأن كثيرا ما كُتب من طرف الآخر كان مجرد مواجهة أريد بها نسف النقاش – بغير ما قصد – لمحاسبتي على موقف. - سياسي أم ثقافي؟ موقف ثقافي وأخلاقي. فالسياسة أباحت الكثير من الحرمات. ففي تعليق لأحد الأساتذة، قال: ما قاله الشاعر ينطبق على هؤلاء: وراكب بغل عنده عقل بغله/ يسير به فيما يريد بجهله فأنا لا أقول هذا، ولكن قد أقول شيئا من هذا. - يلاحظ على هذه السجالات أنها كانت بها جودة في الأفكار وفي الأساليب وفي المطارحات. عندما يأتي شخص ويكتب باسم مستعار، فهو يتحلل من نفسه ويحجب حقيقته «فالمطاعي كبور» الذي هو أحمد المجاطي - وهو صديق عزيز رحمه الله- عندما كتب عني كتب كثيرا من الخزعبلات خارج نطاق الثقافة، فمثلا (..عقد حسن الطريبق صفقته مع علال الفاسي ليكتب له مقدمة ديوان ما بعد التية..). هذا نزق. الرجل (يقصد علال الفاسي) قمة من قمم الفكر وزعيم سياسي، وقد سلم بذلك عبد الله العروي، ونسلم كلنا بذلك. ويشير أيضا إلى عبد الله كنون بمثل هذا الكلام - هؤلاء أناس كبار وأخلاقهم كبيرة. حتى في ذكر أبي المحاسن الفاسي ودوره في معركة وادي المخازن والذي جاء ب15000 (خمسة عشرة ألفا) من المتطوعين من منطقة اجبالة ليحاربوا، وعندما انتهى ذهب إلى الزاوية ولم يطلب سلطانا ولا وظيفة ولا فضلا، لأنه رجل صوفي. كان يقحم هاته الأشياء في هذا النوع من المعارك، فهو عندما وضع اسما مستعارا لم يعد يحاسب نفسه، ولذلك أفسد بعض النقاش، حيث جعلني أتتبع بعض الثنايا التي لم تكن مطلوبة في النقاش الثقافي، ولكن لا بد من توضيح ما يجب أن يوضح. لقد كان هناك نزق، أقول ذلك بكل مسؤولية، لأن الإنسان يجب أن يقول الحقيقة أو يصمت. نحن لا يمكن أن نزيف الحقيقة أو نحسنها. يقول داماسو ألونسو: « La sermetria como la diamante multiplia la realidad » التناظرية مثل اللؤلؤ تضاعف الحقيقة .. فيكون الأمر يتعلق بفانوس، فيصير فوانيس عديدة. لهذا، فالمجاطي ونجيب العوفي -عفا الله عنه- وهو من جيل لاحق قريب الخطى، قد يتحملان نوعا من مسؤولية إفساد هذا النقاش. أنا لم أرجع إلى النماذج القديمة إلا لإثارة بعض الأحماض المستخرجة من الليمون العربي الأصيل ليس إلا. نحن ننفتح على الجديد ونبحث عن الاندماج فيه، وكما قال دوستويفسكي: «أنا أصاحب الشباب الصغير لأتعلم منه». الإنسان يتعلم من الجيل الآتي حتى في الحياة اليومية . - ألم تكن مسنودا من قبل زملائك في الحركة الحزبية؟ لقد وقع لي سجال مع عبد العالي الودغيري، وهو من حومتي، وهذا منشور وسيصدر في الجزء الثاني من الكتاب. - أنا أقصد أنه لم يدافع عنك أحد من أقربائك الحزبيين من مثقفي المرحلة كعبد الكريم غلاب وعبد الجبار السحيمي مثلا. لماذا كانوا صامتين تجاه هذه المواجهات؟ لم أكن أنتظر من هؤلاء أن يدخلوا هذه المعركة (تقضينا لعواد على ولاد باب لواد). كنت أمثل نفسي ومكتفيا بنفسي، فأنا لم أكن في المعركة لأدافع عن حزب الاستقلال. كنت أدافع عن مبدأ أعتقده – من العقيدة – وأحس بنفسي من زمرته، وأتكفل بما ينوبني فيه، وما ينوبني فيه هو أنهم يتناولون أعمالي الأدبية، فلم أكن في حاجة إلى سند ولم أطلب الاستغاثة لأنني لم أكن في معركة حرب. مرة كتب نجيب العوفي: لعل طمعا عندي في نفسي عندما أهش على أصحاب الكراسي - إلى غير ذلك من مثل هذا الكلام- فأجبت أنني أستاذ وسأبقى كذلك، ومن كان له طمع في أن يصل إلى شيء فذلك موجود، فأنا لم أتملق أو أتجه نحو ذلك أبدا، وبالمناسبة فقد عرض علي منصب «ملحق ثقافي» بالعاصمة الكوبية هافانا سنة 1978، فرفضته بإصرار، واعتبرت أن الأمر يتعلق بمنفى. كان هدفي هو العمل في التعليم، وحتى لما انتهيت منه لا زلت أعتبر نفسي أعمل في هذا الميدان، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بالقياس إلى امتداد حبل حياتي، لذلك لم أكن طامعا في المساندة، بل إن بعض الإخوة كانوا يتبرمون مما يحصل مني باعتبار أن يكون السكوت الآسن كالبركة هو المهيمن على الجو، ثم إن هناك كثيرا من الحزبيين كانت لهم علاقة حزبية غرضية وأنا لم أكن من تلك الطينة. - ألا تعتقد أنك كنت الوجه الذي يمثل امتدادا لمفكر تقليدي هو علال الفاسي، وبالتالي فتصديهم لك جاء كعملية قتل رمزي لأحد الآباء، الذي هو علال الفاسي؟ علال الفاسي كان قمة من القمم التي يفتخر بها المغرب في الشعر والثقافة وكل شيء يتعلق بالمقاصدية، فكتابه «مقاصد الشريعة الإسلامية» فريد من نوعه لأن من كتبوا في المقاصد هم اثنان فقط: علال الفاسي وبنعاشور في تونس. وإلى الآن لم تأخذ المقاصدية حقها، مع العلم أنها شيء تدبيري يتعلق بتعلم الأشياء في نطاق تنظيم التناول المقاصدي في الإسلام بكيفية موضوعية، قائمة على استقطارات علمية دقيقة جدا وجديدة في موضوعها، وتثار لكي تعمل على خلق استرواح جديد في الاعتقاد والتمذهب الإسلاميين. لقد كتب في مجالات متعددة: الوحدة العربية والمغاربية، الشعر، النقد، التاريخ، التفسير، وفي كثير من المجالات الاجتماعية والسياسية. إنه دائرة معارف وفلتة من الفلتات، فهو لا يحسب على حزبه وإنما يحسب على ثقافة جيله، ولهذا فهو فوق التصنيفات التي تعطى في السياسة، لأن السياسية تقوم على أشياء رخيصة (...) الإيديولوجية أحيانا تدخل فيها السياسة وتعود مصطبغة بلون صاحبها، وإنما لا تبقى إيديولوجية على فقراتها المتعلقة بالتمذهبات وبالأهداف التي تتحق منها، وإنما تعود فيها التباس (كتولي حرامية شوية). ليس ذلك مقتصرا على الاستقلال أو الاتحاد الاشتراكي وإنما في كل التوجهات السياسية، لأن الناس يقومون في سعيهم على مصالحهم، ولهذا لم أكن من هذه الطينة. أنا من طينة الذين يتناولون الأمور التي تعرضت إليه في النقد والإعراب والسعي إلى الإذاية، أنا رجل مثقف، أرتبط في تكويني بالثقافة ووصلت المرحلة الأخيرة من عالم الطالبي، وهي دكتوراة الدولة، وهذا حقي، وأنا لم أفعل ذلك إلا لإعراض عن حضور وظيفي في العمل، أما الحضور الثقافي والفكري فأنا أمتحن نفسي الآن في هذه السن – سن العنقاء– وأنا الآن أبحث عن مواقع جديدة لأنني أعمل كي أكون متزامنا، أي متنقلا بين الأزمنة عملا بقول الطيب المتنبي : لماذا الذي كان مازال يأتي/ لأن الذي سوف يأتي ذهب وما يذهب نحن نعوضه. هذا قول كبير. أنا أعتقد أن المتنبي سبق بقوله هذا يونيسكو في «المغنية الصلعاء». لقد سقت هذا كمثال على علال الفاسي وعلى القامات الكبرى التي تعطي أكلها وتعطيها غدا. توجد كثير من العناصر الطيبة في المغرب كعبد الله العروي في فلسفة التاريخ وهذا شيء يذهلنا. إنه رجل عظيم جدا. كذلك المهدي المنجرة، رحمه الله، في المستقبليات. يجب أن نفسر الأمور على قدر ما تكون عليه هذه الأمور. ميزاننا لا يجب أن يجنح بنا من المعرفة إلى الإيديولوجيا. - حول إصدارك الذي هو قيد الطبع، ما هي الرسالة التي تود إيصالها من خلاله؟ لقد كتبت مقدمة مكنتك منها، وهي تفسر بأنني مقتنع تماما بسلامة ما طرحت، ليس تعصبا وليس تمسكا بميراث أبي أو نفسي لأرث نفسي، وأبني على ذلك حكما على أن هذا الذي صدر مني هو سليم بالمطلق. أعمالي نسبية، ولكن في نسبية ما أعطيت أجد راحتي بأني ما زلت متمسكا بالفكر الذي طرحت، وبالملاحظات وبالتدقيقات التي جاءت. ولذلك طرحت السؤال على نفسي: هل هذا يقدم إلى القراء الآن؟ نعم، وجدت أنه ينبغي أن يقدم إلى القراء لأن فيه سجالات متعددة، وهذه إجابة مني عما طرح وعما ووجهت به، وأتمنى أن تجنح الجهات الأخرى في «الاتحاد الاشتراكي» وغيرها من المواقع إلى إصدار تلك السجالات لأن ذلك يفيد، والتلاقح الفكري لا يحصل إلا بالنقاش. أعتقد أنني حاسبت نفسي محاسبة عسيرة. للأسف ضاعت الكثير من المساجلات، وأتنمى من طلابنا أن يبحثوا عنها ويضيفوها. إن ما استطعت استخراجه يتجاوز ثمانمائة صفحة أو أكثر. ولهذا فما طرحته يشكل مرجعية أساسية في الرسم البياني للحركة الثقافية النقدية في تطورها الإديولوجي. - ألا تصلح هذه الخلاصة عنوانا لهذا الإصدار؟ أنا وضعت عنوان : «السجالات النقدية بين حسن الطريبق وبين مخالفيه ومؤالفيه» لأن فيه الطرفين معا، وقد كنت محورا ونقطة الارتكاز التي عليها اجتمع أهل مكة والمدينة. - باستثناء الذي جاء في تقديم هذه الإضمامة، لماذا لم تعلق أو تناقش بعض الأفكار وتحيّنها في ثنايا هذه الكتابات؟ لقد شرحت ذلك في التقديم، وقلت إن الكثير مما جاء في هذه السجالات هو تتييه للحقيقة، وتعبيث للنقاش، وليكون القارئ مدركا للحقيقة، لأن نوايا الناس ودوافعهم شتى. لذلك لم تكن المناقشة التي حصلت على امتداد أزيد من عشرين سنة لوجه الله أو لوجه الشيطان، وإنما تأخذ من الله قليلا ومن الشيطان كثيرا. ولهذا توجهت بنوع من القناعة الأخلاقية الموضوعية إلى أن أجيب، وأنا أعرف ما تنطوي عليه الكثير من الكتابات عندما تتحدث عن أمور تتعلق ب (.. قطعة أرضية اشتراها أو اكتراها من البلدية..) أشياء مضحكة جيء بها إلى هذه السجالات، بل غريبة، وإثارة هذه المسألة في النقد ينال من النقد. لهذا قلت: تعبيث النقاش. الإنسان يتستر على اسمه ويأتي بالعجب العجاب في قوله. - هل تتوقع بعد صدور كتابك هذا ردود أفعال من الأطراف التي كانت منخرطة في هذه المساجلات؟ هذا تراث نُشر وجمعته، وهو في ملك الجميع، والفضيلة التي لي هي أنني جمعته، ومنه ما سيخرج للقراء. هذا ملك للمجتمع المغربي الثقافي كله، ومنهم الإخوان الذين أتساجل معهم، منهم الطاهر بنجلون ومحمد شكري وإبراهيم الخطيب وكل الذين ذكرتهم سابقا وغيرهم. إن فضيلتي هي أني آتي بما عندي، وهو يشير إلى ما عند الآخرين، وتسهل مسألة الرجوع إليه. ولهذا فالأمر يثير الفضول، خاصة أن طلبتنا الآن ينزعون إلى البحث في تراث أمتهم قديمه وجديده وما بينهما. لذلك أعتقد أنني قمت بعملية استرجاعية، وهذا صدى لصوت. الصوت كان والصدى بقي ليتردد بعده. وأعتقد أن مراجعة هذا الكتاب ستفتح العيون على الكثير من الحقائق وكثير مما كانت المرحلة حبلى به.