من هو المثقف؟ لا يتحدد المثقف بوصفه مشتغلا بالروح أو الذكاء، إذ الميكانيكي الذي يصلح محركا يشغل عقله دائما، بل و أكثر من المثقفين. ولا يمكن أن يكون المرء كاتبا، فيلسوفا، أومحاميا أو أستاذا حتى يصير مثقفا. يموقع الإنسان نفسه مثقفا بتدخله في الفضاء العمومي، من خلال الأفكار وخلفها حول مشاكل العمق، خصوصا تلك المتعلقة بالمدينة، بالمجتمع، مثلا: إميل زولا Emile Zola هو روائي، بيد أنه عندما يكتب «أنا أتهم» في صحيفة (لورور) لتوجيه الاتهام إلى النقيب دريفوس هنا يكون مثقفا، لأنه يدافع عن الحقيقة في مواجهة الكذب، وعن العدالة في مواجهة منطق الدولة. وفي الوقت ذاته، حينما ينزل الفلاسفة من أبراجهم العاجية أو حينما يتجاوز العلماء مجالات تخصصاتهم من أجل الدفاع عن الأفكار ذات القيمة المدنية آنئذ يصيرون مثقفين. أما فيما يتعلق بي تحولت إلى مثقف لما أعلنت عن مواقفي تجاه حرب الجزائر أو الثورة الهنغارية لعام 1956، ومازلت، طيلة حياتي، أتدخل في المشاكل السياسية ذات العمق. العلاقة مع باقي المثقفين بالرغم من كوني لا أريد إحباطكم، فالكثير أحسوا بذلك، من خلال مواقفي المعقدة، فلا المتمذهبين ولا المانويين بوسعهم تقدير مدى تعدد المظاهر بالنسبة للمشكل الواحد . أنا في اليسار، وعلى طريقتي، معناه ،أني مخلص للأفكار العظيمة: للأخوة،الحرية،غير أني لا أجد نفسي في أي من هذه الأحزاب التي ترمي إلى تجسيد «اليسار» . أكرر أني لا أومن ب «اليسار» معنى ذلك لا أومن بذلك الرابط المحدد الذي يجمع بشكل مبالغ فيه بين الاشتراكيين والشيوعيين . من المؤكد كان بينهما وحدة تكتيكية، بيد أنه في التاريخ برزت صراعات بلغت حد الموت بين هذين التيارين. أرى أن أحزاب اليسار هاته بها معاناة، كل على حاله، إذ ليس بمقدورها اليوم، مواجهة تحديات القرن الكبرى. وأعتقد، شخصيا، أني أريد أن أقدم إليهم فكرا مجددا وذلك بكتابة مدخل لسياسة الإنسان، الأرض والوطن،من أجل سياسة للحضارة دون تأثير... ففيما مثقفو اليسار، الكثير منهم ، -وضمنهم أنا أيضا- وإلى زمن قريب كنا نؤمن بالاتحاد السوفياتي و آخرون بالصين الماوية، وكثير منهم أحبطوا فغيروا مواقعهم، ومع ذلك فهم لم يشرحوا لنا لماذا أخطأوا ولاهم حاولوا الحد الأدنى من النقد الذاتي . هناك كذلك خطر الإفقار حينما تحول مثقفو اليسار إلى طائفة واعتقدوا أنهم توصلوا إلى الحقيقة وتجاهلوا أكثر مواقفهم الأصيلة المتجسدة في احتكارهم للنقد الذاتي. في هذه الحال يتعارض «المفكرون مع المثقفين» فسقراط عارض السوفسطائيين مثلا، روسو عارض فلاسفة الأنوار، وماركس عارض مثقفي عصره . إذ المفكر، في الآن ذاته، هو ضمن و خارج العالم الثقافي ورغم أخطاء المثقفين إلا أنهم ينهضون بمهمة ضرورية، بحيث يبقى دورها محصورا من طرف الخبراء والمتخصصين من كل الأصناف . تقتضي هذه المهمة حصر الإشكالية الأساسية والعامة التي تنحجب عنا اليوم تماما،بحيث، إن الذكاء المتخصص للخبراء يعجز عن الفهم . Pierre Bourdieu جل علماء الاجتماع يعتبرونني مهمشا، بل وغريب الأطوار، إلا أنهم لا يهاجمونني، فبيير بورديو لا يهاجمني، ربما لأنه وعلى نحو ما يشبهني كثيرا في الوقت ذاته أختلف عنه كثيرا. يسود الاعتقاد أننا عدوان، متنافسان في السوسيولوجيا. أما أنا فلم أحس بذلك. يسبب له حضوري كثيرا من الظل، أما أنا فحضوره لم يكن ليزعجني، ما كان يؤلمني حقا تواضعه. فقد حصل ذات مرة أن رددت على تهجماته، من خلال اللعب بالكلمات إزاء نص كان قد كتبه ضدي بمعية باسيرون (لعب باسمي باسرون وبورديو/ المترجم) هذه الأخطاء تمضي بسعادة،دون ريب، فإن نظريته الاجتماعية والتي أعتبرها أحادية، قد اشتهرت لوقت .ربما أضفت إلى ذلك هامشيتي، لكن هذه لم تكن نتاج نقده، وإنما ترجع إلى خاصية أعمالي . فبالنسبة إلي أن تكون سوسيولوجيا معناه أن تكون قادرا على التفكير بتسلسل و تفاعل في الظواهر الاقتصادية و الاجتماعية و الميثولوجية . أجل إني أهتم ب«ثقافة العامة » كما في السينما و المجلات والأنشطة الخلاقة كما وفي العطل والتلفزة... أدرس أساطيرها أحاول فهم قوتها العالمية، لم يكن هذا مرادفا للتوحش أو الاستلاب، ولا حتى من خلال عملي . Jean-Paul Sartre كان في مقهى بروما مع صحافي ايطالي وتجاذبنا أطراف حديث مسل: سألني حول موقفي من سارتر الذي بدوه كان في روما وقرأ المقال وغضب ووجه إلي شتائم وكان يتقن ذلك.لم تعد علاقتنا حميمية. أكيد أنهم نشروا مقالا لي حول مهرجان كان في مجلة «الأزمنة الحديثة » أعجبتني رواياته، إلا أنه فلسفيا لا أضعه في مقام هوسرل Edmund Husserlأو هيدغرhedger لقد وضعنا، سياسيا، مسارين متعارضين: فسارتر لجأ إلى تبرير الشيوعية الستالينية وأنا اتجهت نحو الاعتراف بالإشكالية الوجودية مما يوضح تعارضنا إزاء الوضع في الجزائر أي الدعم الأعمى لسارتر تجاه جبهة التحرير الوطني . لقد طلبت من افلين راي أخت كلود لنزمان وصديقة سارتر أن يبلغ هذا الأخير رغبتي في الالتقاء به لكي نتواضح فلم يرد و القطيعة كانت قد ترسخت فيما بيننا كما زاد انتماؤه للماوية من تباعدنا. Albert Camus تعرفت عليه خلال الحرب العالمية الثانية، حينها كنت أقطن بمنزل مارغريت دوراس، كان صديقا لديونيس ماسكولو(اشتغلا معا بدارالنشر غاليمار/المترجم) أكيد كنت أكن له كثيرا من الود بيد أني كنت متأثرا بهيغل كان يسحر انطلاقا من «الأرواح الجميلة» و«القلوب الكبيرة» مشاعر ليست سوى الرنين «الشكلي للأجراس». لقد تأثرت كثيرا بالأيديولوجية البولشيفيكية أولائك الذين لم تكن أيديهم ملوثة وكنت نزلت كامو منزلة«الأرواح الجميلة» . تأخرت كثيرا حتى توصلت إلى أنه كان يجدر امتلاك روح جميلة و قلبا عظيما على أن تكون بائسا، وعلى أن كامو كان في وضعية سليمة أما أنا فلا .ولو لمجرد صرخته الغاضبة بعد فاجعة هيروشيما،هذه الأهمية لم تفهم في فرنسا، آسف جدا للموقف المنغلق الذي اتخذته إزاءه . سوسيولوجيا الحاضر نبعت سوسيولوجيا الحاضر من ملتمسين :أحدهما ورد في صحيفة لوموند من أجل توضيح عدم الرضى غير المفهوم «ليل الأمة»،فيما الملتمس الثاني لجورج فريدمان حاميني،وصديقي الذي طلب مني المشاركة في بحث متعدد التخصصات في مجال محدد : كمونة بلوزيفت ناحية بيغايدن ببرطانيا ...سوسيولوجيا الحاضر لها أمران ،الأول أن تتساءل حول رضى كان غير متوقع،وتنظرالى ما يوحي به ،بغيره،يجدده. أما الأمر الثاني،الاقتراب من التعرف على حقيقة محددة.في الحالة الثانية هاته كان قادة اللجان العمالية (المندوبية العامة للأبحاث العلمية والتقنية/ من المترجم) عمدوا الى تقسيم كمونة بلوسيفت وفق التخصصات متجاهلين في ذلك ما يحد بين التخصصات وعبرها أعني الأهم : تطور الحداثة وفي الأن ذاته على المستوى الأقتصادي،التقني،الاجتماعي و النفسي الذي كانت تمر به فرنسا «غير صورة» كمونة بلوسيفت . لقد أنجزت كثيرا من الدراسات حين دعاني جورج فريدمان (عضو في المندوبية سابقة الذكر /المترجم) إلى إنجاز مساهمتي البحثية لست أدري من كان وراء الموضوع هو أم أنا لقد تم اختيار الحداثة . الفكر المركب هو نوع من الفكر الذي يروم ربط معرفة الأجزاء بالشمولية وهاته الأخيرة بالأجزاء، ووفقا لقولة باسكال المشهورة «تصير الأشياء كلها أسبابا ومسببات مساعدات ومساعدات وسيطات ومتوسط لها كلها مترابطة برباط طبيعي غير محسوس، يوشج بين الأبعد والأكثر اختلافا فيما بينها، أؤكد أنه يستحيل معرفة الأجزاء دون معرفة الكل مثلما تستحيل معرفة الكل دون معرفةالأجزاء». الخير و الشر لهما منبع واحد، فما يجمع ويفرق بينهما ولد معا في جذور عالمنا:مبدئيا الإله والشيطان هما واحد فالذي يفرق «ديابلوس» منبع الشر. أما الذي يربط و يعيد الربط منبع الخير.وللتعديل، فبالنسبة إلي إن الخيري يحركه الحب و الصداقة. أما الشر هو ما يحرق ويدمر،الشر قساوة العالم وبربرية الإنسان،في حين المطلب الأخلاقي الثاني يتجلى في مفهومي لشعرية الحياة التي تصدر عن الكائن ذاته في المجتمع،الحب،الانتشاء يمكن أن أصيغ الأمر على هذا النحو: الانخراط في كل ما يسمح للإنسان أن يحيا شعريا،معناه تحقيق الحب،الأخوة،التضامن،التقدي،والانتشاء. هذا ما أسميه في آخر المطاف ب«إيمان الأخلاق» عبرت عنه في خاتمة كتابي «نهاية المبهج » هذه إذن مهمتي في الإيمان «الأخلاق هي الحب »، بيد أن واجب الأخلاق يقتضي الحفاظ على العقلانية في الحب . عالمولوجيا إننا -جميعا- مبحرون في المغامرة التاريخية للعولمة،كانت معارفنا متنافرة و متشظية، بينما وضع العالم بمثابة عش مركب لعدد لايحصى من التفاعلات والتجاذبات.إنه مزيج / كوكطيل من النظام واللانظام، نحتاج إلى علم من المفروض هو العالمولوجيا من أجل استيعاب و فهم العالم .