بدأت علاقتي بحسن طريبق في شهر يناير 1977 بمدينة العرائش. كان آنذاك أستاذا لمادة اللغة العربية بثانوية سيدي محمد بن عبد الله ويبلغ من العمر أربعين سنة، فيما كان عمري خمسا وعشرين، عينت للتو مسؤولا عن المفتشية البيطرية للمدينة بعد قضاء سبع سنوات في التحصيل الجامعي ببروكسيل. قدمه لي أحد مساعدي في العمل، كان جاره في سكنه الواقع بشارع خالد ابن الوليد كأستاذ ومفتش حزب الاستقلال بالمنطقة ومراسل جريدة «العلم» .... وشاعر. منذئد، بدأت بيني وبينه علاقة أنطولوجية مفتوحة، نلتقي باكرا كل صباح، نؤم المقهى المركزي لتناول الطوصدادا بزيت الزيتون وتفحص صحف اليوم، ثم نقوم بدورة استطلاعية على متن سيارته الشهيرة رونو 12 الزرقاء، في الممرات والأزقة الاستراتيجية للمدينة، فالمرور إلى مكتبي للاتصال هاتفيا ببعض الأرقام، ثم نبدأ المناقشات التي لا تنتهي. ولما كانت مقالات حسن طريبق أسبوعية في جريدة «العلم» فقد كان دائم البحث عن موضوع أدبي أو سياسي أو اجتماعي أو لغوي يخوضه ليكون جاهزا للإرسال إلى الجريدة قبل كل اثنين. أحيانا كنت أقترح عليه بعض المواضيع التي لم تكن تدخل بالضرورة في مجال اختصاصه. وكنت أقنعه براهنيتها أو حداثيتها أو صداها المتوقع عند الجيل الجديد. وبعد مناقشة خاطفة، يأتي في الغد بمقال مطول في الموضوع ينم عن تمثل تام للفكرة وسهولة بالغة في صياغتها، حتى لكأنك تخاله قرأ مراجع المفكرين والمثقفين الذين تحدثت له عنهم بالأمس وهضم أفكارهم في اللغة الأًصل. هكذا كان حسن: قوة في التركيز وسهولة في الاستيعاب وذكاء في تمثل الأفكار وتمكن من دقيق اللغة وجليلها، يكتب بصدق نادر مقالاته الفكرية التي يتمثل فيها تجربته الوجدانية ومساره الذاتي مع اللغة والسياسة والمعاناة مع الأعداء والأصدقاء. في السبعينيات من القرن الماضي، كانت الإيديولوجيا اليسارية مستبدة بالمبدعين والأدباء الشباب (وكنت أحدهم) وكان من الصعب جدا، اختراق المشهد الثقافي دون تزكية من كانوا يتوهمون أنهم يوجهون الثقافة ، وكان العمل بمبدأ الزبونية واقعا لا يجادل فيه إلا مطبقوه. مع ذلك استطاع حسن طريبق أن يواصل مشواره بأناة وعناد وانتشاء، قاوم قصف النقاد الإديولوجيين من كل صوب وقاوم محاولات الإقصاء من المشهد الإبداعي ومحاولات المحو والاستبعاد والإنكار والاستمالة كما قاوم الانحرافات الإبداعية بمختلف أشكالها مؤكدا بقوة على ضرورة التمكن المبين من اللغة والتراث قبل خوض الكتابة وادعاء أية ريادة وهمية في ممارسة الإبداع. كان حسن طريبق يملك ثقة كبيرة في النفس، لا يؤثر فيه اعتراف الآخر أو عدم اعترافه بكفاءته وموهبته ، لأنه أدرك مبكرا أن الفضاء الثقافي يعج بقيم غير ثقافية تدفع بالمقربين و الحواريين إلى الواجهة كيفما كان المستوى النوعي لإنتاجهم الإبداعي، تاركة ما دونهم جاثمين في حدائق النسيان. حسن طريبق امتداد مباشر لكتاب الحركة الوطنية . لذلك كان الهم السياسي والاجتماعي يتسرب بوضوح إلى إبداعاته. كتب جل قصائده الشعرية ومقالاته الفكرية في ما سمي بسنوات الرصاص، وهي مرحلة سادت فيها النزعة الخطابية وروح الالتزام والمواجهة والصراع وهيمنت فيها الإيديولوجيا على الخطاب الأدبي والفكري. لم يكن آنذاك بالإمكان ، إنتاج خطاب جمالي بعيدا عن الواقعية الاجتماعية وهاجس السياسة، كان الأدب أداة للنضال وكان سيد الفضاء الصراخ. لكن هذا لم يمنع حسن طريبق في محاولة التوفيق بين الهم الأدبي والهم السياسي من الزج بهموم الذات في منتوجه الرمزي والفكري بنوع من التلقائية والعفوية والحميمية، منخرطا بذلك في الكتابة الحداثية دون قطع الصلة بقضايا الناس. كان حسن ، يعيش مفارقة داخلية حقيقية. ذلك أنه كان مسؤولا في حزب الاستقلال ، يتعايش مع إكراهات الالتزام والسياسة و الدفاع عن اختيارات لا تتجاوب بالضرورة مع القيم الإنسانية التي تسكن مخياله كمثقف يصوغ مواقفه استنادا إلى مبادئ متحررة من متطلبات السياسة. وكثيرا ما كنت ألمس أن المثقف فيه لا يطمئن إلى السياسي. فالسياسي حالة تكتيكية تروم الوصول إلى السلطة للتأثير في الأوضاع الاجتماعية القائمة قدر الممكن.هذه الحالة لا تأتي إلا لكي تمضي يوما بموجب حقيقة عنيدة، أما المثقف، فمناضل من أجل مبادئ إنسانية وقيم نبيلة لا تنتهي بانتهاء السياسة. خلال السنوات التسع (1984 ? 1992) التي كان فيها حسن طريبق برلمانيا ورئيسا لبلدية العرائش ، أدركت أن المثقف ، مهما سلم قيادة للسلطة (بما فيها سلطة الحزب) فإنه يظل عنصرا مهمشا لا ثقة فيه، يجب الاحتياط منه وتحريف اجتهاداته وتوريطه إن أمكن. لكن حسن صمد واستمر عبر الثقافة وليس عبر السياسة. كتب في كبريات القضايا كالحرية والديموقراطية والتسامح والحق في الاختلاف والهوية والحداثة... كان له في كل ما ينتجه من أفكار ومقالات وإبداعات تصور منسجم وخيط ناظم يروم إرساء ثقافة الصدق والإخلاص لانطبعات الذات والوجدان. كان يعكس ما يحس به فعلا وبالطريقة التي يرتاح لها هو، بلغته الخاصة. لم يرد أبدا، أن يكتب كما يريده الآخرون ممن أسسوا مدائنهم الفاضلة وأغلقوا الأبواب. هناك محطات قوية في حياة حسن طريبق وفي مساره الإبداعي والفكري. فهو رجل عصامي، بدأ مشواره موظفا بالغرفة التجارية بالعرائش ثم شق طريقه بثبات وإصرار وعناد. فكان أن قطع مراحل التحصيل تباعا في القصر الكبير وتطوان وسبتة وفاس والرباط إلى أن حصل على شهادة دكتوراه الدولة في الآداب العربية بجامعة محمد الخامس سنة 1990 في موضوع : « القصيدة العربية الحديثة والمعاصرة بين الغنائية والدرامية» تحت إشراف الدكتور عباس الجيراري. بالموازاة مع ذلك، مارس حسن طريبق التدريس الجامعي والبحث العلمي من خلال الإشراف على عدة رسائل جامعية ومناقشتها.كما احتضن العديد من الشعراء والباحثين من مختلف الأجيال بتواضع ونكران للذات ودونما استعلاء، ومارس الإبداع الشعري فكان شاعر التأمل وشاعر العزلة وشاعر الحب وشاعر هموم الإنسان وشاعر الطبيعة وشاعر التيه. كماكانت له اختياراته الجمالية ووعيه الشعري الخاص، فالقلق والتيه وظلم ذوي القربى وهسهسات العشق، تيمات استبدت بحساسية الشاعر وظلت ترشح من نصوصه بإخلاص مقدس، كما احتلت «العرائش» مساحة متميزة في شعره ظل يتغنى بها عبر أزيد من خمسة عقود من الحلم. على ضفاف وادي اللكوس وتحت ظلال الصنوبر في الأوصطال وعبر انحدار «عين شقة» وفي خلوات شاطئ الرمل وعبر مساءات «كازا إسبانيا» الصاخبة: كان الصراع مع بياض الأوراق.... مع محمد بنيس ومحمد الحلوي وإبراهيم الخطيب وإدريس الخوري ونجيب العوفي والآخرين ممن كان يطلق عليهم لقب «التعاونية النقدية» وجلهم من منشطي الملحق الثقافي لجريدة «الاتحاد الاشتراكي». السجالات النقدية، بالرغم من اتسامها أحيانا بالعنف والذاتية والتحريض والطائفية وكيل المدح لكتابات الرفاق وإبداع الإخوان، بعيدا عن الموضوعية والقراءة الفعلية للنصوص والتروي في مستواها الفني والجمالي، شكلت محطة خاصة في مسار النقد الأدبي المغربي زمن المخاض وزمن ملامسة الأسئلة الحارقة، أسئلة اللغة والإيقاع والمنهج والحداثة. عندما أتذكر تلك السجالات الآن، ينتابني نوع من الحنين أحس كما لو أن شيئا مفارقيا لكن جميلا تباعد على نحو لا رجعة فيه. ثم كانت هناك المرأة: سر الخلق ومصدر إلهام ودفء واستكشاف. للدكتور حسن طريبق فضل كبير علي، فهو الذي قال لي ذات يوم: اكتب باللغة العربية، فكتبت. وهو الذي فتح لي صدره الرحب ومكتبته الثرية، وبفضل علاقتي المتميزة معه، اختصرت المسافة، إذ كان بالنسبة لي موسوعة حية في اللغة والنحو والبلاغة والعروض. أمتح من ملاحظاته الذكية وإضاءاته اللامعة وتمكنه المتين من الشعر العربي قديمه وحديثه، بعد ذلك يفعل بي مخيالي ما يريد، وأشيد عوالمي باستعاراتي الخاصة. لقاءاتنا اليومية جعلتني أستغني عن المنجد أو القاموس أو المراجع الكلاسيكية العربية التي تجعلك تتيه في سراديب لا نهاية لها. كما أربحتني وقتا ممكنا ومسافات بعيدة لأن الرجل كان واسع العلم وثاقب الفكر ومثقفا نهما وشاعرا من العيار الثقيل. يمتاز بقدرة نادرة على تطويع اللغة التي يعتبرها «جوهر الشعر، ينطلق بها إليها و ويحمل ملامحها البارزة بها وفيها». حينما يحدثك أو تجالسه أو تمشي بجانبه لساعات ممتعة أو ترافقه في السفر، تشعر وكأنك تسرح الخطى في البيداء مع الأعشى أو امرئ القيس... وكأنك تسهر في ليالي بغداد مع أبي تمام أو البحتري... وكأنك تطوف بالكوفة مع الشاعر الأول، أبي الطيب ، والمياه يصل بها حصاها... وكأنك ساري الليل في قرطبة، ترنو مع ابن زيدون إلى الخرائد كالدمى ترفل في ثوبها المنمنم... وكأنك تشرب قهوة خفيفة في قيلولة جلق مع بدوي الجبل... بفضل الدكتور حسن طريبق ، تعرفت على مسؤولي جريدة «العلم» الغراء، الذين لم يطلبوا مني بطاقة الانتماء إلى الحزب لفتح باب النشر أمام قصائدي، كان كل من محمد العربي المساري وعبد الجبار السحيمي ونجيب خداري يؤمن بأن الثقافة الحقيقية هي تلك التي لا تسقط في فخ السياسة بل تتعالى عليها. في القصر الكبير وحسن طريبق ابن هذه المدينة العريقة، تعرفت على الشاعر المرحوم محمد الخمار الكنوني والأستاذ أنور المرتجي والشاعرة وفاء العمراني وعواطف الرميقي زوجتي. كما كانت لي بالرباط، بواسطة حسن كذلك، لقاءات متعددة مع الشاعر أحمد مفدي والمرحومين أحمد المجاطي ومولاي أحمد الإدريسي ومبدعين واساتدة آخرين. وكان أغرب ما اكتشفته من خلال لقاءاتنا الجميلة، أن التواصل الثقافي يكاد يكون منعدما بين الشعراء الرواد. فهم يتحدثون فيما بينهم في كل شيء، إلا في الشعر. وكنت الوحيد الذي يجرؤ على استفزازهم بطرح الأسئلة المباشرة حول مفهوم الشعر والشعرية وعناصرهما وطبيعتهما وحول الإيقاع والموسيقا والأشكال الإبداعية والحداثة إلخ ... ومن حسن حظي أنني كنت أحظى بود وثقة الجميع. ربما لأنني وافد من ميدان غريب، ليست لي أية حساسية تجاه منافسين محتملين. كان كل من أحمد المجاطي ومحمد الخمار الكنوني يعتبر نفسه رائد القصيدة المغربية الحديثة بدون منازع. وكان لحسن طريبق رأي آخر في الموضوع لا مجال للخوض فيه هنا. في سنة 1994 ، انتقلت للعمل بعيدا عن مدينة العرائش، ولم أعد ألتقي صديقي وأستاذي حسن كل يوم. صرنا نلتقي مرة أو مرتين في السنة بالعرائش، نستوعب تناقضات الحاضر المأزوم.ومفارقات الزمن المختل. نسترق السمع لحفيف أشجار رقادة وحوار الأمواج الأطلنطية وحكايا ليكسوس ... نزاول أحلامنا القديمة ... نتذكر لحظات العمر الجميل... حسن اسمح لي أن أقول لك باسم صمت البراري وهسهسات الشعر: شكرا. نونبر 2010