يحيى بن الوليد إن النظر إلى كل من محمد عابد الجابري وعبد الله العروي وعبد الكبير الخطيبي، انطلاقا من مقولة "الما بعدية"، لا يفيد أي ضرب من "القطيعة" أو حتى "الكرونولوجيا"، ذلك أن مشاريع هؤلاء ليست كباقي المشاريع، التي ترحل برحيل أصحابها أو حتى قبل رحيلهم، دونما تنكّر، هنا، لأهمية مشاريع وإسهامات مفكرين وباحثين مغاربة آخرين، في مجالات مختلفة، يمكن التعاطي لها في سياق آخر. ويبقى أن نؤكد على أن قوة مشاريع الثالوث السابق هي في إمكان تجدّد قراءتها من ناحية، وفي إمكان الاعتراض عليها من ناحية موازية. وفي هذا السياق يأتي هذا الملف للنظر إلى ما يعتمل الفكر المعاصر بالمغرب، من مستندات تصوّرية ومقولات نظرية، من خارج هذا الثالوث. وبالنظر إلى امتداد وتداول هذه المشاريع خارج المغرب، وبالنظر إلى تأثيرها وعلى تفاوتها في الفكر العربي المعاصر ككل، حاول الملف استخلاص "الإجابات" في السياق المغربي، والعربي ككل، في الفكر، كما في التاريخ والسياسة... في دلالة على المجالات التي خاض فيها الثالوث. أجل لقد تغيّر الكثير من أنساق الفكر والإدراك، مثلما تزحزحت صور المفكر والمثقف الموسوعي، غير أن مسؤولية الفكر لا تزال مطروحة. الظاهر أن كلا من محمد عابد الجابري (1936 2010) وعبد الكبير الخطيبي (1938 2009) وعبد الله العروي (1933 ) ارتبط ب«مشروع فكري» من دون شك أسهمت عوامل عدّة في إكسابه طابعه التصوّري والمنهجي المتفرِّد في سياق الفكر العربي المعاصر ككل بتياراته وإيديولوجاته ومذاهبه وحروبه. وأهم ما ميّز هذه المشاريع استحضارها للمغرب، باعتباره «أفقا للنقد والتفكير»، وخصِّه بأبحاث ودراسات لا تزال «مراجع» أساسية لا يمكن للباحثين، سواء من المكرَّسين أو من المبتدئين، الاستغناء عنها. والسبب هو ما تنطوي عليه هذه المشاريع من «قيمة فكرية متجدِّدة» تبعا لتجدّد سياقات التداول والتلقي، وهذا بالرغم من الطابع التاريخي والمنهجي لهذه المشاريع بحكم ارتباطها بمرحلة محكومة بمقتضياتها التداولية المخصوصة. وبالرغم من أن العروي (المؤرخ المفكر الألمعي) أضرب عن «التحليل» فيما يخص الحراك الثوري العربي الذي تفجّر في أواخر العام 2010، وعلى النحو الذي لم يسلم منه المغرب نفسه، فإن مؤلفاته سرعان ما لفتت الأنظار إليه من خلال مفاهيم محدّدة مثل «الدولة السلطانية» و«الحرية بمعناها التاريخي الوجودي» و»أداء المثقف»... إلخ. والشيء نفسه ينطبق على محمد عابد الجابري، ولاسيما من ناحية مفهوم «الكتلة التاريخية»، الذي بدا لازما في ظل ما أفرزه ما بعد الشوط الأوّل من الحراك الثوري نفسه من انقسامات طائفية وقبلية وجهوية ومذهبية وانفصالية. وفيما يخص الخطيبي يصعب موضعته على الخط المستقيم ذاته، غير أن أبحاثه المتعلقة بأشكال «المكبوت» و»المسكوت عنه» و«الجسدانية»... تفرض ذاتها، في الموضوع نفسه، بالنظر إلى صلاتها بالأنساق الثقافية الجارفة. هذا بالإضافة إلى مفهوم «النقد المزدوج والمتبادل» الذي لولا الخطيبي لما أبدعه علي حرب باعتباره صيغة فلسفية لتدبير النقاش العام في ظل دعاوى «الاجتثاث»، التي تطال النقاش العام في الواقع الفكري العربي المعاصر. ولذلك يصعب القول بالقفز على هذه «القامات الإبستيمولوجية» أو القول بأنها ترتبط بمرحلتها، وبالتالي عدم «صلاحيتها» للحظتنا التاريخية السديمية. ويتضاعف المشكل أكثر بالنظر إلى ما هو سائد من «منتوج» في المجال الفكري وفي مجال العلوم الاجتماعية بالمغرب. فأغلب الأبحاث لا تخلو من «توليف» (Bricolage) ومن «نزوع منهجي غالب» على حساب «الأطروحة» التي تقع في صميم المشاريع الكبرى، وعلى حساب أشكال من «التدخّل» التي تفضي بالأطروحة ذاتها إلى «نتائج» أو «بدائل» عادة ما تشترط في الأبحاث، لكن بطريقة غير مقحمة أو فجة، دون أن يكون في نيتنا، هنا، أن نجعل من الفكر أداة ل«حل المشاكل» من ناحية، ودون أن يكون في نيتنا أن نعزل هذا الفكر عن التشابك المثمر مع نص الواقع من ناحية مقابلة. غير أن ما سلف لا ينبغي أن يسقطنا في نوع من النظرة التي بموجبها نجعل من القامات السالفة «نماذج» و«أصناما»، خصوصا في المنظور الذي بموجبه نلغي أعمالا تأسيسية، في مجالها، ترتبط بأسماء محددة عاصرت هذه القامات أو جاءت في فترة لاحقة عليها. ولعلّ هذا ما يبرّر محور «الفكر المغربي بعد الجابري والعروي والخطيبي» بالنظر إلى ما يدعو إليه من إمكان للنظر والبحث والتفكير في «مساحات معرفية» غير تلك التي تحرّك في إطار منها الثالوث. وقد بدا لي، انطلاقا من مجال اهتمامي المتمثل في «النقد الثقافي»، وفي المدار ذاته الذي يحاور بإيجاز شديد الثالوث نفسه، أن أركِّز على مجالين هما في غاية من الأهمية الإبستيمولوجية والإضافة الفكرية المضمرة بالنظر إلى ارتباطهما بألغام الفكر وزوابع الذهن. وأقصد، هنا، البحث الأنثروبولوجي والبحث التاريخي لا غير، في إطار من الروابط التي تصل ما بينهما في مجال البحث العلمي والطرح الأكاديمي. ومن هذا المنظور إذا كان كل من الجابري والعروي، كل من موقعه الفكري، قد «رفض» الطرح الأنثروبولوجي ككل، وفي الوقت الذي ربط فيه الجابري هذا الرفض بخياره التحليلي الإبستيمولوجي الصارم، المغلق، الذي يقضي بعدم إيلاء مكانة ل«الخيال الرمزي» في «العقل العربي» في بنياته وتجلياته... فإن العروي لم يتردد في تحقير الأنثروبولوجيا وردها إلى ما يعتمل في «التاريخ من أسفل» أو «المستودع البشري» تبعا للمصطلح الذي اعتمده في «مجمل تاريخ المغرب». أجل إنه لا يمكن لأحد أن يطالب الجابري، على صعيد التراث ذاته، بدراسة «ألف ليلة ليلة» أو «بخلاء» الجاحظ أو «أخبار الحمقى والمغفلين»... كما لا يمكن أن نلزم العروي، على صعيد البحث التاريخي، بدراسة «المجذومين» في مغرب القرن التاسع عشر أو «أسواق المغرب» في بداية القرن العشرين. وقبل ذلك فالعروي منشغل، أيضا، بمفهوم التاريخ ذاته؛ كما أنه أوّل من يعي بالاعتراض الذي يمكن أو يواجه به. وفي حال الخطيبي لا مجال لهذا الرفض، غير أنه بدوره كان يتحرك على «الأرض» نفسها. وفي هذا الصدد ينبهنا الباحث الأنثروبولوجي، اللامع، عبد الله حمودي إلى الكتيب الذي سماه الخطيبي «حصيلة السوسيولوجيا الكولونيالية» (1967)، ولاسيما من ناحية عنوانه الذي لم تظهر فيه كلمة أنثروبولوجيا ولا إثنولوجيا. ويواصل عبد الله حمودي: «وقد صرح المؤلف نفسه أنه أعرض عن الأنثروبولوجيين ثم خصص قسطا هاما من مؤلفه لمونتان وبيرك دون الانتباه إلى أن مناهجهما مزجت الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا والتاريخ». وكما أسلفنا، ليس بمستطاع أحد إلزام أحد هؤلاء بما لا يتماشى ومشروع هذا الأخير (ومزاجه، أيضا). كما أنه لا ينبغي التغافل عن أن المرحلة التاريخية التي أخذ ينشر فيها الثالوث كان لها تأثيرها على مستوى «التموقف» من الأنثروبولوجيا. غير أن إمكان الاعتراض على «كراهية الأنثروبولوجيا» أو «سوء الفهم» كما نعته حمودي (في حال الجابري والعروي، تعيينا) وارد وقائم. ولعل هذا ما أوجز فيه حمودي نفسه، ومن منظور مطمح «إعادة صياغة الأنثروبولوجيا»، في كتيب يحمل العنوان ذاته (2010). ويمكن الاطلاع عليه أكثر في سياق كتاب حمودي نفسه «الرهان الثقافي وهمّ القطيعة» (2011). واللافت أنه كلما أثير موضوع الأنثروبولوجيا أثير معها موضوع الاستعمار، مع أن إمكان التمييز وارد، ولعل هذا ما يقتضي مقاربة تنتظم في إطار من علم اجتماع المعرفة. وهذا ما قام به الباحث الأنثروبولوجي حسن رشيق في كتابه العميق والكثيف «القريب والبعيد مائة عام من الأنثروبولوجيا بالمغرب» (بالفرنسية) (2012). وقد سعينا من جهتنا إلى تقديم قراءة مطوّلة في الكتاب نشرت في مجلة «عمران» (للعلوم الاجتماعية والإنسانية) (قطر) (العدد: 8 ربيع 2014). وقد قام حسن رشيق نفسه بعمل جردي، لا يخلو من حس تحليلي ونقدي، في كتاب «الأنثروبولوجيا في الوطن العربي» (حوارات لقرن جديد) المشترك بينه وبين الباحث الأنثروبولوجي والمترجم أبو بكر باقادر (2012)، حين خصّص مداخلته هذه المرة ل»الممارسة الأنثروبولوجية بالمغرب». وكانت المداخلة فرصة للتذكير بأهم الأعمال المرتبطة بالبحث الأنثروبولوجي والمنجزة من قبل باحثين مغاربة بعد أن تمحوّر الكتاب الأوّل حول أعمال أجانب. كما كانت المداخلة فرصة لإيجاز اختلافه مع عبد الله حمودي في كتابه «الشيخ والمريد»، الذي هو من الكتب التأسيسية الأولى في مجال «الحتمية الثقافية» (إذ جاز توظيف هذا المفهوم) على مستوى ترسيخ السلطة. ليس هدفنا، هنا، جرد العناوين ولا الدخول في مقولات ومستندات التحليل الأنثروبولوجي، وإنما هدفنا هو التأكيد على أهمية هذا البحث على مستوى البحث في «أرشيف المغرب». المغرب الآخر والعميق الذي عادة ما لا نوليه أهمية بحثية تليق بحجم تأثيره في تشكل المغرب ذاته. في هذا الصدد وفي إطار من الانفتاح على الأنثروبولوجيا يمكن التشديد على العمل التاريخي التحليلي العميق المنفتح على العلوم الاجتماعية ككل، بل النقد الأدبي ذاته، وفق منهج «استشكال النصوص والتفكير بالنصوص». وأقصد، هنا، دراسة عبد الأحد السبتي «بين الزطاط وقاطع الطريق أمن الطرق في مغرب ما قبل الاستقلال» (2009) في دلالة على «المغرب الآخر» الذي يفرض مقاربة مغايرة تفيد من الأنثروبولوجيا في إطار من البحث التاريخي الرصين. إجمالا هناك من يشدّد على مقولة «الإضافة الفكرية»، الآن، في مجال البحث التاريخي وعلى النحو الذي بموجبه يمكن الحديث عن «مدرسة مغربية». هذا وإن كان إمكان النقد وارد أيضا، وأظن أن هذا ما قام به، بشكل مقتضب ودال، عبد الأحد السبتي نفسه في كتابه «التاريخ والذاكرة» الذي خصّه ل«أوراش في تاريخ المغرب» (2012). هذا وإن كان للملاحظ، من خارج دائرة «التخصص»، أن يستقر على غياب وعلى الأقل لشبه «تيار» يعنى برواسب الاستعمار في المغرب وفي المدار ذاته الذي يربط الإشكال بالحداثة والديمقراطية... وعلى نحو ما يلاحظ، وعلى سبيل التمثيل، في الهند من خلال ما يعرف ب»دراسات التابع» (Subaltern). وثمة كتاب آخر صاغه صاحبه في إطار نوع من «الشعرية الثقافية» التي تصل ما بين التاريخ والأنثروبولوجيا وفن الشعر...في إطار من النقد الأدبي. ويتعلق الأمر، هذه المرة، بالتاريخ الشفوي وبتاريخ المهمشين، في إطار من «التاريخ الاجتماعي» أيضا. وأقصد، هنا، كتاب «فن العيطة» (2007) لصاحبه الباحث الأكاديمي (كما يتوجب تقديمه هنا) حسن نجمي. دراسة لافتة، وقوية، تعنى بدورها بالمغرب الآخر «الجريح والمنسي». إلا أن الدراسة، مقارنة مع دراسة السبتي، لم تحظ بمحاورة في حدها الأدنى. وأتصوّر لو أن كاتبها كان أجنبيا لكانت النظرة قد تغيّرت إليها. والأكيد أنه ثمة أعمال أخرى تنتظم في الأفق نفسه. ولذلك ينبغي التنصيص على أننا لسنا بصدد الكشف عن نظرة تسويقية أو تراتبية للأعمال بقدر ما نسعى، ولمناسبة استحضار الثالوث، إلى التأكيد على هذا الأفق الفكري والمنهجي المغاير الذي يبدو، في الحال المغربية تعيينا، الأقرب من مدار «التدخّل الفكري»، سواء على مستوى التراث القريب أو على مستوى اللحظة الراهنة المفتتة والمسحوقة. وعندما نشدّد على الأنثروبولوجيا، هنا، فهذا لا يعني أنها «المختبر الأوحد» لاستخلاص أنساق المغرب الكبرى والصغرى... وهذا لا يعني، كذلك، أن الأنثروبولوجيا في توهّجها الفكري، سواء في المغرب أو خارجه. ف«أنثروبولوجيو أيامنا هذه لم يعودوا قادرين على الذهاب إلى الحقل ما بعد الاستعماري بالسهولة ذاتها للأيام الخوالي» كما قال الراحل إدوارد سعيد في «تعقيبات على الاستشراق»؛ ودونما تغافل عن «الموقف السعيدي» ذاته من «المطبخ الأنثروبولوجي».