ما يكون بين جبلين هو الحصى.. وهذه الكتابة اليوم، تريد أن تعلن من البداية، أنها لا ترضى لنفسها أن تكون حصى بين الجبال.. ذلك أن الكتابة بحرية حول العلاقة بين هرمين كبيرين من حجم الراحل محمد عابد الجابري والمفكر المؤخر والأديب عبد الله العروي، أمر فيه الكثير من المغامرة.. المغامرة المعرفية أساسا.. ما يدفعني حقيقة للكتابة، صحفيا، حول الجابري والعروي، هنا، في هذه الزاوية العابرة، هو الصمت الذي ارتكن إليه باختيار، المفكر التاريخاني المغربي عبد الله العروي أمام لحظة غياب زميله في البحث والمعرفة الفكرية الرصينة، محمد عابد الجابري. كنت واحدا من الذين توهموا أن العروي سوف يكتب واحدا من أجمل النصوص (هو المنتصر دوما لقوة الأدب) المنعية للراحل الكبير. لأنه سيكتبه من موقع عدم المجاملة، من موقع الإختلاف المعرفي، مما سيغني مرة أخرى، مشهدنا الثقافي والفكري والأدبي المغربي، بنص سيكون له تاريخ. ولعل المثير، بالنسبة لصحفي مثلي، أنتمي لجيل تربى معرفيا وفكريا وتربويا، على زخم طروحات الجيل المتلألئ من رجالات الفكر والمعرفة الذين أنتجتهم الجامعة المغربية، حين كان لا يزال لها الدور الحاسم في إنتاج القيم والمعارف وتعميمها بين الأجيال، وقبل أن يصيب العطب أخطر مجالات التنمية في المغرب، وهو التعليم. لعل المثير، هو ذلك الصمت الذي يلوذ به كل واحد من الرجلين، كلما تعلق النقاش بأحدهم، ويكاد يكون ذلك الصمت أشبه بحكمة البوذيين، الذين ينتصرون لمبدأ في التربية، يعتبر الصمت لغة. إن حقنا على العروي، هو الذي يجعلنا أحيانا نحلم بما لا يجوز لنا الحلم به. مثلا، الحلم بنص مثل النصوص التي كتبت عن لسان الدين ابن الخطيب الأندلسي ( الأديب والوزير، ذي الوزارتين وذي القبرين بفاس) أو المعتمد بن عباد (الذي رثاه لسان الدين بن الخطيب نفسه بعد وفاته بأغمات)، أو ابن رشد، أو ابن خلدون، من أشد مخالفيهم معرفيا وفكريا. واليوم، مع رحيل مفكر كبير، شغل الدنيا والناس، مثل الدكتور محمد عابد الجابري، فإن نصا وشهادة مثل التي خص بها المفكر والباحث السوري جورج طرابيشي جريدة «الإتحاد الإشتراكي»، هو الذي بنى مشروعه الفكري على نقد مشروع الجابري،، والذي قال فيه بشجاعة أدبية نبيلة أن فضل الجابري عليه معرفيا كبير، وأنه في مكان ما كما لو أنه اختار أن «يقتل الأب» الذي أنقده من الإىديولوجيا وأخده إلى رحاب الإبيستملوجيا.. إن نصا مثل ذلك النص، المكتوب بلغة عالمة رصينة، هو اليوم وثيقة أدبية نادرة تعلي من كاتبها على القدر نفسه الذي تمجد الراحل الكبير، وهي في نهاية المطاف تعلي من قيمة المشهد الفكري العربي مغربة ومشرقه. عقلانية العروي، وصرامته في بنينة العلائق، وانتصاره الدائم للعقل الفلسفي الهيجيلي، هي التي تجعل حلم بعض من نصوصه مرتجاة. وفي مكان ما، فإن شهادة أو نصا منه عن رفيقه في الفكر والمعرفة، أمر مرتجى ومنتظر ومطلوب. ومن يدري، فالرجل مدون معروف للكثير من آراءه ومواقفه وتحليلاته وانطباعاته، في دفتر مذكراته الخاصة، التي بادر أكثر من مرة، إلى نشرها في كتاب ( أساسا التجربة الجميلة لكتبه «أوراق الصباح»). ومن يدري، ذات يوم سنسعد بنص أدبي/شهادة.. نص فكري ومعرفي من الرجل عن الرجل.. فقط، ربما، علينا نحن المستعجلين من قبيلة الصحفيين ومن جمهور القراء، أن نتعلم مكرمة الصبر والروية، تلك التي تميز عادة أناس الفكر والفلسفة والمعرفة والتاريخ، أمام الوقائع والأحداث. قلت في البداية، إن ما بين جبلين هو الحصى، حتى تعترف هذه الكتابة العابرة (الحالمة) لنفسها بحدودها الواجبة أمام هرمين كبيرين مثل الجابري والعروي.. لكنها ذات الكتابة التي تود أيضا أن تقول، إن بين جبلين، يكون أيضا عش النسر، وهذه الكتابة تريد أن تتوهم أيضا أنها تحلق بذات الروح هناك.