شكير نصر الدين تكاد لا تخلو رواية أوربية كتِبت بعد الحرب العالمية الثانية من إشارة صريحة أو ضمنية إلى ما يسمى «المحرقة» النازية التي تضاربت الآراء حول عدد ضحاياها، فضلا عن الدراسات المتخصصة والوثائق وغيرها من التعبيرات الفنية الأخرى من متاحف وأماكن للذاكرة ومجسمات وتماثيل في الساحات العامة...إلخ. والأمر لم ينحصر في الحقبة المذكورة، بل تعداها إلى أن أصبح التذكير بالحدث وترسيخه، جيلا بعد جيل، من الثوابت التي لا تقل حيوية عن باقي قيم الإنسان الأوربي والغربي عبر العالم. وأضحت «المحرقة» واقعة لا ينكرها، بل «لا يجب أن ينكرها أحد»، وإلا فإن الاتهام جاهز قانونا: معاداة السامية. وهكذا فإن الكثير من كتاب الرواية، مثلا وليس حصرا، الذين لم يشهدوا الحدث من يرى من واجبه أن يطرق الموضوع إن تلميحا أو تصريحا، وقد يكتفي بجملة واحدة فيها وصف لنجمة داوود العلامة الصفراء الواسمة، أو لأوشفيتز أو غيرها من العبارات والتوصيفات. هناك من يدافع بقوة عن نوع من الكتابة يدخلها أصحابها في ما يطلق عليه عموما اسم «أدب التنوير» أو التنشئة، أو هو مجرد دَين على كل أوربي أن يؤديه للشعب «المضطَهد»، من سبي إلى سبي. لكن إن حقق امرؤ يقول مع نفسه: «لماذا يجب أن نلوم هؤلاء ما داموا منسجمين مع أنفسهم، يحرصون أخلاقيا على توريث أثر «الهولوكست»؟ والحري بالمرء أن يسأل نفسه : لماذا انحصر الأدب المدافع عندنا عن النكبة والنكسة، وكل أشكال التقتيل في فلسطين التي يراها العالم و يسمعها؟ والمقصود بذلك أدب المقاومة. لماذا لا يحمله منذ البدء سوى أصحاب الأرض، الفلسطينيين؟ قد تتبادر إلى الذهن أسماء فلسطينية وأخرى عربية، لا يتسع المجال لذكرها كلها. لكن أدب المقاومة ذاك انحصر في الزمن وفي الجغرافيا. لماذا تغيب موضوعة الحروب الإسرائيلية وإرهابها المتفاقم عن رواياتنا وقصصنا في العالم العربي إلا نادرا؟ لماذا هذا الإقصاء ظلم ذوي القربى الأشد؟ قد يتخيل المرء المبررات التي يسوقها البعض من قبيل الابتعاد عن موضوع لا يحيط به إحاطة شاملة، أو للبعد الجغرافي عن منطقة الصراع، أو بذريعة «الفن لأجل الفن» المفترى عليها تارة، أو ميولا نرجسيا للاشتغال المرضي على الذات حيث أصبح كل من تسمى بروائي لا بد له أن يُغرق القراء في إناء أناه تارة أخرى، بفعل غواية «المتخيل الذاتي» التي صار كل من هبَّ و دبَّ يشهر الانتماء إليها. أم هو، في حقيقة الأمر، عقم في الخيال والإبداع؟ لماذا يتفوق كاتب أوربي شاب لم يعش من قريب ولا من بعيد ما يسمى الهولوكست، في تخليد الحدث روائيا؟ والأمثلة في هذا الصدد كثيرة لا داعي لسردها، لماذا تكون فلسطين حاضرة في كتابة الخواطر، والبدايات الشعرية أو القصصية الأولى، وتغيب إلى غير رجعة، ما إن يتوهم ذلك الشاب أو تلك الفتاة، أنهما شبَّا عن الطوق، ولم تعد فلسطين جديرة بالكتابة، إن شعرا أو نثرا؟هل فلسطين نتغنى بها في الأقسام الثانوية، ونتنكر لها بعد حين؟ أليس من الواجب، أخلاقيا وأدبيا، تخليدها فنيا ولو من باب أضعف الإيمان؟ ألم يكتب كافكا رائعته «أمريكا» دون أن تطأ قدماه بلاد العم سام؟ هل جف نبع الخيال؟ أشدد على الخيال، وليس التقرير، إن للكتابات التوثيقية مجالها، كما للأفلام الخيالية أو التسجيلية دورها ومدارها. من المريب حقا أن مغتصِب الأرض يمعن في أصحابها قتلا، مدمرا البشر والشجر والحجر، ومع ذلك يسهر على إبقاء واقعة باتت قديمة الآن الهولوكست حية في وجدان كل مسيحيي وكل يهود العالم، ويفعل في المقابل كل ما في وسعه للتشويش، بل تشويه صورة أصحاب الأرض! إن كانت أجيال عربية قد نشأت وتربت على فكر وخيال وفن وأشعار وروايات واكبت وعد بلفور المشؤوم، والتهجير القسري، والنكبة والنكسة وما بينهما وما بعدهما من كل أصناف التشريد والإذلال في السجون وخارجها، هل من المعقول أن نترك الجيل الحاضر والأجيال المقبلة نَهْبا لروايات ولأفلام هاري بوتر أو توايلايت فقط، لأفلام هوليودية تتغذى على فكرة صفاء الجار الإسرائيلي، الذي تسوق عنه صورة ضحية الهولوكست والذي يعاني من عدوانية جاره العربي الذي يريد الإلقاء به في البحر، الذي تسوق عنه صورة العربي الجشع، المكبوت جنسيا، أو المسلم الإرهابي، المتعطش للدماء، بينما القاتل الحقيقي في مكان آخر، يصور على أنه ملاك؟ إن أدب المقاومة ليس جزءا من التاريخ الأدبي والنقدي فحسب، لا يكفي أن نعدد أشعار يوسف الخطيب وعبد الرحيم محمود وراشد حسين وإبراهيم طوقان ومحمود درويش وسميح القاسم أو قصص وروايات غسان كنفاني وإميل حبيبي وتوفيق فياض وليانة بدر وسحر خليفة على سبيل المثال لا الحصر. لا يكفي التعريف بأدب المقاومة الذي زامن الاستعمار الغربي للدول العربية في مشرقها ومغربها، بل صار من اللازم إعطاء دفعة قوية لأدب مقاوِم، مستمر ومتجدد. المفروض أن تتحول المأساة الفلسطينية إلى منبع للخيال منه ينهل الكتاب والشعراء، والرسامون ومختلف المشتغلين في الفن والجماليات والسينما والإعلام، أن يفعلوا ذلك ليس من باب «البروباغاندا» الرخيصة، العدائية، ولكن حتى لا تنسى الأجيال الناشئة، كيف تتكيف مع هذا الهولوكست الجديد، وتعتبره قدرا محتوما. صحيح أن الكُتاَّب في فلسطين وفي المهجر لا يكتبون عن شيء آخر حتى لو استعانوا بأشد الرموز غموضا، لكن الكِتاب الفلسطيني لا يجد طريقه إلى القارئ العربي شرقا وغربا بنفس اليسر والسهولة. ينبغي أن يعمم الإبداع الفلسطيني عربيا بما يشرف القامات الفلسطينية العالية وبما يخدم قضيتهم، وعلى الكتاب في باقي ربوع الوطن العربي، محليا، التزود من معين فلسطين لضخ روح جديدة ومتجددة في وجدان النشء ودماء متجددة في فكر يكاد يصيبه الشلل من فرط هيمنة خطاب التيئيس والدفع إلى الانكفاء على الذات والانفصال وجدانيا وفنيا وجماليا عن عمقهم التاريخي والحضاري المُشرِق لأرض «كانت تسمى فلسطين، صارت تسمى فلسطين».