منذ سنوات طوال وحروفُ اسمِها تتردّدُ بيني وبين أًصدقائي الشعراء والأدباء، يسألونني عن علاقتي بها، وما من علاقة لا من بعيدٍ ولا مِن قريب، سوى حشدي بحُبّ استطلاع لمعرفة مَن تكون تلك! وتشاءُ الصدف أن تصلني منها رسالةٌ موجّهةٌ لصديقي د. محمد بكر البوجي، من ضمن مجموعة أصدقاء آخرين، ولا يتوانى د. البوجي بإسعافي برقم هاتفها، ليتمّ الاتصال وتنظيم لقاء تعارف في فندق سانت جبريئيل في الناصرة مدينة البشارة، على مدار يوميْن حميميْن وجميليْن، ننساق كلتانا في روح واحدة وحديث طويل متشعّبٍ ومُشوّقٍ، فلا عجب، حين تلتقي امرأة مميّزة أنوثةً وحضورًا، أن تتجذّر راسخةً في عمق الذاكرة، ببسمتها الطفوليّةٍ المحنّكةٍ العصيّة على النسيان! إنّها الشاعرة والكاتبة والمناضلة الفلسطينيّة حنان عوّاد، التي وُلدت في القدس عام 1951 وتقيم فيها، وقد أتمّت دراستها في مدارسها، وحصلت على دبلوم في التربية من معهد المعلّمات بفلسطين عام 1971، ثمّ حصلت على شهادة البكالوريوس في الآداب من جامعة بيروت العربية عام 1974، وشهادة الماجستير من جامعة ماكجيل بكندا، وهي رئيس فرع فلسطين في منظّمة المرأة العالميّة للسلام والحرّيّة، وعضو مجلس أمناء المجلس العربيّ في القدس، وعضو استشاري في مجلّة المواكب، وتحاضر في جامعة بيرزيت بفلسطين. ومن مؤلّفاتها: - قضايا عربيّة في أدب غادة السمّان: رسالة ماجستير بالإنجليزيّة من جامعة ماكجيل، كندا، صدرت عام 1983، وتُرجمت إلى العربيّة عن دار الطليعة، بيروت، 1989، (دراسة). - مِن دَمي أكتب، مواقف سياسيّة: وكالة أبو عرفة للصحافة والنشر، القدس 1983، (شعر وخواطر). - الفارسُ يُزفّ إلى الوطن: دار الأسوار، عكا، 1988، (شعر). - اخترت الخطر: اتّحاد الأدباء والكُتّاب الفلسطينيّين في الأراضي المحتلّة، القدس، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، 1989، (شعر). - صدى الحنين: دار المشارق، بيروت، 1992، (شعر). - حوار الأسلاك الشائكة: دار العروبة، القاهرة، 1993، (حوارات). - أثر النكبة في أدب سميرة عزّام، فلسطين. - صورة المرأة في أدب غسّان كنفاني: جامعة ماكجيل، كندا. - المرأة في الشعر الفلسطيني: - فلسطين كيف واكبتْ حنان عوّاد بداية التشكيلات الوطنيّة في القدس والضفّة الغربيّة وغزّة؟ وكيف عايشتْ فورة النبض الوطنيّ في الشارع الفلسطينيّ؟ وكيف تصفُ البدايات وما يُترجَم على أرض الواقع اليوم؟ سؤالٌ عميقٌ جدّا وكبيرٌ جدّا، يُشكّلُ مراحلَ تاريخيّةً مُتعدّدة في مستوى النضال الوطنيّ الفلسطينيّ، ففي الطفولة عِشنا على الفكرةِ القوميّةِ العربيّةِ، وكُنّا نستمعُ إلى صوتِ العربِ، وإلى البُعدِ الفِكريّ والثقافيّ والسياسيّ والإنسانيّ، الذي كان يَجمعُ الأُمّةَ العربيّةَ جمعاء. هذه التحضيراتُ النفسيّة في الطفولة، طبعًا تولّدت عندما انطلقت الثورةُ الفلسطينيّةُ عام 1965، لتُشكّلَ الحُلمَ ثانيةً على أرضِ الواقع، وهنالكَ البُعدُ النّضاليّ الفلسطينيّ على جميعِ المستوياتِ النّضاليّةِ والمُقاومة، بالكلمةِ والفكرة وفي الواقع العربيّ! وبالطبع، الروح الثائرة، وروح الثورة، والطمأنينة الفلسطينيّة، ابتدأت منذ أن تشكّلتْ مُنظّمةُ التحريرِ الفلسطينيّةِ، كمُمثّلٍ لهذا الشعب، يعني؛ الشعب في الداخل والخارج وجميعِ أماكنِ التواجُد. بدأ هنالك برنامجُ عملٍ سياسيٍّ ووطنيٍّ، وتأكيدٍ للهُويّةِ الوطنيّةِ الفلسطينيّةِ، وطبعًا نحن وفي مراحلِ الطفولةِ والإعداديّةِ والثانويّةِ، بدأنا تدريجيًّا نستوعبُ هذه الفكرة، وبدأنا نُحسّ بهذا الإحساسِ المُعمّقِ، بالإضافةِ إلى التربيةِ العائليّة، فوالدي؛ رحمة الله عليه، كان رجلًا مُثقّفًا جدًّا، وكانَ يَبثُّ في ذِهني كلَّ ملامحِ الهُويّةِ، ومَلامحَ الفِكرةِ، وكيفيّةَ الدفاعِ عنها على جميعِ المستويات. وطبعًا فوجئنا، وفوجئَ الشعبُ العربيُّ بنكسةِ حزيران، وكانَ لها وقعٌ كبيرٌ على المستوى الإبداعيِّ والسياسيِّ والاقتصاديّ، وعلى مفهومِ الحُلمِ الوطنيِّ الفلسطينيّ، الذي بدأت ملامحُهُ تتداخلُ في معنى الهزيمة، وفي معنى النكسة. وهذه الظروفُ الصعبةُ أيضًا انعكستْ على السيكولوجيّةِ الفلسطينيّة، وعلى السيكلوجيّةِ العربيّة، فإذا ما قرأنا ما كَتبَ الكُتّابُ ما بعدَ هزيمةِ حزيران، نجدُ كمًّا كبيرًا مِن الرواياتِ الواجمة، والقصائِدِ اليائسة والقلقةِ الخائفةِ اللّائمة، كذلك انطلقتْ أبعادُ جَلدِ الذّاتِ، ومحاسبةِ مَن السبب، وهذه القوّة العظمى التي كانت تُنادي بالحُرّيّةِ والعدالةِ وتحرير فلسطين، مِنَ النهرِ إلى البحر، كيف تهزمُ هذا الفِكرَ، وكيف تهزمُ الحقيقةَ في هذا الواقع؟ّ وبالطّبع، ردّات فِعلِ الكُتّاب ونحن جميعًا، تأخذُ المَنحى التواصُليّ النفسيّ، إذ لم نتوقّعْ أن تكونَ هنالِكَ هزيمة، ولكن كلّما كنّا نكبر، بدأنا نتعرّفُ على حجمِ المؤامرةِ الدوليّة التي صيغت لحمايةِ هذا الكيانِ الصهيونيّ، وبدأنا نرى أنّ القوّةَ النفسيّةَ للإنسانِ الفلسطينيّ والإنسانِ العربيّ، هي المُعادِل الموضوعيّ لجميع هذهِ المؤامرات التي كانت في العالم! فماذا تستطيعُ هذهِ القوّةُ النفسيّةُ مِن خلالِ الكلمةِ، ومن خلالِ البندقيّةِ، ومِن خلالِ الموقفِ السياسيّ أن تفعلَ، كي تُناطحَ كلَّ هذهِ القُوى؟ وكانَ هناكَ إصرارٌ فلسطينيٌّ على النضالِ وَعلى المقاومة، وعلى إثباتِ الذات، فحضورُ الرئيسِ الراحلِ أبو عمّار، رحمة الله عليه، في الأممِ المتّحدة، أطلقَ الصرخةَ العالميّة بأنّ هناك فلسطين، وأنّ هناك شعبٌ فلسطينيّ، وهذا الشعبُ رغمَ أنّ وطنَهُ اقتُطِعَ وهذا الفردوسُ المفقود، ولكن نحنُ نريدُ السلامَ الشاملَ والعادلَ، الذي يُثَبِّتُ الإنسانَ الفلسطينيَّ في وطنِه! وابتدأت العمليّةُ النضاليّةُ بمُكْتمَلاتِها ومُشتمَلاتها في جميعِ المواقع في بيروت، وتونس، وفي كلّ مكانٍ، وفي داخل الأرضِ المحتلّة بدأ العملُ النضاليّ، للمحافظةِ على الهُويّةِ الوطنيّة! وأمامَ هذه المعطياتِ كلِّها، بدأ قلمي ينمو، وأوّلُ مقالٍ كتبتُهُ ونُشِرَ في جريدةِ القدس، حين كنتُ في عمر 17 سنة، وكانَ رفضٌ تامٌّ للاحتلال، وتفاجأ قرّاءُ الجريدة، إذ عرفوا المرأةَ تكتبُ عن الأزياءِ والجَمال والمطبخ وأمورٍ تخصّها، ولكن أن تكتبَ امرأةٌ مقالًا مُضادًّا ضدَّ الواقع، وكيفَ يجبُ على الإنسانِ الفلسطينيِّ أن يُحافظَ على هُويّتِهِ، وكيفَ يقولُ لا، في وجهِ مَن قالَ نعم، أمامَ الإلتزاماتِ؟! وطبعًا، كنتُ خلالَ الفترةِ هذه أدرسُ وأقرأ يوميًّا عددًا كبيرًا مِن الكتب، وأتابعُ وأستأنسُ برأيِ والدَيَّ فيما أقرأ، وكيفَ أواجهُ القراءة، وكانَ والدي يُضيفُ لي الكثيرَ مِن المعلومات، وبدأتُ أتعمّقُ في الفِكرةِ الفلسطينيّة، وكانَ الاحتلالُ ومُمارساتُهُ يُؤثّران على الصياغة النفسيّة للإنسانِ الفلسطينيّ، فالحُرّيّةُ والعدالةُ غابتا عنّا أيّامَ الاحتلال، ولذلك بدأ قلمي يتحدّى، وعندما أسّست جريدة الشعب، كان لي زاوية تحرير في القدس، وأوّلُ مقالٍ كتبتُهُ "كلماتٌ ومواقف"، وكنتُ أكتبُ بالبُعدِ الرمزيّ، أي الأدبيّ مع السياسيّ، حتّى يستطيعَ القارئُ أن يستوعبَ هذا الموضوعَ، وأحيانًا كثّفتُ الرمزَ كثيرًا، كي تَمُرَّ المقالةُ مِن بين أسنان مِقصِّ الرقيب، لكنّ الرقيبَ يبدو أنه بَعدَ فترةٍ بدأ يفهمُ، وبدأت الرقابةُ الإسرائيليّة تشطبُ من مقالاتي سطرًا ثمّ سطريْن، ثمّ فقرةً كاملة، وبدأت تكبرُ مراحلُ الشطب، إلى أن تمّ شطبُ المقالةِ كلّها، التي تَدرُجُ تحتَ اسم حنان عوّاد، ومُنِعت من النشرِ، فجَمعتُ كلَّ المقالات، إذ لم تكن المقالاتُ سياسيّةً مباشرة، ولا أدبيّةً مباشرة، بل كانتْ بثوبٍ أدبيٍّ تحملُ فِكرًا، وليستْ طويلة، إنّما تحملُ هدفًا وإشارةً أو إيماءةً مُعيّنةً، وكنتُ حينَ أتجوّلُ في القدس وأيّ مكانٍ في فلسطين، كانَ الناسُ يوقفوني ويتساءلون عن مقالتي الأسبوعيّة! هذه كانت سلسلة كاملة في جريدة الشعب، وخلال ثماني سنواتٍ، كتبتها عن الحزن الفلسطينيّ، والألم والإنسان الفلسطينيّ والمقاومة، في كتاب "مِن دمي أكتبُ" عام 1982، وصارَ الكتابُ هو البديلُ للمقالةِ المشطوبةِ في الصحف! في الثمانيناتِ كانت القدس هي مركزيّةُ الثورةِ ومركزيّةُ المُنظّمة، وكنّا على علاقةٍ متواصلةٍ مع القيادةِ في تونس، فأسّسنا نقاباتٍ واتحادات، وكانت الفكرةُ الوطنيّةُ الذاتيّةُ التي تنَفّذتْ على أرض الواقع، فانطلقتْ إبداعاتٌ مِن الفكرةِ الوطنيّة، وطبعًا تابعتُ الكتابةَ بالرغم مِن شطب الرقيب لمقالاتي، وكانت اجتماعاتٌ ولقاءاتٌ ونشاطاتٌ أدبيّةٌ كثيرة، وكان صوتُ الثورة يَجمعُ الكُتّابَ مِن كلّ أنحاءِ فلسطين، وهذهِ النشاطاتُ تحتاجُ إلى إبداعاتٍ وكتاباتٍ، بالإضافةِ إلى ذلك، طبعًا البُعدُ الأكاديميّ والعِلميّ الذي كنتُ أتابعُ به، وبالتالي ليس فقط المقالة الإبداعيّة، وإنّما أيضًا الدراسات السياسيّة والاجتماعيّة، وكلّ ما يتعلّقُ بالفكرةِ الوطنيّة الفلسطينيّة! درستُ في عدّةِ جامعاتٍ في العالم، وفي عدّة تخصّصاتٍ أيضًا، فكان عندي نهمٌ دراسيٌّ وجنونٌ وإدمانٌ وجوعٌ دراسيّ بما معناه، وكنتُ أتخرّجُ مِن جامعتيْنِ في آنٍ واحد، وأحصلُ على شهادتيْن في آن واحد، من خلال الدوام في إحدى الجامعات، ومن خلال المُراسلة في الأخرى، فحصلتُ على درجتيْن من البكالوريوس في الأدب العربيّ والنقد، وفي الأدب المقارن أيضًا، وحين بدأتُ أحضّرُ للدكتوراة في جامعتيْن، وكنتُ قادرةً أن أنجزَ العملَ في كلتيهما، لولا أنّ الجامعتيْن فرضتا تواجدي، وتابعت في إحداها، والدكتوراة هي ليست نهاية لبداية المعرفة، لأنّ المعرفة كالأنهار وكالأمواج، فأنتِ تُتابعين الحركة الأدبيّةَ الثقافيّةَ والسياسيّة! حنان عوّاد عايشتْ جيلًا مِن المثقّفين، جزءٌ قليلٌ منهم حافظ على الشكلِ والمضمونِ الثقافيّ في مسيرتِهِ الأدبيّة، والغالبيّة انحازتْ للسياسة، ممّا يَفرضُ تساؤلًا؛ لماذا هذا الانحيازُ للسياسة؟ أوّلًا؛ هنالكَ قضيّةٌ مُهمّةٌ جدًّا بالنسبةِ للأدب الفلسطينيّ والإبداع الفلسطينيّ، فالعلاقة علاقة التوأمة ما بين السياسيّ والمُبدع. هنالكَ تعليلٌ أو تفسيرٌ لهذا التلازم ما بين الكلمة والسياسة، فنحن أصحابُ قضيّةٍ جمْعيّةٍ، ووجدانٍ جمْعيٍّ للإنسانِ الفلسطينيّ، فليست هي قضيّةً عابرةً، أو قضيّةً جزئيّةً، أو مرحليّةً من حياتِنا النضاليّة، هذه القضيّةُ أخذت روحَنا أيضًا، فلذلك؛ الإبداعُ الفلسطينيُّ كان مربوطًا ربطًا مباشرًا بالسياسة! لكن هنالك فرقٌ كبيرٌ، فالسياسة تعني القدرةَ على تحويلِ المُمكنِ لصالحِ الشعبِ الفلسطينيّ، هذا أوّلًا، أو السياسة هي السياسيّ الذي يُقدّمُ البُعدَ السياسيّ، فالسياسةُ هي الممكنُ. لكنّ الأدبَ هو المُطلَق. فكيف يستطيعُ الأديبُ أن يَمزجَ ما بين المُمكنِ والمُطلَقِ، في بُعدٍ أدبيٍّ فنّيٍّ يَصلُ إلى المُتلقّي؟ طبعًا، نحنُ خضعنا وكثيرٌ مِن الكُتّاب لأدبِ الشِّعار، يعني؛ مَن تَحدّثَ عن فلسطين في شِعارِها، بدونِ مُراعاةٍ للبُعدِ الفنّيِ كما يجبُ أن يكون، لذلكَ محمود درويش- طيّب اللهُ ثراه- قال: "اِرحمونا مِن هذا الحبّ القاسي"! إذ كانَ كثيرٌ مِن الكُتّابِ المَعروفينَ والقادرينَ على حمْلِ الرسالةِ الوطنيّةِ، مَن تَحدّثَ عن فلسطين بقصيدةٍ قد لا تكونُ مُكتمِلةَ الآليّة، كانَ فيها تجييشٌ للمشاعر، وتَخدُمُ المرحلةَ الشعاراتيّة، فالأدب هو فنٌّ وهو روحٌ وتواصلٌ وإبداع، ويجبُ أن يكونَ عنصرُ الإبداعِ في أيّة كلمةٍ تُقالُ لفلسطين، خاصّةً إذا كانت في المحاور الأدبيّة، فتختلفُ عن المقال الصحافيّ، أو المقال السياسيّ، فالعنصرُ الفنّيّ في الأدب ضرورةٌ حتميّةٌ، والعنصرُ الأدبيّ أيضًا ضرورةٌ حتميّة، ويجبُ أن يليقَ كلامُ المُبدِع بمَن يَتحدّثُ معهم، ويليقُ أيضًا بفلسطين. لذلك؛ كانت هذه مُهمّةٌ لكتّابنا الكبار، وعلى رأسِهم محمود درويش، فقد نجح بتفوّقٍ غيرِ عاديّ في وضع العروس فلسطين، في ثوبِها الأبيض المُزركش بكلّ إبداعات الفنون، وكذلك معين بسيسو، وسميح القاسم، والعديد من شعرائِنا الذين أبدعوا في صياغةِ الفكرةِ الفلسطينيّةِ دون شعار، ولكن بعُمقٍ وتفاصيلٍ إبداعيّةٍ فنّيّةٍ، تصلُ إلى قلب المُتلقّي، ويعيشُ فيها أيضًا بُعدًا خياليًّا ووجدانيًّا وواقعيّا. ما بعد التوقيع على اتفاقيّة أوسلو، أصبح الحديث عن إشكاليّةٍ بين السياسيّ والثقافيّ! ما مدى وجود هذه الإشكاليّة، وكيف يمكن إعادة الروح للوجه الثقافيّ وللمثقّف، بالشكل الذي رسمَتْهُ انتفاضةُ الحجر مثلًا؟ أقولُ لكِ بصراحة، أنّنا بعدَ اتّفاقيّة أوسلو، واكبنا الاتفاقيّة مع سيادة الرئيس الراحل، رحمة الله عليه، بتفاصيلِها، وبتحرّكاتِها، وبمؤتمراتِها التي كانت تتحرّك، فاتّفاقيّة أوسلو عكسَت على أرواحِنا بُعدًا يائسًا حقيقة، بمعنى؛ وقفات تشنُّجٍ، فمعظمُ الشعراءِ والأدباءِ الذينَ يَحملونَ الانتماءَ الحقيقيّ إلى الوطن، توقّفوا في لحظاتٍ وفي تساؤلاتٍ، لمحاولة فهم ما يجري أوّلًا. وثانيًا، أنا أرجعُ لكتابي "الفارسُ يُزَفُّ إلى الوطن"، أو كتاب "مِن دمي أكتبُ"، وأنا أتحدّثُ عن فلسطين بكامل إبداعاتِها وجَماليّاتِها، وبهذا النمط من التحدّي الصارخ كتبتُ المقالات كالبندقيّة تمامًا، يعني تتحدّثُ عن الثورة في لبنان، وعن صبرا وشاتيلّا، وعن كلّ مواقع النضال الفلسطينيّة فجاة ماذا سيفعلُ القلمُ، وعلينا أن نتحدّثَ عن السلام؟ بأيّ معنى هذا السلام؟ وما هو السلام؟ وأيّ سلامٍ نبتغيه؟ بالطبع ومنطقيًّا، الثورة لا بدّ أن يكون لها ثمرٌ من ثمراتها، يعني الثورة الفلسطينيّة، والنضال المقاوِم، والانتفاضة، يجبُ أن يكون هناك ثمر من ثمراتها، وأن يتشكّلَ شيءٌ على الأرض الواقع، فكانَ هاجسُ الرئيس الراحل، رحمة الله عليه، أن يُوطّدَ القَدمَ الفلسطينيّة في أرض فلسطين، ولو شبر من أرض فلسطين كان يريدُ أن يحصلَ عليه، حتّى يمتدّ هذا الشبر، وطبعًا كمفاجأة اندهش الإنسان الفلسطينيّ، ولكن لحظات الاندهاش لم تَخلق أدبًا رفيعًا، بل كان أدبًا ناقدًا للمرحلة، فمثلًا إدوارد سعيد كان مُفكّرًا فلسطينيًّا من الطراز الأوّل، فلمّا كتب "غزّة وأريحا"، لم يكن هذا إدوارد سعيد، أو أسلوب الرجُل العبقريّ العظيم في اختيار الكلمات، وأنا تحدّثت معه في ذلك الوقت، وما حدث له هو حدث لمعظمنا، وماذا يعني اتفاق غزّة أريحا؟ أين فلسطين من ذلك؟ فمنحى المُثقّفِ أخذ منحى آخر، وتساؤلات إلى أين؟ وأين نحن؟ ولكنّنا نثقُ بالرجُل ثقةً مُطلَقةً كبطل السلام، ونحترمُهُ كرمزٍ للثورةِ الفلسطينيّة، لذلك مع الدهشةِ ومع الحزن والوجوم غير العاديّ الذي أصابَ أقلامَنا، بدأتُ أنا وآخرون وتدريجيًّا أيضًا نتداخلُ بوقائع ما يجري في العالم، فأين نحن؟ وماذا يجبُ أن نفعلَ لتكونَ لنا قدَمٌ في فلسطين؟ وماذا يجبُ أن نفعلَ ولم يُطبَّق على أرض فلسطين؟ أيُّ قرارٍ مِن قراراتِ الدوليّة، سواء كانت قرارات مجلس الأمن أو قرارات الهيئة المتّحدة؟ فهل نقبلُ بالممكن السياسيّ؟ وهل نُحقّقُ فيما بعدُ النصيبَ الأكبر وتحريرًا أكبر؟ العالمُ العربيّ لم تكنْ لديهِ الجاهزيّةُ للقتال، ولا يريدُ أن يُطلقَ أيّةَ رصاصة، والكلُّ يَدعمُ فكرةَ الوضع السياسيّ، ولكنّ "إسرائيل" كانت تقومُ بما تريد، وفي الأمم المتّحدة تأخذُ القرارَ السياسيّ، ولها دعمٌ عسكريٌّ دائمٌ ومُتوفّرٌ سنويًّا. هذا هو الوضعُ الفلسطينيّ، وقد كانت بيروتُ مَعقلَ المقاومةِ ومعقلَ الثورةِ ومعقلَ الفكرةِ ومَعقلَ الإبداع وكلّ شيء، ولكن حينما خرجت المقاومةُ من بيروت، وانتقلتْ إلى تونس، فالبُعدُ الجغرافيّ تغيّرَ، والوضعُ تغيّر، رغمَ وجودِ عمليّاتٍ ومقاومة، لكن ليست بالزخم والكَمّ الذي كانته في السابق، وبدأت طبعًا هذه المفاوضات بكيفيّة تحقيق شيء ما على أرض فلسطين، وقامت الاتفاقيّةُ، ونحنُ كتَبْنا ونقَدْنا وصرَخنا، ومِن بَعدِ الصدمةِ، بدأ الإنسانُ الفلسطينيّ بالتفكير العقلانيّ السياسيّ المتوازن في التوازنات الدوليّة، فكان أصعبُ ما يمكن، أن تأخذَ الممكنَ السياسيّ والمُطلقَ الأدبيّ، فلا أديب يُدافعُ عن الحقّ وعن الحرّيّة ولا يُجزّئ فلسطين، فلا يتحدّثُ عن القدس ويترك يافا، ففلسطين هي كلٌّ متكاملٌ وبُعدٌ وجدانيٌّ شموليٌّ وبُعدٌ إنسانيٌّ شموليّ، إذن؛ كيف أكتبُ عن المُطلَقِ الذي عشتُ حياتي أدافعُ عنه كما عاشه زملائي الكُتّاب؟ وأنا كمواطن فلسطينيٍّ في أرض فلسطين، وتحت الاحتلال، وفي برنامج سياسيّ قادِم، كيف أستطيعُ أن أتفهّمَ هذه المرحلةَ وخلفيّةَ هذه المرحلة؟ كان صعبًا جدًّا، ولكن مع الأيّام بدأنا تدريجيًّا نفهمُ هذه المعاركَ العالميّةَ تجاهَ الشعب الفلسطينيّ. في استعراضٍ لمسيرةِ حنان عوّاد، نجدُ الكوفيّةَ تنفردُ على أكتافها شكلًا وشِعرًا ووطنًا. ما الكامنُ من أسرارٍ بين خيوط الكوفيّة؟ منذ أن بدأتُ النضالَ الوطنيّ وأنا ألتفُّ بهذه الكوفيّة، رمزَ الصعودِ والصمودِ الفلسطينيّ، ورمزَ النضالِ والقتالِ الفلسطينيِّ، ورمزَ الحقِّ الفلسطينيّ، يعني؛ لها علاقةٌ بالتاريخ وعلاقةٌ بالمقاومةِ والبندقيّة، وعلاقة بأبو عمّار الذي اعتمرَ الكوفيّة ورَفعها، وكانت الكوفيّة لا تفارقني، حتّى حين أذهبُ عبرَ المطار، رغمَ أنّي كنتُ أوقَفُ ويُحاولون أخذها منّي، وكنتُ أناقشُهم إن كان هناكَ قانونٌ دوليٌّ في العالم، يُبرّرُ لكم أن تأخذوا الكوفيّة منّي فزوّدوني به، وأنا سأنزعها. لذلك لم أنزعها أبدًا في حياتي، فهذه الخيوطُ البيضاءُ والسوداءُ تحملُ الكثيرَ من العشقِ الفلسطينيّ والنضالِ الفلسطينيّ، وللرّمزيّة الكبرى التي تَجمعُ ابناءَ الشعبِ الفلسطينيِّ الواحد. صحيحٌ أنّ هناكَ أكثرَ مِن لونٍ للكوفيّة، إلّا أنّ هذهِ الكوفيّةَ السوداءَ البيضاءَ هي اللونُ السائد، والوجدانُ الجَمْعيّ الذي يَجمعُ الفكرَ الفلسطينيّ، ومِظلّةٌ للإنسانِ الفلسطينيّ بشكلٍ عامّ. وأغربُ موقفٍ حدثٍ في حياتي كانَ قبلَ عدّة أشهر، فكنتُ قادمةً للجسر في وقتِ حَرٍّ شديدٍ، وكوفيّتي في حقيبتي، وإذا بالعمّال الذين كانوا في الجسر يستوقفونني ويسألونني: حنان، أين الكوفيّة؟ هل غيّرتِ الاتّجاه؟ فحتّى شعبي وقرّائي اعتادوا أن يَرَوْني بالكوفيّة كجزءٍ منّي. هناكَ مَن يقول: كلّما نظرنا في صورة حنان عوّاد، يجذبُنا الحنينُ للقدسِ بشوارعِها العتيقةِ ولاتّحاداتِها، ولبيتِ الشرق ومسرحِ الحكواتي .. ماذا فقدنا بمنظور هؤلاء الذين يقولون، وماذا تبقّى لدينا؟ بقي لنا كلُّ شيء، فالقدسُ باقيةٌ وذكرياتُنا باقيةٌ وعملُنا النضاليُّ باقٍ، رغمَ كلّ محاولاتِ الاحتلالِ لطمس الهُويّة، ومحاولةِ مُصادرةِ الأراضي وبناءِ المستوطنات، فالقدسُ ليستْ فقط هذه المواقع التي ذكرتِها، وإنّما القدسُ هي كلّ بقعةٍ مِن أرض القدس، هي البلد القديمة، وهي المناطق المحيطة، وهي الكنائسُ المُشعّة، وهي المسجدُ الاقصى أيضًا، وهي كلّ عوامل الجَمال التاريخيّ التي صاغَها التاريخُ في مدينةِ القدس، وهي باقيةٌ مهما حاولَ الاحتلال، لأنّها بالنسبةِ لي عشتُها خطوةً خطوةً يوميًّا وأنا صغيرة، وكنتُ أعيشُ خارجَ القدس العتيقة، ولكن يوميًّا كنتُ أذهبُ إلى القدس القديمة، وأقضي أوقاتًا رائعةً جدًّا بكلّ ملامحِها، وكانت لي برامجي الخاصّة في العُطلِ المدرسيّةِ والإجازات والجمعة والأحد، فكنتُ أقفزُ على الدرّاجات في باب العمود، وأصعدُ إلى حارة النصارى، وأتحدّثُ مع تُجّارٍ وأشتري أشياءَ، وأسمعُ تهاليلَ الصلواتِ سواء في الكنائس أو في المسجدِ، وأنا الآنَ أكتبُ في كتابي مُذكّراتٍ سياسيّةً وأجَسّدُ الوضعَ فيها، واليومَ حينَ أمرُّ ببعضِ التجّارِ القَدامى الذين كنتُ أشتري منهم بعضَ الأشياء، كانوا صغارًا وكبروا، فهذه الأيّامُ والسنين التي تركَت البصماتِ عليها، لا يمكن أن تذهبَ مهما حاولَ الاحتلالُ. وطبيعيّ، عندما قلتِ أُغلِقَ بيتُ الشرق، لكنّ امتدادَ العملِ الدبلوماسيّ والسياسيّ في آفاقٍ أخرى مختلفةٍ، ومسرحُ الحكواتيّ لا زالَ يَعملُ مِن وقتٍ لآخر، ولكن قبلَ ذلكَ الإغلاق الذي منَعَ أبناءَ الشعبِ الفلسطينيّ مِن التواجد في القدس، كنّا الحركةُ جميعُها نلتقي في القدس، وأيُّ مهرجانٍ تُرفعُ شعلتُهُ مِن مدينة القدس، وهذهِ أثّرت في السياق العامّ، ولكنّ البُعدَ السيكلوجيّ والبُعدَ النفسيّ، والبقاءَ والمواطنةَ الفلسطينيّةَ في داخل القدس، رغمَ القهر ومحاولاتِ المصادرةِ. هذهِ علامةٌ فارقةٌ وعلامةٌ مُهمّةٌ في صياغةِ التاريخِ الوطنيّ الفلسطينيّ. صحيحٌ أنّها صوّرتْ أملاكًا وأراض كثيرة، ولكن أقول كما قال الرئيس الشهيد: "إنّني أراهنُ على أبناءِ شعبي"، والإنسانُ هو الذي سيحملُ خطواتِ النضالِ، والإنسانُ هو الذي يحافظُ على ما كان وما يكون وسيكون. وماذا عن محاولاتِ تهجيرِ سكّان القدس منذ عام 1967؟ محاولاتُ التهجيرِ كان فيها المفاجآتُ والمداهماتُ المستمرّة إلى البيوتِ والأراضي، ومصادرةُ مواقع استراتيجيّة في القدس من آلافِ الدونمات، والآن يتمُّ مصادرةُ بيوتٍ في مناطقَ متعدّدةٍ في سلوان والشيخ جرّاح، حتّى في منطقة الطور، وهذه المصادرةُ مستمرّةٌ ولم تتوقّف إطلاقًا، وقامَ الاحتلالُ بسحْبِ هُويّاتِ المواطنينَ في مدينة القدس، حينما وَضعوا الحواجزَ في قلندية، ومَنعوا الناس من دخول القدس. لذلك؛ مَن يعيشُ خارجَ المكانِ لا يَحقُّ له أن يحملَ هُويّةَ القدس، ولذلك هناك موجاتٌ من تحرّكاتٍ فلسطينيّةٍ كبيرة، ومستعدٌّ الإنسانُ الفلسطينيّ في مدينة القدس أن تكونَ له عائلةٌ كبيرةٌ في بيتٍ صغير وحتّى غرفة، حتّى يُحافظ على البقاء، ومَن سُحبت منهم الهُويّة، لم يستطيعوا دخولَ القدس إلّا بتصريحٍ خاصٍّ، ولمدّةٍ طويلةٍ خلالَ الانتفاضة لم تُعطَ التصاريح، والعائلةُ الفلسطينيّةُ تفتّتْ تمامًا، فمثلًا عائلتي في الضفّة لم أستطع أن أراهم أو ألتقيَ بهم خلالَ فترة الانتفاضةِ الثانية، فكانت هناكَ حواجز ولا يَسمحون لنا بالتحرّكِ والمرور، وحتّى هذه اللحظات أيضًا تُعطى التصاريحُ لعددٍ قليلٍ من الناس، ولا يستطيعون أن يدخلوا إلى مدينةِ القدس، ولو حصلت مناسبةُ فرحٍ أو حزنٍ، فالأهلُ في المناطق العديدةِ لا يستطيعونَ أن يَحضروا ويتواجدوا، لذلك؛ قسّمَ الاحتلالُ العائلاتِ الفلسطينيّة، وحتّى فكفكوا المواقعَ أيضًا، فيمكن أن تشاهدي بيتًا يُحسبُ نصفُهُ في الضفّة الغربيّة، ونصفُهُ الآخرُ في القدس. فالتشكّلاتُ وما يَجري في فلسطين، لا يمكنُ أن نجدَها إلّا في أساطيرِ الأوّلين، وهيَ اليوم تنفيذُ أساطيرِ الأوّلين، كي تكونَ وقائعَ على هذه الأرض، وحتّى مهما شَرحت للعالم الخارجيّ، لا يمكنُهُ أن يستوعبَ ماذا يعني ذلك، وكيف أنّ إنسانًا مِن رام الله يَبعد 16 كم عن القدس، لا يستطيعُ دخولَ القدس، وهي نفسُ الوحدةِ الجغرافيّةِ ونفسُ التاريخ. فلذلك؛ هناك ظلمٌ وقعَ على الإنسانِ الفلسطينيّ، لم يُحدّثُ التاريخُ بمِثلِهِ، فالجدارُ يَعكسُ حاجزًا نفسيًّا عندَ الإنسانِ الفلسطينيّ، ويُحبِطُ العزائمَ، وأحيانًا كثيرة هناك اشياءُ مُهمّةٌ تُحرّكُكِ وتتحرّكين إليها، ولكن صعوبةَ الطريقِ وصعوبةَ الوصولِ تَحُدُّ وتجعلُك تتراجعين، فمثلًا؛ تخيّلي مَرافقَ الأطفال، وكيف يَصلُ الأطفالُ إلى مدارسِهم مِن خلالِ بوّاباتِ الحصارِ والجدار، وكذلكَ النساءَ والأمّهاتِ الحواملَ، وكيف يَصلنَ إلى المستشفيات! لم يُحاصَر المكانُ الفلسطينيّ فقط، كذلك حوصرَ الزمانُ الفلسطينيُّ والإنسانُ الفلسطينيّ والسيكلوجيّةُ الفلسطينيّة أيضًا. هذه الأمورُ طبعًا لا يتلمّسُها الكلّ، فحينما تأتي إلينا وفودٌ تضامنيّةٌ، لا تستطيعُ أن تُدركَ إلى أيّ مدى ستكون الكلماتُ والوقائعُ قادرةً على تصوير ما يجري، فهذا ليس أبارتهايد فقط (فصل عنصريّ)، أو إجرام فقط، ولا يمكنُ تصويرُهُ، فالكلماتُ تتوقّفُ عندما تتحدّثُ عن فلسطين، فكيف يكونُ الكاتبُ أمامَ كلّ هذه المواقف؟ هل استطاعَ الكاتبُ الفلسطينيّ والإعلامُ الفلسطينيّ أن يوصلَ معاناةَ الشعب الفلسطينيّ وعبرَ الحواجز؟ وما مدى التأثير على الفِكر الأوروبي، وعلى تغييرِ مفاهيمَ سائدةٍ وزعزعتِها؟ الإعلامُ جدًّا مُهمٌّ، وفي المرحلةِ الحاليّة، الإعلامُ ساعدَ القضيّةَ الفلسطينيّةَ إلى حدٍّ كبير، ليسَ الإعلامُ الفلسطينيُّ فقط، وأيضًا الإعلامُ العربيّ، فعَكس ما يجري في غزة وفي القدس وفي أنحاء فلسطين، فالإعلامُ أعطى صورةً للحياة، وفي السابق لم يكن الإعلامُ العالميُّ يأخذ إلّا من الجانب الإسرائيليّ، وما تبُثُّهُ مِن صورٍ وادّعاءاتٍ تدّعيها إسرائيل. وحينما ذهبتُ إلى أمريكا في ندوات، كان هناك تعاطفٌ مع القضيّة الفلسطينيّة، وقامَ أحدُ الموجودين الأمريكان وقال: "إذا أردتم أن تعرفوا عن فلسطين، اُنظروا إلى تلفزيون فلسطين، وأحبّذ الجزيرة لأنّها تأتيكم بتفاصيلَ أخرى". وهذا يعني؛ أنّه خاصّةً خلالَ الحروب المُستمرّةِ والمُداهماتِ والاغتيالات، لعبَ الإعلامُ دورًا كبيرًا في إبراز الصوتِ الفلسطينيّ، ونقطةً أخرى هي عملُنا الدوليّ والجهودُ الدؤوبة مع هذه الآلام أيضًا، في بثِّ الفِكرةِ وفِعلِ القرارِ السياسيّ واللقاءاتِ مع العالم، ورغمَ صعوبةِ الظروف، إلّا أنّه بدأ هناك تعاطفٌ وتفهّمٌ كبيرٌ لِما يجري، فإسرائيلُ لا تقفُ ولا تتوقّفُ عن تهديدِ مَن يُساندُ ويقفُ مع القضيّةِ الفلسطينيّة، ولكن مع إرهاب الدولة المنظّم، الذي صاغتْهُ الحكومةُ الإسرائيليّةُ على أبناءِ الشعب الفلسطينيّ بكافّةِ أشكالِهِ وصُورِه لم تعُد الأمورُ مغيّبةً عن العالم. لذلك؛ في السابق كان أصدقاؤُنا يقفونَ معنا، ولكن في المحفل الدوليّ لم يجرؤوا أن يَرفعوا أصواتهم ويتحَدَّوْا، وكانوا يصمتون ويدعمون من الخلف، وينتظرون نجاحَنا في أيّةِ قمّةٍ وأيّ موقفٍ عالميٍّ نقومُ به. أمّا الآن فقد بدأ المُفكّرونَ والشعوبُ يُعلنونَ عن مواقفِهم ويكتبون، ففي أحداثِ الحربِ على غزّة جاءتني برقيّةٌ مباشرة من شعراءَ عالميّين، ومِن أرقى ما يمكن ومن غير لفٍّ ولا دوران، وبكلماتٍ واضحةٍ لا تحملُ التأويلَ تقول: "نحن نشجبُ هذا الإرهابَ وهذا الأبرتهايد"! وهذا الكلامُ لم يكن في السابق، مثل إدوار سعيد والكُتّاب والمُفكّرين الفلسطينيّين في هذه الرسالة التي يحملونها. لذلك أنا أقول دائمًا، إنّ الذي يُمثّلُ فلسطين عليه مسؤوليّةٌ كبرى، يجبُ أن لا تغفلَ عينُهُ ولا ينام، عندما يكونُ في محفلٍ دوليٍّ ومسؤوليّةٍ سياسيّة، لا ينامُ كمثقّفٍ وكسياسيٍّ وكإنسان، لأنّ العلاقاتِ الإنسانيّةَ والفهمَ الإنسانيّ والكيفيّة التي يتكلّم بها ويطرحُ القضيّة الفلسطينيّة والعمل الدوليّ ليس سهلًا، وليس مُجرّدَ ذهابٍ وإيابٍ من المؤتمر، فالموضوعُ مُهمٌّ جدًّا مثلَ الاستراتيجيّةِ العسكريّةِ تمامًا. ما زال أبو عمّار العنوان الأبرز في روحيّة حنان عوّاد شعرًا ومضمونًا. ما هي المواقف التي لا تنساها حنان في رعايتِهِ للثقافة والمثقّفين ولكِ شخصيًّا؟ هل هذا ينطبق على الرئيس أبو مازن أيضًا؟ العشقُ المُطلَقُ أنتِ قلتِ، فأبو عمّار هو الرمزُ والإنسانُ الخالدُ أيضًا بالنسبة لي، وقبلَ أن أتمكّنَ مِن لقائِهِ رحمة الله عليه، كنتُ أكتبُ عنه دائمًا بمقالاتٍ تُجسّدُ الثورةَ وقادةَ الثورة، وتُجسّدُ الفدائي الأوّلَ والفدائيّين جميعًا، لكن كنتُ دائمًا أتساءلُ، كيف سأرى هذا العملاقَ عن قرب؟ وهو كان يتابعُ كتاباتي دائمًا، ويطلبُ نشْرَها في مجلّة المجلس الوطنيّ، والمجلّاتِ الصادرةِ عن مُنظّمةِ التحرير في ذلك الوقت، وطبعًا أنتِ تعرفينَ أنّه مِن الصعب جدًّا في ذلك الوقت التواصلَ العمليّ، لأنّ أيّ لقاءٍ أو أيّ اتصالٍ كان يُؤدّي إلى السجن. وعندما أُعلنَ عام 1988 إعلانُ دولتيْنِ في جنينف، طبعًا أنا دُعيتُ هناك، وقبلَها كان عليّ أن أقدّمَ صورةَ الانتفاضةِ وصورة النضالِ الفلسطينيّ في الخليج العربيّ، إذ كانتْ بعضُ القُوى تَدّعي أنّها هي التي قامت بالانتفاضة، وأنّها هي التي نجحتْ في إبرازِ الصوتِ الوطنيّ الفلسطينيّ، فكانَ عليّ أن أذهبَ بتنسيقٍ معَ السيد الرئيس الراحل، ومع الأخ أبو جهاد إلى الخليج العربيّ لأُبرزَ صوتَ الانتفاضة، وكلُّ البرامجِ كانت تُغطّي كلّ الخليج العربيّ في ذلك الوقت، وهناك التقيتُ عمليًّا مع الرئيس أبو عمّار وجهًا لوجه، وكان اللقاءُ غيرَ عاديٍّ في الكويت، وكلّ الصحفيّين من حولي في ذلك الوقت، ويأخذنا الحديثُ عن انتفاضة الأرض المُحتلّة، وكنتُ أتحدّثُ بنظرةٍ فكريّةٍ وثقافيّةٍ راقية، والسفراءُ اجتمعوا من حولي يستمعون، مَن هذه الآتيةُ مِن الأرض المُحتلّة، والتي تتحدّثُ بهذا التحدّي وبهذه اللغة؟ وطبعًا أبو عمّار يعرفُني، فجلستُ معهُ جلسةً هامّةً جدًّا، وقد أخذني بالأحضان وبكلّ احترامٍ وتقدير، وتحيّرتُ كيف أبدأ الحديثَ، فقالَ لي إنّه يُتابعُني. فقلتُ له: قالت رابعة العدويّةُ وهي تُناجي الذات الإلهيّة: "أحبُّكَ حُبّيْنِ حُبَّ الهَوى وحُبًّا لأنّكَ أهلٌ لذاكا"، وأمّا أنا فأحبُّكَ لثلاث، حُبَّ الوطن، وحُبَّ الهوى، وحُبًّا لأنّكَ أهلُ أهلٍ لذاكا. ففي ذلك الوقت لمعَت عينُ سيّدي الرئيس دامعة، وقدّمتُ له خارطة فلسطينوالقدس، وقدّم لي خاتمًا. الجميلة حنان عوّاد لم تتزوّج، فهل تراهُ نصّبَكِ عروسَ فلسطين المنذورة؟ نعم، حمّلني مِن خلالِ الخاتم مسؤوليّةً، وبكلّ ثقةٍ وبكلّ جُهدٍ لم أتوانَ في يومٍ من الأيّام أن أتقاعسَ عن أيّ شيء، ضمنَ حدودِ مسؤوليّاتي الكبرى، والخاتمُ غيرُ عاديّ، يَحملُ أكثرَ مِن رمزِ حقيقة، ومنذ تلك اللحظة، بدأ يُوجّهُ لي الرئيس مهامّ على الصعيد الدوليّ، مهامّ كبيرةً وصعبةً وقاسيةً أحيانًا في المؤتمرات، لأنّ الوضعَ الفلسطينيّ لم يكن سهلًا، والحمدُلله أنّني نجحتُ في تمثيلِهِ على مستوى الرؤساء، أو مع المنظّماتِ الدوليّة أو مع الناس، ولم أنكسر ولا مرّة، ولم أعمل بتنازلاتٍ مُعيّنةٍ في القرار السياسيّ، وكنتُ أرسلُ له بكلّ إنجازٍ يَتمُّ على الصعيد الثقافيّ والسياسيّ والقرار السياسيّ، وكنتُ أُطلعُهُ وأخاطبُهُ بشكلٍ مباشر، ومن أيّ مكانٍ في العالم، وكنتُ أسافرُ معهُ إلى أماكنَ عديدة. هل هنالك مواقف خاصّة مع أبو عمّار غيرَ الخاتم لا زالت تعتمرُ ذاكرة حنان عوّاد؟ كلُّ المواقفِ معهُ كانت خاصّةً ولا يمكنُ أن تُنسى في جميعِها، فهي سِجلٌّ حافلٌ في علاقتي السياسيّة والشخصيّة من المواقف التي تعجزُ الكلماتُ عن تصويرها، في كلّ موقفٍ وكلّ اجتماعٍ وفي كلّ رحلةِ سفر، كان إنسانًا راقيًا يُقدّرُ الإنسانَ حقيقة، سواء في الأحزان أو الأفراح تجدينه معك، فمثلًا عندما تُوفّي والدي كان السيد الرئيس في تونس، ولأوّل مرّة تُرسَلُ برقيّةٌ إلى الأرض المُحتلّة، وبقي يتّصل بي دائمًا لأنّه يعرف كم كان والدي عزيزًا عليّ، وأحيانًا في المؤتمرات والقضايا الشائكة كان يقول لي: "اجتهدي وخذي القرار"! ولذلك؛ بنيتُ له علاقاتٍ دوليّةً كبيرة، ففي عام 2004 وحينما أُراجعُ نفسي الآن أستغربُ، فقد قمتُ بمؤتمراتٍ تضامنيّةٍ له في جميع أنحاءِ العالم، وكلّ أسبوعيْن بدولة وبحضورِ كُتّابِ جائزة نوبل، ففي أحد المؤتمرات الهامّةِ جدًّا في البرتغال، كان ساراماكو قد جَمَعَ المُفكّرين البرتغاليّين جميعًا، فأنا قدّمتُ كلمةً عن فلسطين، وهو قدّم كلمةً عن فلسطين، وفتحنا الخطّ مع سيادة الرئيس رحمة الله عليه، وبدؤوا بالهُتافِ باللغةِ البرتغاليّة، وكانت معنويّاتُ الرئيسِ عاليةً جدًّا. ونفسُ الأمر أيضًا في تركيا، وكان محمود درويش رحمة الله عليه أيضًا موجودًا في الاحتفال، إذ نظّمتُ مهرجانًا تضامنيًّا راقيًا جدًّا بوجود الكُتّابِ والمُفكّرين، فأبو عمّار كان محبوبًا جدًّا، ولست وحدي فقط أُحبّه، وإنّما جميعُ الناس مَن عرفوا حقيقتَهُ وقدّسوهُ كثيرًا، فلذلكَ كانت تهتفُ الناسُ باسمِهِ بعفويّةٍ وبمحبّةٍ، ضمنَ برامجَ فيها قصائدُ وكلماتُ تضامن، ففي كولومبيا بعد وفاة أبو عمّار بعام، كنتُ ضيفةَ الشرفِ في مهرجانٍ ضخمٍ عالميّ، فكنت أنا وكُتّابٌ حاصلون على جائزة نوبل على المنصّة، فقرؤوا هم وأنا جاء دوري فقلت: "لو كان معي الرئيس الآن، لكانتْ كلمتُهُ هي الأولى". فلا تصدّقين كيف كان وكأنّك في بيروت أو فلسطين، هاجَ الحضورُ تصفيقًا وتصفيرًا وهتافًا لأبو عمّار، وهذا يدلّ كم كان له حضورٌ معنويٌّ. وفيي سيريلنكا بعدما أنهينا المؤتمر، خرجتُ أتمشّى ما بين الأشجار، فنظرَ الأطفالُ إلى كوفيّتي وبدؤوا يهتفون: "أبو عمّار أبو عمّار"! فبذورُ أبو عمّار في النفس كقائد ثوريّ وكرمزٍ للقضيّة الفلسطينيّةِ الوطنيّة، وحضور أبو عمّار لديّ يُمثّل في كثيرٍ من الأعمالِ والكتاباتِ التي كتبتها، ك "يوميّات الحصار" وقصائد كثيرة، وحينما جاء غزّة كتبتُ له هذا المقطع: توسّدْ قلوبَ العاشقين مُعانِقًا/ واسْتلقِ على فننِ الأشواقِ يا بطلُ/ واغفُ على همساتِ الشمسِ في دنفِ الأحداقِ/ وقبَلٌ مع النسمات ترتحلُ/ تُمطرُ ذاكَ الوجهَ منسوجًا على أرقٍ/ مِن كنوز الحبّ فيها الدفء يكتملُ/ توسّدْ والهوى لمّا الهوى يعلو إليكَ فينتشرُ / قدسيّةَ الأحداقِ تمشي في عيونٍ لا أحداقَ لها فتنتصرُ. نحن لا نعبُدُ أشخاصًا، ولكنّه الاحترام الكبيرَ والتقدير لهذه الرمزيّة، فهو ليس فقط رمزًا، فكان أكثرَ مِن رمزٍ، كان قائدًا وإنسانًا، والبُعد الإنسانيّ لازمَ أبو عمّار في الكثير من المناحي، وفي أحد اللقاءاتِ كان مؤتمر للمرأة، فاتّصل أعضاءُ البرلمان وطلبوا من رئاسةِ المؤتمر أن يلتقوا مع ممثّلة فلسطين، وجاء اثنان، شخصيّتان برلمانيّتان فقالا لي: "نُحمّلُكِ الأمانة بأن توصلي تحيّاتنا لأبو عمّار، وقولي له سينتصر". لماذا؟ "إنّنا ذهبنا مع وفد إلى الشرق لنزورَ أبو عمّار في الاعتصام، ولمّا اقتربنا من المقاطعة ارتجفنا من هذا الزعيمِ الكبير، وكيف سنلتقيه، وفجأة أبو عمّار نزلَ عن الدرج وفتح لنا باب السيّارة وأخذنا بالأحضان، وكان يُطعمُنا وقتَ العشاء كلَّ واحدٍ في فمِهِ لقمةً، فليسَ من المعقول أن يكونَ هذا الإنسانُ فقط زعيمًا بل ملاكًا، فنرجوكِ أن تُسلّمي عليه، وبلّغيهِ إعجابنا الشديد"! فلاحظي الرأي العامّ والبُعدَ الإنسانيّ الذي ميّز أبو عمّار كثيرًا، وفي الجانب السياسيّ والعسكريّ وبُعدِ القرار، فلا يُمكنُ لأيّ إنسانٍ أن يصلَ إلى أبو عمّار ويرجعَ خائبًا، ففي أحد الأيّام كنّا في المقاطعة وبمَراسمَ رسميّة، فانتبهَ أبو عمّار إلى عجوزٍ جاءت تطلبُ المساعدة، فقال للشباب: أوقفوا السيارة. ونزل وأخذها بالأحضان، وطلبَ منهم أن يصرفوا لها ما تريده. فهذه ميزاتُ أبو عمّار، أنّه أحبّ الشعبَ والناس، وفي أحد الأيّام في أواخر الحصار، كانت طاولةٌ في غرفةِ الاجتماعات، وأثناءَ الاجتماع كان يتحدّثُ ويمشي خلف الطاولة، فقلت له: "إنّ العالمَ العربيّ لم يُساندْكَ، فمَن سيساندُكَ يا أبو عمّار"؟ فقال: "أنا أراهنُ على شعبي، فأنا لا أُراهن على أيّ أحدٍ في الدنيا إلّا على شعبي"! كان أبو عمّار الصورةَ للشعب الفلسطينيّ، والصوتَ للشعب الفلسطينيّ، وهو أيضًا مُلهِمٌ بمعناه أنّ العملَ النضاليّ والرمزيّة التي يَحملُها، انعكست علينا في أعمالنا، والشخصيّةُ الأسطوريّةُ تعكسُ على روح الشاعر والمبدع، وبالتالي دائمًا نتفاعل مع هذه الشخصيّة بكلماتٍ علّها تليقُ بهذا المُطلَقِ الأبديّ! بعدَ إغلاق المؤسّسات الثقافيّةِ والنقابيّةِ في القدس، غابت القدسُ عن واجهةِ المشهد الثقافيّ. هل باعتقادك أنّ الفلسطينيّين يتحمّلون جزءًا من مسؤوليّة هذا الغياب، خاصّةً بعدَ أن أصبحتْ ملفًّا مِن ضمن مجموعة ملفّاتٍ على طاولةِ السياسيّين في رام الله؟ أكيد أنّ موضوعَ القدس هو مسؤوليّةٌ جماعيّة، فكلُّ انتهاكاتِ الاحتلالِ هي أيضًا مسؤوليّةٌ جماعيّة، نأخذُ بعين الاعتبار أوّلًا إغلاقَ القدس، بمعنى؛ الذي أثّرَ غير المؤسّسات التي أغلقتْها إسرائيل مباشرة، صار إغلاقٌ بطيءٌ للمؤسّسات، لذلك؛ بسبب الحواجز وعدم إدخال الفلسطينيّين الى مدينة القدس، فأنتِ تعرفينَ أنّ القدسَ كانت هي مركزيّة التحرّك ومركزيّة التجمّع، فالنقاباتُ والاتّحاداتُ كلّ أعضائِها يأتونَها مِن جميع أنحاء فلسطين إلى القدس، ولكنّ الأعضاءَ لم يتمكّنوا مِن الوصول إلى القدس، فكيف ستجتمعُ الهيئة العامّة في مدينة القدس؟ وقليلًا قليلًا وتدريجيًّا، بعضُ المؤسّساتِ حوّلتْ ملفّاتِها ومكاتبَها خارجَ القدس إلى رام الله أو إلى الرام. لكنّي رفضتُ وأعضاءُ الهيئة معي أن نُحوّلَ مكتبَ رابطة القلم الفلسطينيّ إلى رام الله، وبقينا في مدينة القدس رغم المداهمات ورغم الضرائب المفروضة علينا، وفضّلنا أن نتحرّكَ بالبطيء والقليل، ولا أن تنتقلَ المكاتبُ إلى رام الله أو إلى أيّ مكان آخر غير القدس، فحافظنا على عملنا، ولا يمكنُ أن نبدأ أيّ مهرجانٍ أو لقاءٍ أو مؤتمرٍ أو اجتماعٍ أو مهرجانِ تضامن، إلّا أن يُفتَتَحَ في مدينة القدس، ثمّ ينتقلُ إلى باقي المدن الفلسطينيّة! هذه قضيّة سياسيّة مُهمّةٌ، فيها تأكيدٌ على الواجب الوطنيّ لكلّ فلسطينيّ يستطيع، لأنّني آخذ بعين الاعتبار، أنّ هناك أناسًا لا يستطيعون، لأنّ قوّات الاحتلال تمنعُهم أو تعتقلُهم وتسجنُهم، فأنا أقول: هذا فرضٌ جهاديٌّ، لأنّ القتالَ إذا دخلَ الاحتلال إلى كلّ موقعٍ من مواقع القدس، فيجب أن يتمّ الجهادُ بكلّ الأشكال والصور! حنان عوّاد تتحدّثُ عن مؤسّساتٍ وأفرادٍ لا يمكنهم المجابهةِ رسميًّا. هل هناك ممثّلٌ كسُلطةٍ فلسطينيّةٍ يمكنُها أن تُطلقَ بياناتٍ وتُصدرَ قراراتٍ تمنعُ هذهِ المؤسّسات القادرة، بنقل مكاتب القدس إلى أماكن أخرى؟ أقولُ لكِ ما حصلَ في عهد الرئيس الراحل. كانت القدس مركزيّة، فما كان يتأخّرُ عن أيّةِ ورقةٍ فيها موضوعٌ يخصّ القدس، وكان قائدًا حقيقيًّا للقدس، ولكن بعدَ استشهادِه تزعزعَ وضعُ القدس، هذا أوّلًا. وثانيًا، كثيرٌ مِن المؤسّساتِ توقّفَ الدعمُ عنها فكيف ستتحرّك؟ وللأسف، لدينا محافظة، والمحافظ يقومُ بتدبير وإدارة شؤون القدس، ولكن يَنقصُنا القائدُ السياسيّ في القدس، ومرجعيّةٌ سياسيّةٌ مثل أبو عمّار. وماذا عن أبو مازن حاليًّا؟ ابو مازن هو رئيس، ودائمًا يتحدّث عن القدس ويهتمّ بأمورها، وهو حقيقةً يقومُ مشكورًا بعُمقٍ وبقدرةٍ، في ترتيب البيتِ الفلسطينيّ على الصعيد العالميّ وتثبيته، وقد أعطى وأوْلى لِكثيرٍ مِن المسؤولين في داخل سلطتِه، أن يقوموا بمهامّ، ومحافظةُ القدس ومحافظُها يقومونَ بإدارتِها ومتابعةِ مؤسّساتِها في حدود الممكن السياسيّ، فهناك أزماتٌ ماليّةٌ تمرُّ بها السلطةُ الوطنييّة، فقضيّةُ القدس قضيّة كبرى، فهنالك محاولاتٌ لأخذ المواقع المُهمّة، فالقدس لا تحتاجُ فقط نقدًا، بل تحتاج إلى مبالغَ عاليةٍ جدًّا لحمايةِ التاريخ والتراث والأقصى، والقدسُ تحتاجُ إلى قائدٍ ثوريٍّ سياسيٍّ تابعٍ للسلطة الفلسطينيّة يُنفّذُ برؤيا، وهذا غيرُ شغل المحافظة وغير دوْر المحافظ، فيكونُ رجلًا سياسيًّا ومرجعيّةً سياسيّة، يرجعُ إلى الشعب الفلسطينيّ في البُعد السياسيّ، وهذا جدًّا مُهمٌّ لترتيبِ الوضعِ الفلسطينيّ في مدينةِ القدس، فهناكَ حركاتٌ وتنظيماتٌ ومؤسساتٌ ونشاطاتٌ فلسطينيّة في القدس، ولكن تحتاجُ إلى قائدٍ جامعٍ خاصّ بالقدس غير الرئيس أبو مازن، وهذا القائدُ الخاصُّ ينقلُ الصورة الحقيقيّةَ بتفاصيلِها الى السيّد الرئيس، وعلى ضوئِها يتمُّ تفعيلِ الأمور. فلدينا وزارةُ شؤونِ القدس، ولدينا محافظة القدس، وشخصيّاتٌ وأعضاءٌ في البرلمان التشريعيّ، وكلٌّ منهم يقومُ بدورِهِ، ولكن نحتاجُ إلى دوْرٍ جامعٍ مُرتّبٍ مُنظّمٍ ومُبرمَجٍ، يُطلع سيدي الرئيس على كلّ ما يجري! بما أنّكِ ابنةُ القدس ولكِ تاريخٌ سياسيٌّ حافلٌ وناجح، وأنتِ الجامعةُ لكلّ تفاصيل القدس وقضاياها، والمبادِرةُ والمُتحَمِّسةُ لهذا الاقتراح، فهل تغفلُ حنان عوّاد عن عرض الفكرة على المسؤولين، وعن ترشيح نفسها أو أحدهم لهذا الدوْر؟ النقطةُ المُهمّةُ أنّ الإنسانَ المُناضلَ لا يُسوّقُ ذاتَه، رغمَ أنّ هذا الاقتراحَ هو ضرورةٌ حتميّةٌ ومُلحّة، ونحن نحاولُ أن نقولَ كلّ ما يجبُ أن يكون، ولكن صوتي وحيد، واصواتٌ عديدةٌ وتشكّلاتٌ أخرى، ولكن أقول: إنّ القدسَ بحاجةٍ إلى رجلٍ أو إنسانٍ مُعمّقٍ عميقٍ مُنْتَمٍ وحريص، يضعُ الوطنَ كأولويّة والقدسَ كأولويّة، قبلَ ما يريدُهُ أو يتمنّاه أو يكتسبه. حصلت الشاعرة حنان عوّاد على العديد من الجوائز الدوليّة؛ أوروبيًّا وإفريقيًّا وفلسطينيًّا، ودخل اسمُها في العديدِ من الموسوعاتِ الثقافيّةِ الدوليّةِ والعربيّة. فما هي الجائزة الأقربُ لقلبك وشِعرِك على السواء؟ طبعًا الجوائزُ بشكلٍ عامّ هي تقديريّةٌ ومُحبّبةٌ للّذي يُقدّرُكِ من الناس والقرّاء والكُتّاب والمثقّفين لها تقدير، ولكن نحنُ أيضًا بعضُ الأحداثِ تعكسُ نفسَها على الجوائز، فإحدى الجوائز التي تلقّيتُها من إيطاليا عام 2004 قبل استشهاد الرئيس بفترة قصيرة، أخذتُها على مقاطعَ تُرجِمَت مِن "يوميّات الحصار"، وقد أُعطيتُ الجائزة في حفلٍ مهيبٍ جدّا، وكان الرئيسُ معنا على تواصل، فلمّا قدّموني وقدّموا فلسطين، كان الموقفُ مؤثّرًا فيه جلالٌ وعظَمةٌ وجماهيرٌ غفيرةٌ وشخصيّاتٌ سياسيّةٌ وثقافيّة كبيرة، فلذلك أُحسُّ بفخرٍ كوْن الكِتابَ نالَ الجائزة عن "يوميّات الحصار"، ولها العلاقة السياسيّة والتاريخيّة، وعلاقةُ الكتاب أيضًا بالرئيس الراحل تعطي معنى خاصًّا لهذه الجائزة! أما زالت حنان عوّاد تُردّدُ "دثّريني يا ساحات الأقصى"؟ أردّدُها باستمرارٍ، فسأقول لكِ كيف كتبتُ هذه القصيدة. فأنتِ تعرفين أنّه أيّامَ الإغلاقاتِ والمواقفِ النضاليّة، كانت القوّاتُ الإسرائيليّةُ تَمنعُ المُصلّينَ مِنَ الدخول إلى المسجد الأقصى، ففي باب العمود تجمّعَ المُصلّون وقرّروا أن يُصلّوا في الشارع، هذا قبل خمس سنوات تقريبًا، وعند نزولي للقدس القديمة للمشاركة في بعض المظاهرات، وقفتُ جانبًا في باب العمود وهم يُصلّون، إذ استوقفَني المشهدُ، واعتذرتُ من الجميع وبقيتُ قبالة مشهدِ المُصلّين في باب العمود، فقرأ الشيخُ وبدأ المُصلّون يُصلّون، وحين قالوا "الله أكبر"، أطلقت القوّاتُ الإسرائيليّة النار، فاستشهدَ أحدُ المُصلّين على مرأى منّي، فصُدمت وعُدتُ إلى البيت، وكانت قصيدة "دثّريني يا ساحات الأقصى"، ويجبُ أن تُدثّرنا ساحاتُ الأقصى جميعًا، لأنّ الأقصى ليس فقط للمسلمين، وإنّما رمزٌ للقدس، والعبور إلى الأقصى وإلى كنيسة القيامة المجاورة أيضًا ممنوع، فبالتالي هذه التحدّيات التي تقف أمام القوّات الإسرائيليّة لأداء مناسك العبادة، أو السير في شوارع القدس العتيقة بكلّ رمزيّاتها، هي حقٌّ إنسانيٌّ مِن منعِ الإنسان الفلسطينيّ، لذلك في كلّ محفل وفي كلّ اجتماع ستُدثّرنا ساحات الأقصى، لأنّ هناك تضحياتٌ مستمرّةٌ وتحدّياتٌ مستمرّة، ولا زال إصرارُ الإسرائيليّين على تهجير وقتل الشعب الفلسطينيّ، فطالما نحن تحت نير الاحتلال، طالما نحن لم نتحرّر بعد! وماذا عن "لؤلؤة إسرائيل"؟ هيكل سليمان؛ الي يُهدّد أساسات المسجد الأقصى؟ نحن كفلسطينيّين لم نقف ضدّ أيّ دين، وليس صراعُنا مع الاسرائيليّين كوْنهم يهودًا أو ذوي دينٍ يهوديّ، نحن نؤمن بالأديان جميعِها، لكنّ الصراعَ الآن هو ليس قضيّة دينيّة أو عبادة، بل هو سلبُ ونهبُ أراضي فلسطين، وتاريخ فلسطين، وحضارة وثقافة وتراث فلسطين، ونهبُ زمانِ مكان الإنسان الفلسطينيّ، وهنا نقطة الصراع، ولكن مَن يعبدُ في المعبد هنا أو في المعبد هناك، فالثورة الفلسطينيّة جمعَت في كوادرها وفي مؤسّساتِها الحسّاسة جدّا الكثيرَ من اليهود، فمثلًا وولي ديفس عضو في المجلس التشريعيّ عندنا، فليس فقط يهوديّ، بل مُتنوّرٌ ويفهمُ القضيّة الفلسطينيّة الوطنيّة، ولذلك، فصراعُنا مع اليهود هو ليس صراعًا دينيًّا بل صراعًا سياسيًّا، وقد حاولوا أحيانًا أن يُحوّلوهُ إلى صراع دينيّ وعربيّ مقابل يهوديّ، لكن هو صراعُ أرضٍ ووطنٍ وتاريخٍ وحضارةٍ وتراثٍ وهُويّةٍ، هذا هو الصراع الحقيقيّ! أنت عضو مؤسّسٌ في اتّحاد الأدباء الفلسطينيّين، وأسّست رابطة القلم الفلسطينيّ. هل ما زال القلمُ الذي أسّسَ للقلم ينتمي لذاتِ فكرةِ التأسيس؟ طبعًا، الريشة ما زالت هي، والمداد ما زال هو، فاذا تلوّن المدادُ يعني أنّه تلوّن الموقف، لكن نعم لا يغفلُ الكاتبُ والإنسانُ عن الظروفِ العصيبة التي مررنا بها، فالرابطةُ القلميّةُ هي فرعٌ من مؤسّسةٍ دوليّةٍ تأسّستْ عام 1921، وكان يجبُ أن نكونَ فرعًا منها. بالطبع لم يكن هنالك صوتٌ للصوتِ الفلسطينيّ، إحدى برامجنا السياسيةِ في أحد اللقاءات التي كنتُ بها مع الاخ المرحوم أبو جهاد والرئيس الراحل ياسر عرفات قلت لهم: نحن أعضاءٌ في جميع المؤسّساتِ الصديقة، والأصدقاءُ فيها معروفون ومُسانِدون، فلماذا لا نحاولُ أن نخترقَ المؤسّساتِ التي بين قوسين غيرَ صديقةٍ أو مُغيّبةً تمامًا عنّا؟ فكان جوابُ الرئيس الراحل: هذا صعب فهل تقدرين؟ فقلت: سأحاولُ وإذا نجحتُ نجحتْ فلسطين. وهكذا بدأتُ بإنشاءِ الرابطة عام 1990، فبدأتُ أجمعُ مجموعةً مِن الكُتّاب، وبدأتُ أراسلُ الرابطةَ الدوليّةَ في لندن، وكان الطريقُ صعبًا وشائكًا كما قال أبو عمّار، وكأنّهم فوجئوا وصُدموا بفلسطينَ تَطلبُ عضويّةَ رابطةِ القلم الدوليّ، إذ كانَ لها حضورُها وقيمتُها وفيها كُتّابٌ معروفون، فأوّلُ رسالةٍ بعثناها مُوقّعةً، قالوا: حسنًا سندرس الموضوع، ولكن عليكم أن تُوقّعوا على وثيقةٍ توقّع عليها جميعُ الفروع! وما هي الوثيقة؟ أوّلًا: نبذُ الإرهاب، وثانيًا: شجبُ الفتوى لسلمان رشدي الإيراني، الذي كتبَ عن الآيات القرآنيّة. فطبعًا حين اجتمعنا، كُتّاب الرابطة الفلسطينيّة قالوا إنّ الشروط صعبةٌ. فأرسلت رسالةً فحواها يقول: نحنُ نستغربُ من رابطة قلم دوليّ عريقة ولها تاريخ، أن تطلبَ من الوفد الفلسطينيّ أن يَنبذَ الفتوى ضدّ سلمان رشدي، بمعنى أنّكم وضعتم الوفدَ الفلسطينيّ في مقام التطرّف والتعصّب الدينيّ، وهذا لا يجوز، لأنّ فلسطين مسيحيّين ومُسلمين وليبراليّين وكُتّابٍ يؤمنون بالموقف، ونأسف.. لن نوافق على هذا الموضوع، فنحن نوافق على حرّيّة التعبير. وطبعًا وضعتُ كلّ المُعطياتِ المنطقيّة جيّدًا، فوافقوا على هذا النصّ رغمًا عنهم، لأنّنا رفضنا الخضوعَ لوضعِنا في هذه الدائرة، فما علاقتي أنا كليبراليٍّ وغير مسلم أو بوذيّ بالتطرّف وبرشدي؟ فالكاتبُ هو كاتبٌ للحرّيّة، والرسالة كانت جميلة ومُقنعة، وفي عام 1990 ذهبنا للمؤتمر كمراقِب، حين كانت تمامًا اجتماعاتُ مدريد، وكان عليّ أن أقدّمَ كلمة فلسطين، ولكنّ الإسرائيليّين في المؤتمر جُنّ جنونُهم، حينما عرفوا أنّ فلسطين سيكونُ لها وجودٌ وقيمةٌ في الرابطة، فبدؤوا يشتغلون، وأرسلوا لكلّ فروع العالم في رابطة القلم الدوليّة رسائل، تخبرُهم فيها أنّ الفلسطينيّين إرهابيّين، وهدفهم الاستراتيجيّ إلقاءُ إسرائيل في البحر، فلا توافقوا على رابطة فلسطين، فيمكن أن يكونوا "رابطة عرب" أو أيّة تسميةٍ أخرى، ولكنّي في وقت المؤتمر تحدّثت بأسلوبٍ أدبيّ بعيدٍ عن الأسلوب السياسيّ المباشر، وعن وقائعَ ومقاطعَ أدبيّةٍ تحملُ الهمَّ الفليسطينيّ من محمود درويش وغيره، فأكثر من 500 عضو في قاعة المؤتمر وقفوا وقفة إجلال، ولكنّ المندوبَ الإسرائيليّ حين رأى ذلك، وقف على المنصّة قائلًا: لا تنخدعوا بهذه الفتاة الرقيقة، إنّها صحيح رقيقة، ولكنّها هي ضمن الإرهاب، وتريد أن تلقي بإسرائيلَ إلى البحر، وجميعُ مَن معها هم من الإرهابيّين، فوقفتُ وابتسمتُ وقلت: أستغربُ لكاتبٍ من المفروضِ أن يَحملَ الكلمة، ولا يدري ماذا يجري في مدريد؟! ولا يُتابع ما يجري مِن مُخطّطاتِ السلام، ويحملُ هذه الفكرة القديمة؟ فمَن الذي سيرمي الآخر؟ أرجو أن تقولوا لهذا الكاتب أن يقرأ جيّدًا ويُتابع الأحداث، فهل يُنكرُ أحدُكم أنّ هناك أرضًا محتلة؟ وهل تُنكرون أنّ هناك كُتّابًا فلسطينيّين مُعتقلون في سجون الاحتلال؟ وهل تنكرون أنّ لنا هُويّة وطنيّة فلسطينيّة؟ وحين أُعلنَ التصويت على رابطة القلم الفلسطينيّ، كان الإسرائيليّون قد جلبوا عشرة أشخاص يدورون بين أعضاء الرابطة، ليمنعوهم من التصويت، ولكن الحمدلله نجحنا، وبدأنا نعملُ بشكلٍ جدّيٍّ ورسميٍّ، ونحن عضوٌ معترَفٌ به دوليًّا في جميع اللجان السياسيّة والثقافيّة ولجان المرأة وجميع اللجان. إذن؛ رابطةُ القلم الفلسطينيّ هي مقتصرةٌ على الضفّة والقدسوغزة؟ وماذا عن الشقّ الأخضر؟ نعم، هذه القضيّةُ سياسيّة، فالإسرائيليّون لعبوا هذه اللعبة كي يُضيّعوا فكرة فلسطين وسيادة الدولة الفلسطينيّة، فقالوا: لماذا لا يَنضمّ الكُتّابُ العرب الإسرائيليّون إليكم؟ فأنا كنتُ قد كتبت للكاتب أنطون شمّاس في ذلك الوقت، أدعوه ليكونَ عضوًا في الرابطة، وكان في أمريكا مع إدوارد سعيد، وسمعا عن المساعي والجهود في الوصول إلى الرابطة الدوليّة واستغربا، لأنّ الفكرة ليست سهلة فكتب يقول: بما أنّني أعيشُ في الداخل "إسرائيل"، فلو وافقتُ فإنّي ألغي فكرةَ إقامةِ فرعٍ يُمثّلُ عربَ الداخل. وهل هناك اليوم فرعٌ لفلسطينيّي الداخل في رابطة القلم الدوليّة؟ لا، فالإسرائيليّون أرادوا أن يُسوّفوا القضيّة، بمعنى؛ طلبوا من المكتب الرئيسيِّ أن يُسمّوا الفرعَ "رابطة العرب" وليس "رابطة فلسطين" بمعنى؛ أن لا تكون حدود ولا سيادة ولا دولة فلسطين، وقد كان معي رسالة انطون شمّاس من الداخل، فعرضتها وقرأتها في المؤتمر! وهل فكرة التأسيس ما زالت تنهلُ من ذات الأهداف التي أُسّست عليها؟ وأين أنت الآن من هذيْن المقاميْن الاتحاد والرابطة؟ بالطبع تطوّرنا كثيرًا باتّجاه العالميّة، وأصبحنا أعضاءً في مؤسّساتٍ عالميّة كثيرة، نُمثّلُ فلسطينَ في المؤتمراتِ، ونحوزُ على الجوائز، وصارَ لنا كلمتُنا السياسيّة، وكما قلنا لا نفصلُ فلسطين السياسيّة عن الأدب، في كلّ حدثٍ سياسيٍّ فلسطينيٍّ من خلال الموقف ومن خلال الرابطة، وكذلك استضفنا آلافَ الكُتّاب العالميّين الذين جاؤوا تضامنًا مع القضيّة الفلسطينيّة، وهناك الكثيرُ مِن الكُتّاب الذين يأتون وليس لديهم المعلوماتُ الكافية، فلذلك نجمعُهم مع الكُتّاب ونزورُ المناطق، فكتبوا عن فلسطين قصائدَ ورسائلَ وتقاريرَ من أرقى ما يمكن، وهذا هو الدوْر من خلال بناء الجسور الثقافيّة والسياسيّةِ ما بين فلسطين والعالم، ما بين الكُتّاب الفلسطينيّين وكُتّاب العالم، وبالتالي رحلاتُ التضامن هذه والزيارات، وعقدنا سبعةَ مهرجاناتٍ ثقافيّة في مدينة القدس، وكانت تُفتَتحُ في مدينة القدس بكلمةِ السيّدِ الرئيس مطبوعةً ومُوزّعة! وماذا عن المهرجات التي نراها اليوم؟ فهل للرابطة يد ودور فيها؟ طبعًا، فهناك كلّ مؤسّسةٍ تقومُ بمهرجانِها، ولما يكونُ لنا دوْرٌ في مهرجان ما نشارك فيه، ونحن الآنَ نُعِدُّ لبرنامجٍ قادمٍ إن شاءَ الله، يُمثّلُ الأدبَ والسيادة، ولكن كلّما نظّمنا لهذا المهرجان يحدث حدث، فكان المهرجان السنويّ الأوّلُ حولَ الأدب، والمهرجانُ الثاني حولَ الأدب والأصالة، والثالثُ حولَ الأدب والنكبة، والرابعُ حولَ الأدب والدولة، ومهرجانات أخرى، ولكن حين برمجْنا ودعوْنا للمهرجان حول "الأدب والسياسة" عام 2006، وكان لا بدّ أن نُنفّذ، لكنّ الظرف السياسيّ أتى مُغايرًا وبغير توقّع، فدارت الحربُ على غزّة، وشُلّت المواقعُ كلُّها طبعًا، وخافَ بعضُ الكُتّابِ من الحضور، وبذلك تأجّلَ مهرجانُ السيادة ودائمًا يُؤجَّل، وقد وقفتُ على رأس الرابطة منذ تأسيسِها حتّى اليوم، وحاولتُ أن أعطي المُهمّة لآخرينَ في المجموعة ولكن لم يُحبّذوا، لأنّ فيها شائكةً سياسيّةً ومواقفَ صعبةً ورؤًى مُعيّنةً، يجبُ أن تقرئي ما بين السطور وخلفها وأن تعطي، فهي فرعٌ لفلسطينَ وليست فرعٌ لحنان أو لمجموعةٍ معها أو لكُتّاب، لأنّهُ يتغيّرُ الإنسانُ وتبقى في النهاية فلسطين! الصراع استمرّ طويلًا بين الكاتب الفلسطينيّ وبين الرقيب العسكريّ الإسرائيليّ. إلى أيّ مدى نجحَ مقصُّ الرقيب في قمع الصوت الفلسطينيّ منذ عام 1967؟ وما هي الأشكالُ التي يتّخذُها اليوم؟ رغمَ وجودِ الحرّيّاتِ المُتعدّدةِ والإعلامِ المُتعدّدِ، وإمكانيّاتِ القراءةِ والكتابةِ والفاكس وكلّ الأجهزةِ المُتوفّرة التي يمكن أن ترسلَ ما تكتبينَه وما تريدين نقلَه مِن أفكار، إلّا أنّكِ قد تُجابَهين عند الجسر وتعودين، فقد يكون هناك مؤتمرًا هامًّا يَحتاجُ إلى الصوت العمليّ، وليس فقط البيان أو الرسالة أو القصيدة! فمثلًا، مُنِعتُ في أكثرَ مِن مؤتمرٍ أن أذهب إليه، ففي العام الماضي كان هناك مؤتمرٌ ستاخذ فيه فلسطين "رئاسة منظّمة المرأة العالميّة في السلام والحُرّيّة"، وكنتُ أنا المُرشّحة ولكنّي مُنعتُ، وبالتالي لو توضع فلسطين في السياق، فإسرائيلُ تقومُ بهذه الأدوارَ، وتمنعُ الكُتّاب مِن التحرُّك في المحافلِ والأمور الهامّةِ، وتخترعُ أيّ مُبرِّرٍ وأيّة حُجّةٍ، فإن مرَرتِ عن الجسر يمكنُها أن تمنعَكِ مِن المطار وتعود. وكانوا في السابق يُعرقلونَ سفري بالتفتيش المُستمرّ إلى أن تُقلعَ الطائرة دوني ولا أسافر، فهناكَ الكثيرُ مِن العراقيل التي عانيْنا ونعاني منها، ولكن الآن عبْرَ الإنترنت يمكنُ إرسالُ المقال، وعبرَ التلفون والفاكس، ولا بدّ أن يجدَ الكاتبُ الطريق، وأنتِ تعرفينَ أنّ الاحتلالَ يَخلقُ عواملَ التحدّي بشكلٍ أكبر، والبحث عن طريقةٍ لإيصالِ المعلومةِ أو لتوصيل الفكرة، وطبعًا كثيرًا ما تُعيقُ في إيصالِ الكُتبِ إلى معارضِ الكتبِ الدوليّة، ولكن يظلُّ الإصرارُ، فليست الطريق لدينا مفروشةً بالورود، فالطريق كلّها أشواك، ولذلك يجبُ أن نستمرَّ مهما كان الظرف، لأنّ في فترة من الفترات في السبعينات وبداية الثمانينات كنّا مفصولين عن العالم، وكلماتُنا لا تصلُ بسهولة، وحين نعبُرُ الجسرَ لا يمكنُ أن نحملَ قصاصة ورق، فكيف تحملين كتبًا؟ وتُفتّشُ الكتبُ وتذهبُ للتدارس، فكانت الأوضاعُ صعبةً جدًّا ناهيكَ عن الإذلال، فكانوا يُجبرونَنا أن نمشِيَ بلا أحذية على الرمضاء الحارّة في أيّام الحَرّ، ويُفتّشونَ كلّ الأوراق، ولا يوجدُ كاتبٌ فلسطينيٌّ إلّا وعانى من التحقيق والسجن، فهُم يريدون أن يقمعوهُ، فقد يكونُ فدائيًّا ووراءَهُ طاقمٌ من الفدائيّين! هُم لا يقتنعونَ بالكلمة، وأنا اعتقلوني لأوّلِ مرّةٍ على الجسر عام 1976، وكنتُ قادمةً مِن القاهرة، وكنت انتهيتُ مِن امتحانات الماجستير ومعي كتبي ممّا هبّ ودبّ، ودخلتُ أنتظرُ بعدما سلّمتُهم هُويّتي، وبقيتُ وحدي أنتظرُ وكلّ الوجوهِ الإسرائيليّةِ مِن حولي مُكشّرة وعابسة، وفرَغ الجسرُ مِن الناس، وبعدَ دقائقَ وإذا بعسكريٍّ من اليمين وعسكريٍّ من اليسار، وحوّطني العسكر. وهنا تستغربين طبعًا وكلّ الأمور مُتوقَّعة، ولكنّي أخذتُ الأمورَ بهدوءٍ وضحكتُ قائلةً بطريقةِ الدعابة والنكتة: أتظنّونني أبو عمّار وتريدون أن تأخذوني؟ فجاء أحدُ العسكرِ ووضعَ القيودَ بيدي، وأخذوني مِن الجسر إلى مقاطعةِ أريحا المعسكر، وأبقوني هناك حتّى الليل، ووضعوا عُصبةً على عينيّ وساقوني إلى المسكوبيّة في القدس. وبدأ مشوارُ التحقيقِ وحكاياتٌ طويلةٌ، ويوميًّا على مدار خمسة عشر يومًا، ثمّ مدّدوا ثانيةً وظلّوا يُمدِّدونَ اعتقالي مدّةَ أربعة أشهر، ولكن ما من دليلٍ في إدانتي أو بعلاقةٍ مع خليّةِ فدائيّين، فسألوني: لماذا أنتِ في مصر؟ للمنظّمة الفدائيّة؟ وكانت لديّ قوّةٌ نفسيّةٌ عاليةٌ جدًّا، وكان يُحقّقُ معي يوميًّا محقّقون ثمانية، فكنتُ أستخدمُ اللغةَ الفصحى وأُتقِنُها تمامًا وأقول لهم: أنا لغتي مثل لغة القرآن الكريم، وأنا طالبةٌ أدرس ولا علاقة لي مع أحد. فقالوا لي: أنتِ في المنظّمة التخريبيّة. فقلت لهم: ولكنّهم لا يقبلونني! إذن لماذا أنتِ في مصر؟ أنا أدرس القرآن الكريم. فقام المُحقّق بفتح دُرجِهِ وأخرجَ قرآنًا وطلبَ منّي أن أقرأ في القرآن سورة البقرة، فقرأت وسألني: ماذا درستِ أيضًا؟ درست الأدبَ الجاهليّ. وهل هناك أدبٌ جاهليّ؟ فقلت: قد يكونُ وقد لا يكون، وحتّى إن لم يكن، فإنّ تقليدَ الأدبِ هو صورةٌ مِن الأدب. فقال: معقول. فقلتُ: إذن أنتَ حمّلتَني اتّهامًا مُقلّدًا وليس اتّهامًا حقيقيًّا، لأنّكَ وضعتَ في ذهنكَ أنّني قد أكون من.. وضيّعتَ وقتي وضيّعت جامعتي. فقال: أنتِ وقحة! وهمّ أن يَصفعَني فأوقفَهُ المُحقّقُ الآخر. وتابعوا معي التحقيق، ولمّا فقدوا الأمل أخرجوني من السجن، ومنعوني من السفر، ودفّعوني فوائدَ عاليةً جدّا وكفالة، وطبعًا لا زلتُ أخضعُ للرقابةِ والتفتيشِ والمنْع من السفر! من بين مؤلّفاتِكِ "اخترتُ الخطر". ما سِرُّ اختيارِك لهذا العنوان لديوانك؟ وما هو الخطر الذي اختارتهُ حنان عوّاد؟ لو راجعتِ قصائدَ هذا الديوان لوجدتِ معظمَها تتحدّثُ عن الشهادةِ والاعتقالِ والانتماء، وعن أشياءَ مرتبطةٍ بي مِن بعيدٍ ومن قريب، وعن الوطن في تشكيلاتِهِ، فالخطرُ هو الإرادةُ والتصميم، يعني اخترتُ الخطرَ وطريقَ الكفاحِ والنضال، ومعروفٌ أنّكَ إذا سرتَ بها فهي طريق ليست سهلة، وسيواجهُ الإنسانُ ظروفًا صعبةً كثيرةً ومصاعبَ كثيرة عليه أن يتحمّلها، لذلك كان هذا الاختيارُ بالوعي العقليِّ والنفسيّ، لأنّ الطريق التي نسير بها، سواء كانت طريق الكلمة أوطريق النضال والكفاحِ بأشكاله وصُورِهِ، هي طريقٌ صعبة، ولكن لن تُعيقَنا بالسير بها، فلذلك أردتُ أن أُعطيَ إشارةً أيضًا إلى إصرارِ المرأةِ الفلسطينيّةِ على خوْض التجربةِ النضاليّة، بأيّ شكلٍ من الأشكالِ الذي تراهُ مناسبًا، فإحدى القصائد التي تتحدّث عن زاوية الشهيد تقول: يا حبيبي إنّي ما زلتُ عندَ العهد/ لم أفقدْ زوجًا ولم أخلعْ سوادي. بمعنى؛ أنّي لن أنساكَ وسأبقى مُصمّمةً مهما كان الظرف صعبًا، فهذا هو التنصميمُ والإرادة وليس العبثيّة، فالخطرُ هو رسالةٌ إلى المرأة، إلى الرجّل، إلى المناضل، وهي رسالةٌ نضاليّةٌ ولكن بقالبٍ شِعريّ! ماذا تعني لك الأسماء التالية: حنان عوّاد/ الشّعر/ القدس/ ياسر عرفات؟ حنان عواد تعني لفلسطين وللزملاء الكُتّاب وللشعب الفلسطيني، أمّا أنا وماذا تعني لي ذاتي، فهي قضيّةٌ صعبةٌ جدًّا، ففي كلِّ شخصيّةٍ محورٌ خارجيٌّ ومحورٌ داخليّ في تداخلات، فهل أنا في مرحلةٍ ما؟ أم أنا في كلّ المراحل؟ لذلك أنا أتركُ ماذا أعني للجماهير التي قرأت كتبي، وللناس الذين يَسيرون معي، وللذين يَسيرونَ ضدّي في نفس الوقت!! الشعر إطلالةٌ روحيّةٌ عميقةٌ مُعمّقةٌ، مربوطةٌ بجذورٍ في أعماقِ كوامنَ أشياءَ كثيرة، وفيها بُعدٌ إلهيٌّ أيضًا، ولا تنسَيْ أنّ الشعرَ يبدأ بالموهبةِ، ثم بتدرّجِ الوعي في النقلةِ النوعيّة والتعمّق في كتابة القصيدة، والشعر هو عالمٌ كاملٌ متكاملٌ كلّيّ، فهو كلٌّ للأبعادِ الإنسانيّةِ المُتعدّدة! القدس هي نبضُ روحي وأحلامي وطفولتي وشبابي ومَجدي وانتصاراتي وانكساراتي، القدسُ هي القدس التي أعبدُها وأُحبُّها، هي أهلي بشوارعها وأزقّتِها، وهي الناس الذين أُحبُّهم وأحترمُهم، وهي كلّ الأركانِ، وهي العاصمةُ طبعًا لدولة فلسطين الحبيبة! لقد سألتِني عن حنان عوّاد وعن القدس وعن الشعر، فهذه كلُّها متداخلةٌ مع بعضِها البعض، تتشكّلُ في صياغةِ هذه الشخصيّةِ المُعجِزةِ؛ ياسر عرفات يعني فلسطين، الطفولة الفلسطينيّة، النضال الفلسطينيّ، ياسر عرفات فرحُ دم الشهيد، والشمعة التي يَحملها المعتقلون وراء القضبان. ياسر عرفات هو صورة المرأة الفلسطينيّة في الحقل والمنزل وأم الشهيد التي تزغرد حينما يُضحّي ابنُها في سبيل وطنِه. ياسر عرفات هو الموقفُ السياسيّ والزعيم الامميّ. ياسر عرفات هو الإنسانُ، وهذه كلّها التعابير، وهناك عواملُ كثيرةٌ التفاصيل، إذا دخلنا في غوْرها، لن تتّسعَها سِجلّاتُ التاريخ! كنتِ على مقربة من المرأة وعلى صلة وثيقة بقضاياها، من خلال ترؤسك لجمعية المرأة للسلام والمساواة فرع فلسطين. ماهي الأمور التي نجحت بها المرأة الفلسطينية، والأمور التي فشلت في الوصول اليها؟ والى أي حد ساهمت التركيبة المجتمعية في نجاح المرأة أو حصارها، ضمن حدود معينة؟ أنا لم أكن على مقربةٍ فقط، فأنا جزءٌ مِن الحركةِ النسائيّةِ الفلسطينيّةِ وحتّى الإنسانيّة الفلسطينيّة، والحقيقة أنّ لي رأيًا خاصًّا بموضوع المرأةِ بشكلٍ عامّ، لأنّي أنظرُ للمرأةِ أوّلًا كإنسانٍ مُوازيةً ومساويةً، إنسانٍ بكاملِ الآهليّةِ والقدرات، لأجل ذلك، دائمًا حتّى تعابير الرجل والمرأة لا أُحبُّ أن أستعملَها، لأنّ الثورةَ الفلسطينيّة لمّا انطلقت، أعطت للمرأةِ مساحةً واسعةً، وأوّل ما تأسّسَ الاتّحادُ العامّ للمرأةِ الفلسطينيّة، كان هدفُهُ تحريرَ الأرض والوطن، يعني على قدْر المساواة مع الفكر الوطنيّ الفلسطينيّ الشامل، سواءً كان رجلًا أو امرأة. هذا لا يعني أن ننسى أنّ هناك ظروفًا مجتمعيّة، قد أثّرت إلى حدٍّ ما على مسيرة المرأةِ بشكلٍ عامٍّ أو بشكلٍ خاصّ. أنا أرى أنّ المرأةَ بالوعي، وهو الطريقُ الأوّلُ للحقّ، سواء على الصعيد السياسيّ أو الشخصيّ، ورؤيتها وثقافتها أيضًا، والمهامّ التي تقومُ بها، يعني أن تخرجَ مِن الأنماط النمطيّة والشعاريّة التي يَسوقُها المنبرُ، فموضوع المرأةِ بالنسبة لنا يختلفُ تمامًا عن الطروحاتِ المُستورَدة من الغرب، يعني أنا ككاتبة لمّا بدأتُ أكتبُ، ومثلما قلتُ لكِ سابقًا، إنّي بدأتُ أكتبُ بالقضيّة السياسية، فأحدُ المُحرّرينَ قال: ماذا تريدينَ مِن هذه الغلبة والمواضيع؟ اُكتبي عن قضايا المرأة والجَمال والحبّ. فقلت: هذا يتناقضُ مع الواقع السياسيّ. فأنا أقولُ بشكلٍ عامّ، أنّ المرأةَ الكاتبة وقعت في مأزقٍ سيكولوجيّ، ما سببُه؟ طبعًا أنا درستُ هذا الموضوع عندما عملت كتابي باللغة الإنجليزيّة عن غادة السمّان، أسميتُهُ "قضايا عربيّة في أدب المرأة"، وقبل أن أناقشَ موضوع غادة السمّان، عملت قراءة للكتابات التي كتبتها المرأة في ذلك الوقت، وبما فيها ميّ زيادة أيضًا، فالعديدُ مِن كتابات المرأةِ في ذلك الوقت، بعضُه عالجت الكاتباتُ قضايا المرأة على استحياءٍ وتماشِيًا مع الوضع المجتمعيّ، وبعض الكاتبات ركّزن على القضيّة السيكولوجيّة والقضيّة الإنسانيّة، والتي تبدأ بعلاقة حبٍّ وتنتهي بفشل، وإحساسُ الكاتبة بأنّ هذه العلاقة غيرُ متكافئة، فأن أحبّت المرأة وعايشت الرجل وتعايشت معه وأدّت القضيّة إلى فشل، انعكسَ هذا الموضوعُ في كتاباتٍ عديدةٍ جدًّا على البُعد السيكولوجيّ حتّى للكاتبة، فتلاحظين أنّها تنشرُ فكرة العذابِ والتعبِ والإحساسِ بالظلمِ والنقمة، ولهذا سمّوْهُ النقّادُ بالأدب النسائيّ أو أدب النسوة، وأجْرَوْا دراساتٍ في الوقت الذي كنت أدرس فيه، مثلًا غالي شكري عندما درس عن غادة السمّان قالَ إنّها ارتقتْ في كتابتِها، وخرجَت عن الإطارِ العامّ لكتاباتِ المرأة، فما أن تقرأ لواحدة منهنّ كأنّكَ تقرأ لجميعهنّ، فالمشكلة هي أنّ الألمَ شخصيّ وتحوّلَ إلى ألمٍ عامّ، ففي المنظورِ الإنسانيّ والسياسيّ صحيح أنّ هناك بُعدٌ مجتمعيّ مُميِّز، لكن ليس كلُّ الرجالِ سيّئين، ولا كلّ النساء مظلومات، فالتعميمُ قاتلٌ غيرُ منطقيّ. ثانيًا، إنّ طرْحَ قضيّة الإنسان فالمرأة إنسانٌ كاملُ الآهليّة، فصحيحٌ أنّ ظلمًا يقعُ هناك، فأريد أن أربطَها بقضايا علميّةٍ وثقافيّةٍ، فوضعُ المرأة في أيّ مجتمعٍ مِن المجتمعات يرتبطُ بالبُعد الوطنيّ والبُعد الدينيّ، ومِن خلال البُعد الوطنيّ والدينيّ تنتجُ ثقافةٌ مجتمعيّةٌ، ففي فلسطين نتجت ثقافةٌ مجتمعيّةٌ؛ الحلالُ والحرام، الممنوع والمسموح، وهذا جيّد للمرأة وهذا سيّء، فهل تتعلّم المرأة أو لا، وهل تعمل أم لا، فهذا كلّه نتجَ مِن مفاهيمَ دينيّة سواء مسيحيّة أم إسلاميّة، وتطوّرَ المفهومُ وتواصلَ إلى أن أصبحَ حقيقةً مجتمعيّة، فقوانينُ المجتمع تُستقى من الثقافة الدينيّة، فلمّا المرأة عكَست قضيّتها، ما تحدّثت بعُمق عن القضيّة، إنّما أخذت جانبًا عانى من الظلم، وجعلت منه القضيّة الكبرى، فلم تربط قضيّة المرأة بالبُعد التاريخيّ والاجتماعيّ والدينيّ والوطنيّ والثقافيّ، فمثلًا ليلى البعلبكي ومجموعة كبيرة من الكاتبات كتبن عن علاقات الحبّ والعلاقات الجنسيّة وبكامل المفاهيم المتوارثة، وانتهت بالفشل. صحيحٌ أنّ هذه حقيقةٌ موجودةٌ لا تُنكَر، ولكن نحنُ نُقدّمُ للمتلقّي رؤيةً ليست مبنيّةً على مرض نفسيّ، فحينَ يكونُ هناك إرهاقٌ وتعبٌ نفسيّ فلا تعطي الكاتبة الرؤيةَ بشكلها الصحيح، فأنا قرأت 150 كتابًا تقريبًا، وكلّها تسير في هذه الدائرة، وأنا شخصيّا تعقّدت من الوضع، فالكلّ مظلومٌ ويبكي وخائنٌ ومُخَوّن، ولا أحبُّ أن أرى هذه الصور. أنا ككاتبةٍ عليّ أن أشرح الحالة، ولكن عليّ أن أعطي رؤيةً فيها حياة وأمل وموازاة وفهمًا عميقًا، أنا مسؤولة عن كلماتي وعن الناس قرّائي، ويجبُ أن لا يكون جهلٌ في الآخر، فكيف تُبنى العلاقات المتكافئة؟ بفهم الإنسان المتبادل للآخر، وهذا الفهمُ لا يأتي من نقطة واحدة، فهناك عملٌ تكامليٌّ وشموليٌّ وفكريٌّ وثقافيٌّ وإنسانيّ، هكذا يجبُ أن يُفهم، فالطرحُ الفكريّ أيضًا يجبُ أن يُعطي المتلقّي شيئًا جديدًا ورؤيةً جديدة، صحيحٌ أنّ قاسم أمين حكى عن تحرير المرأة، فما هو التحرير؟ ففي تلك الفترة من الخمسينات والستينات تأثّرت الكاتبات بالأدب الوجوديّ وفلسفة الوجود، وهناكَ تيّاراتٌ فكريّةٌ عديدة، تيّار الفنّ للفنّ بدون التزام، والتيّار الوجوديّ، والتيّار الاشتراكيّ، ولكن علاقة المرأة بالزمان والمكان والحدَث بالرؤية، وعلاقة المرأة بالمسؤوليّة وعلاقاتٍ أخرى يجبُ ان تبرزَ بشخصيّتها، فكيفَ صنعَ غسّان كنفاني صورة المرأة، صحيحٌ أنّها قد لا تكون موجودةً على أرض الواقع لكنّه صنعها، وحين أنتِ تصنعين صورة جميلة يُحتذى بها، فهي ليست شخصيّةً اسطوريّة ولا خياليّة إنّما واقعيّة، وحتّى لو لم تكن واقعيّة وهو أوجدَها بخياله، إذن هذا يعني أنّه وضعَ طريقًا جميلًا يُحتذى به للإنسان، فهنا تكمن قدرة الكاتب في الخلق الجديد وبلورة وميض الفكرة. صحيحٌ أنّه قد يتجاوزُ الواقعَ، ويُعطي تصوّرًا جماليًّا لواقعٍ أقلّ جمالًا، فهو لا يتناسى الواقع وإنّما يَعرضُ مشكلةَ الواقع، ويُعطي إضاءاتٍ أخرى تُحيي كينونةَ الإنسان. هي المرأة أيضًا ساهمت في هذا الموضوع، فلمّا تُصوّر المرأة علاقةً مع رجل وتنهيها، فهي أيضًا قزّمت ذاتَها بموضوعٍ صغير، وأنا كثيرًا ما كان لي نقدٌ لأدب المرأة في تلك الفترة، لأنّه لم يُعطِني فكرةً أو رؤية أو إبداعًا أو إشفاءً، فأنتِ انطلقي على أنّكِ كاملة الآهليّة وإنسانة كفؤ، تتوازينَ مع الرجل قدرةً وتتعاملين معه، وأيضًا هذه المساواة تبدأ فكرة أنتِ آمني بها بداخلِك، فلا تعملي منكِ صورةً جماليّةً لغلاف، فكثيرًا ما تُستغلّ المرأةُ كصورةٍ جماليّةٍ في العروض والتعرّي! لا، فأنتِ امرأةٌ لها قدرةٌ، وربّنا سبحانه وتعالى أعطاها قِيمًا واعتبارًا، ولذلك يجب أن نكون نحن بحاجةٍ إلى مسؤوليّة توكَلُ إلينا، وبالتالي كثيرٌ من الأدب وكتب المرأة لم يكن بالمستوى االمطلوب، يعني بمستوى تستطيعين أن تقرئي لكاتبة فيه البُعد الفنّيّ والإبداعيّ، وبعيدًا عن الصراع السيكولوجيّ أحاديّ الجانب، ومن منظورٍ واحدٍ في الحياة أو بالعلاقة النسائيّة، فأنا لمّا بدأت حياتي كان عندي ثقة عالية جدّا بالنفس، ولذلك لم أجد فوارقَ، ولم تكن عندي عقدة رجل أو امرأة، فلذلك تجدين في الكتابات مشاعر الاكتئاب والسوداويّة والتظلّم والحزن والنقمة، والرسالة هي نقلٌ وتشريبٌ للمتلقّي، وأيضًا الافتقار إلى البُعد الفنّيّ، فمثلًا ليلى البعلبكي اللبنانيّة في "سفينة حنان إلى القمر"، تتحدّث عن القضيّة الجنسيّة وبوصف، وصودر الكتاب ثمّ أعيد ثمّ اختفت كتابات البعلبلكي، وحاولت أن أجدَ هدفًا في هذا الكتاب أو نتيجة، فلا بأس من التوصيف والتصوير، فنجيب محفوظ وإحسان عبد القدّوس ونزار قباني صوّروا هذه القضايا والمرأة ونجحوا، لكنّ المرأة لم تنجح في طرح قضيّة المرأة هذا أوّلًا، وثانيًا وناهيك عن المرأة الكاتبة، نعود إلى المراة في الميدان والجمعيّات النسويّة، ففي أكثر من محفل تجدين المرأة ضدّ المرأة، فهي ترفعُ الشعارَ وتدفنه في نفس الوقت بسبب الغيرة والحسد، ولكن إن كنتُ أنا رئيسة مؤسّسةٍ وأتحدّث عن المرأة، يجب أن أخوضَ منظّمة لها علاقةٌ بحقوق المرأة، وعليّ أن أقبلَ الأخرى وأتركَ النزعاتِ الإنسانيةَ الصغيرة من أجل قضيّة كبرى! وكذلك صياغة القضايا، فقد أصبحت قضيّة المرأة شعارًا بصراحة، فبالنسبة لي منظّمة المرأة هي قضيّةٌ سياسيّةٌ ووطنيّة، وليست قضيّةُ المرأة في جدول المرأة، لأنّ فيها أعضاء رجال أيضًا، فلاحظي منذ الانتفاضة حتّى الآن بدأت الوفود الأوروبيّة تأتي إلينا، فبدؤوا بلقاءاتٍ حول المرأةِ العربيّةِ المضطهَدةِ، وكثيرٌ من النساء بكلّ أسفٍ أعطيْن هذه الصورة، لأنّ الأوروبيّ هكذا يريد أن يرى كي يدعم، فمثلًا جاءت إليّ أوروبيّة تحملُ فكرةً عن المسلمين المتديّنين الذين يَضطهدون المرأة كي تحاورَني، فرفضت إجراءَ اللقاء لأنّها تحملُ فكرةً مُسبقةً تريدُ تأكيدَها وتثبيتَها منّي، فعادت تبكي ثانية لتقول: إنّها أخذت هذا الانطباعَ من خلال رؤساء المؤسّسات، واعتذرت وأكملت الحوار عن الدين والحجاب والمرأة بشموليّة، ولكنّ الحوارَ لم يُنشَر، لأنّهم يريدون الصورة السوداويّة البكّاءة من أجل أن تدعمك مؤسّسة؟ لمَ البكاء؟ صحيحٌ أنّ هناك مشكلة، فأيّ مجتمع في العالم لا يوجد عنده تمييز وعنف ضدّ المرأة؟ حتّى المجتمع الأوروبّي والأميريكي؟ ثمّ إنّ هذه التعديلات هي ليست من واقعنا المجتمعيّ، فمؤسّسات العنف ضدّ المرأة ومؤسّسات أخرى عديدة، وكلّها منقولةٌ ومُستورَدة، فلدينا المرأة بشكلٍ عامٍّ مُعزّزة ومُكرّمة ومحترمة. صحيحٌ أنّ هناك بعضُ العائلات وبعض الظروف المقيّدة، ولكن المرأة لها احترامها وحضورها، فاليوم التباكي على هذا الموضوع يفقد قيمة المرأة ويفقد قضيّة المرأة، وأصلًا ليس هناك موضوع اسمه قضيّة المرأة، ولكن هناك قضيّة مجتمعيّة وقضيّةُ إنسان، فلاحظي في التلفاز أو الجمعيّات، يضعون شعاراتٍ كبيرة عن قضيّة المرأة ووضع المرأة وإلخ من الشعارات، فكيف أكون امرأة ناجحة، إذا كان زوجي أو أبي أو أخي غير ناجح؟ أو إذا كان أبي لم يرقَ إلى المستوى البعيد الذي أعطاني إيّاه، فهنا القضيّة إذا أخذناها أحاديّة الجانب لن تنجح، لأنّها تُشقّقُ الرؤية، وناهيك عن أفكارٍ مُستورَدة كثيرة لا تتناسب مع واقعنا المجتمعيّ، فأنا دائمًا أقول: إلى جانب كلّ امرأة عظيمة يقف رجلٌ عظيم، وإلى جانب كلّ رجل عظيم تقف امرأة عظيمة، بالتالي يجب أن نُمهّدَ للرؤى وللمعرفة! وأنا مطمئنّة كثيرًا، ففي بلدنا نسبة التعليم عالية، والإبداع عالٍ، والمشاركة السياسيّة عالية، لكن نحتاج إلى تعمّق في طرح المرأة كإنسان متكافئة وليست متناحرة، ففي الاجتماعات تجدينهنّ يسبّون على بعضهم، فلماذا هذه السوقيّة في التعامل مع موضوع المرأة؟ أنا أقول إنّ موضوع المرأة هو موضوع كلّ إنسان وليس كجزء، يعني كما المرأة كما الرجل، وهذا الجانب أعكسه في اجتماعاتي وفي كتاباتي عن المرأة، فكتبت عن "المرأة والمساء الثوريّ"، وكيف تكون المرأة قائدة ورائدة في الثورة، إذا أدركت بعُمق وكانت على قدر المسؤوليّة، فإن كانت كاتبة على مستوى الإبداع والفنّ، وعلى مستوى الرسالة التي تحملها للمجتمع، وإذا كانت في أيّ موقع، يجبُ أن لا تكون سلعة للإغواء أو صورة للتسويق، بل يكون لها حضورها على الأرض، وتحمل كفاءاتها ومواقفها، وبالتالي لا تحتاج إلى الصراخ، فهذه الصفات هي التي تسطع على أرض خصبة، وبدون هذه العُقد التاريخيّة التي أخذناها، وطبعا المطالبة بالحقّ لا تأتي بالصراخ ولا بالعويل، وإنّما بالتفاهم والفهم وتعميق الفهم وإثبات الواقع، وإلّا ستكون قضيّة شعاريّة هدفها إرضاء بعض المؤسّسات العالميّة، وبعض مَن يَطرح هذه الأفكار كي تكون. طبعًا هناك إبداعاتٌ رائعة جدّا للمرأة التي بدأت بتطوير الرؤى وتطوير الثقافة أيضًا، ولا ننسى أنّ المرأة الفلسطينيّة حاملة الشهادة ليست أهمّ وأعلى من المرأة في البيت أو في الحقل، ولكلٍّ منها دوْرها وعلينا احترام الأدوار، كأمّ الشهيد وزوجة الشهيد وأم المعتقل، فهؤلاء النساء الصابرات اللواتي يَحملن صوَر أولادهنّ وأزواجهنّ، ويقطعن المسافات إلى عسقلان وبئر السبع لرؤيتهم في السجون، فهذا كنز وهذه هي القضيّة التي تُطرح في قضيّة المرأة، لتعكس الإيمان والرؤية والقدرة على العطاء والكلام المرتّب وتضحيتها، ولا يمكنني أن أصنّف المرأة الفلسطينيّة المناضلة تحت هذه التصنيفات الدوليّة، لأنّه لها تصنيف خاصّ، فخذي امرأة مُضحّية عانت وتعذّبت وأبدعت في كلّ المجالات، في السياسة والبيت وفي كلّ مواقعها، وهي التي أنجبت العظماء وربّت الأبطال والشهداء. رسالتي للمرأة: أكون سعيدةً جدًّا إذا دخلتُ إلى أيّ موقع أو إلى أيّ مكان بغضّ النظر عمّا هو، وكانت هناك سيّدة تُتقن عملها، وأُكِنّ لها كلّ احترام، ويُسعدني الإنسان الذي يُعطي للوظيفة ولا تعطيه اللقب، أي هو الذي يمنح المعنى للقب الوظيفة. والحقيقة أنّ هناك كفاءاتٍ كثيرةً وأعتزّ بها كثيرًا، عندما أجد امرأة أبدعت ونجحت، سواء كاتبة، زوجة، أم، واكون سعيدة وفخورة جدّا بها إذا أدّت رسالتها، فأنا اليوم لا أخاف على المرأة، لأنّ الفرص أصبحت عندها كبيرة، وأخذت مناصبَ عالية جدّا، وأبو عمّار رحمه الله شجّع المرأة كثيرا، فهذه الصور التاريخيّة كنساء علينا أن نحافظ عليها، لا بعصبة ولا بتشنّج نفسيّ ولا بوجوم ويأس، وإنّما بإرادة صادقة بمفهوم الكفاءة وبمفهوم السلطة بالمسؤوليّة، بمعنى؛ كي آخذ موقعي يجب أن أكون مسؤولًا وكفؤًا في تادية الرسالة، وإلّا سأكون شعارًا أو صورة نمطيّةً توضع لأهدافٍ أخرى.