نبيل الفولي تُولَع ذاكرة الشعوب عادة بالمقارنة بين الزعامات السياسية ونظيراتها السابقة عليها أو التالية لها، خاصة وقت الأزمات والإجراءات الخانقة وحين تفتقد الجماهير ميزة اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية كانت تتوفر لها في عهد وحرمها منها آخر. وقد لا يهم الناس في هذا إلا لحظتهم الراهنة، دون مراعاة للفرق بين أزمة مستديمة وأخرى عابرة، ولا بين مشكلة صنعها الفساد وأخرى فرضتها خطط إصلاحية جادة، إلا أن منطق المقارنة يبقى حاضرا في الذاكرة في كل الأحوال. تراجع وعلى مستوى الدراسات العلمية والأكاديمية كذلك، يقاس منحنى التغير في مجال ما لدولة أو شركة أو مؤسسة أو حتى شخصية مؤثرة، بالمقارنة بين أرقامها أو تحولاتها المسجلة في مرحلة ما بأرقام وتحولات مرحلة أو مراحل أخرى، مع التفتيش عن علل ذلك وأسبابه. وقد يسجل منحنى التغير بين عهدين من الإدارة أو الحكم فروقا طفيفة، فلا يلفت نظر المراقبين ولا يشهد اهتماما جماهيريا كبيرا، إلا أن حالات الفجوات الكبيرة المسجلة على سُلَّم التغير تدفع كل الفئات إلى وضع الصورتين المتناقضتين متجاورتين لتتجلى المفارقة صارخة في وجه صناع الأزمة. وتبدو الحالة المصرية الحالية مقارنة بما شهدته البلاد من منتصف عام 2012 إلى منتصف 2013 من هذا النوع الثاني، سواء أكان الكلام عن الحريات أم عن واقع الاقتصاد وتوقعاته المستقبلية أم عن الشخصيات المتصدرة لإدارة الدولة من جهة وطنيتها وكفايتها على السواء أم عن علاقة الإعلام والقضاء بشخص رئيس الدولة أم عن سعي النظام إلى تبصير الجماهير بحقوقها أو تغييبها وتخديرها،.. إلخ. وعنوان «اللامعقول» بامتياز هو أصدق ما يلخص الحالة المصرية القائمة الآن، في حين أن العام الذي حكم فيه الرئيس المعزول محمد مرسي يصدق عليه أنه كان «محاولة لصناعة المعقول» بالاستجابة لما تفرضه شخصية مصر الثقافية والجغرافية على حكامها. ومن أغرب «لامعقولات» مصر الآن أن يُحاكَم قضائيا رئيسٌ «منتخب معزول بانقلاب عسكري» على تهم ارتكب مثلها وأكثر منها رئيس «وَلَدَه الانقلاب»، دون أن يجرؤ أحد في الدولة كلها على مجرد التفكير في مساءلته. وهذا يصدّق ما أطلقه الحكيم المتنبي قديما في حق مصر حين قال: وكَمْ ذَا بمِصْرَ مِنَ المُضْحِكاتِ وَلَكِنّهُ ضَحِكٌ كالبُكَا!! لماذا يحاكمونه أصلا؟ تأتي محاكمات الرئيس مرسي بمختلف فصولها لتُقدّم مسوِّغا وشرعية لانقلاب 3 يوليوز، وإن كانت لا تمثل مسوغا كافيا لسطوة قائد الانقلاب على كرسي الرئاسة، كما تمثل المحاكمات ملهاة إعلامية وقضائية لشغل الجماهير عن حقيقة ما يجري لوطنها على يد الانقلاب. ونوع التهم التي وُجِّهت إلى الرئيس المغدور به تدل على هذا التفسير، وأولاها: - قتل المتظاهرين أمام قصر الاتحادية (تاريخ الاتهام: شتنبر 2013)، وكان لها حينئذ صدى يتجاوب مع صدى محاكمة مبارك بجريمة مماثلة في حق ثوار 25 يناير؛ - ثم الهروب من السجن (دجنبر 2013) إبان ثورة 25 يناير، لنسف شرعية خوضه للانتخابات من جذورها؛ - وتتداخل معها قضية التخابر مع حماس والتعاون معها في فتح السجون وتهريب المساجين. والتخابر مع دولة أو طرف أجنبي خيانةٌ عظمى تعطي الحق في عزل الرئيس في جميع الأنظمة الدستورية؛ - والتهمة الرابعة: إهانة القضاء (يناير 2014)، والتي تأتي انتقاما لحلفاء الانقلاب الاستراتيجيين الذين تُرِك لهم حبل القضاء على غاربه، شريطة أن يحكموا على خصوم الانقلاب بما شاء، ولو لم يكن لذلك أي مسوِّغ من قانون أو عقل أو خلق. - وأخيرا التخابر مع دولة قطر (شتنبر 2014) التي اختارت الوقوف مع الشعوب، ولم تبن علاقاتها على جثث الأمم المغلوبة على أمرها، وهي تهمة تخابر أخرى في حق مرسي. وبالمنطق البسيط: لو أثبتنا بعض هذه التهم على وزير الدفاع السابق عبد الفتاح السيسي، الذي جاء إلى كرسي الرئاسة بقوة الجيش، لكان من الواجب تقديمه للمحاكمة، ولو أثبتنا بعضها الآخر لكان الحق القانوني للشعب المصري أن يُعزَل الرجل من المنصب الذي سطا عليه، ويقدم إلى محاكمة وطنية عادلة قبل أن تختطفه يد المحاكم الدولية. إلا أن هذا سيبقى شيئا نظريا مادام اختطاف الانقلاب لمصر شاملا للقضاء والإعلام والجيش وعقل الجماهير والمناصب السيادية للدولة، ومادامت الثورة تدق -فقط- أبواب الحرية الحمراء، إلا أن تفتحها لها الأقدار. التخابر دعنا نقف هنا مع الحقائق وما قام عليه الدليل دون ما دارت حوله الشكوك في حقيقة مواقف السيسي تجاه أهم القضايا التي يحاكم لأجلها الرئيس المعزول محمد مرسي، مكتفين بالجزء عن الكل: قام الرئيس المصري المعزول محمد مرسي بعدد قياسي من الزيارات الخارجية أثناء توليه منصبه، وبدا الهاجس الاقتصادي وطبيعة علاقة مصر بغيرها أبرز الموضوعات حضورا في هذه الزيارات التي شملت السعودية وروسيا والصين وباكستان والبرازيل وتركيا وإيطاليا وبلجيكا والسودان وأوغندا وإثيوبيا. لكن نظام 3 يوليوز اختار حركة حماس الفلسطينية ودولة قطر الشقيقة العربية -وهي أطراف بينه وبينها أزمة من صُنْع يده- ليتّهم الرئيس المعتقل بالتخابر معهما، ولو اتهمه بالتآمر مع إثيوبيا في قضية سد النهضة، أو مع أوغندا للتأثير على حصة مصر من مياه النيل، لكان لذلك منطق ما، إلا أن الهوس بإلقاء التهم لم يترك للقوم مجالا للتمييز، حتى صارت العلاقات الطبيعية مع قطر ومساندتها للدولة المصرية في أزمتها الاقتصادية إبان الثورة تهمةً كبيرة، في حين صارت مساندة الانقلاب وجرائمه والتآمر على ثورة مصر وشعبها من أطراف عربية أخرى، يعرفها القاصي والداني، تعاونا عربيا ضد الإرهاب! دعنا من هذا، وفتش في طبيعة العلاقة التي تربط قائد الانقلاب بالجارة اللدود إسرائيل، فالأدلة متواترة على مساندته لها في عدوانها على غزة، وإعلامه طفح بمعاداة المقاومة الفلسطينية الباسلة والتعاطف مع نتنياهو وجيشه، وجاءت الطامة الكبرى بعرض السيسي على رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس -كما تسرب أخيرا- أن يتنازل له عن 1600 كيلومتر مربع من سيناء مقابل أن يتنازل الفلسطينيون لإسرائيل عن حدود 1967، وهو ما يكشف أن الحملة الشرسة على أهل سيناء منذ الانقلاب كانت تمهيدا لهذا المشروع الأثيم! وكم كان متناقضا أن يستضيف السيسي في القاهرة مفاوضين من حماس لعقد هدنة بين غزة وإسرائيل، في الوقت الذي يحاكَم فيه مرسي بالتخابر مع حماس نفسها، ورددت ذلك المعنى مواقع التواصل الاجتماعي بقوة. إلا أن هذا لم يكن تناقضا في الحقيقة، لأن السيسي لم يرع المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية باعتباره طرفا محايدا، فضلا عن أن يقف إلى جانب الأشقاء المعتدَى عليهم، بل أكمل مسلسل انحيازه إلى جانب إسرائيل، ومثل عاملا سلبيا وضاغطا على الفلسطينيين. وفي حين اكتفت المحاكم المصرية بأن تعقد جلسات محاكمة هزلية للرئيس المعزول بتهمة التخابر، فقد روّج الإعلام الموالي للانقلاب للتهمة كأنها حقيقة قاطعة، بل نفخ فيها حتى اتسعت وشملت التخابر مع دول أخرى كالولايات المتحدةالأمريكية، وأوهموا المشاهدين والقراء بأن لديهم صورا وشهودا يثبتون صحة التهمة، وتجاوز الإعلاميون أخلاق المهنة وخانوا الحقيقة التي ائتمنوا عليها أمام الله قبل الناس. والغريب أن الإعلام في جميع أنحاء العالم شرقا وغربا -وأوله الإعلام الإسرائيلي- يقدم لهذه الأحداث صورة وحقيقة تختلف تماما عما يقدمه الإعلام الانقلابي في مصر وما شابهه من المسخ الإعلامي العربي هنا وهناك. ودعنا نقدم لهذا نموذجا من الصحيفة «الوقورة» وشبه الرسمية «الأهرام»، ففي عدد الثلاثاء 9 من شتنبر يطالعنا عنوان عريض يقول: «في قضية التخابر لمصلحة قطر المتهم فيها مرسي وآخرون: المتهمون اعترفوا بتهريب مستندات تتعلق بالأمن القومي من مؤسسة الرئاسة»، وفي التفاصيل تفتقد المصداقية والمهنية معا، فمع التهويل من جريمة مفتعلة، يؤكد الخبر أن المتهمين حصلوا على «مليون دولار» مقابل بيع معلومات حساسة، وأن نوع المعلومات التي قبضوا لأجلها هذا المبلغ البخس كانت «عن تسليح القوات المسلحة المصرية وحجمها وتشكيلاتها المتنوعة وأماكن تمركزها بسيناء، وكذا معلومات عن تسليح الجيش الإسرائيلي وعدد الإناث والذكور به، وأماكن تمركز منصات الصواريخ وبيانات تفصيلية عن أعضاء الكنيست الإسرائيلي وانتماءاتهم الحزبية»! والهدف من الحصول على هذه المعلومات -كما تضيف الأهرام- هو «إذاعة ما بها من معلومات بقناة الجزيرة القطرية»!! ولأن الجزيرة لم تذع شيئا من هذا، فقد أضاف الخبر أن أحد المتهمين اختتم «إقراره بتقابله مع المتهمة الثامنة التي أبلغته بتضررها من عدم نشر المستندات عبر قناة الجزيرة»!! وإذا كان هذا الهزل والهذر شأن الأهرام، إحدى أعرق الصحف في العالم، فما بالنا بالصحف الصفراء والسوداء وأشباهها؟! قتل المتظاهرين وجه القضاء هذه التهمة إلى حسني مبارك وإلى محمد مرسي، كما وجهها خصوم الانقلاب إلى عبد الفتاح السيسي، فدعنا نرى أيهم تثبت الجريمة في حقه أكثر؟ أما الرئيس المخلوع مبارك، فقد فاجأته الثورة في يناير وفبراير 2011 كالصاعقة، ولم تسعفه قدراته ولا قدرات نظامه المهترئ في مواجهة الثوار، لكنه احتال بعض الحيل للتخلص من الثورة، فوظف العنف بأكثر من طريقة، مرة متوسلا بالقناصة، وتارة معتمدا على البلطجية، ومرة بترويع الناس وتخويفهم على بيوتهم وعائلاتهم حتى يغادروا الميدان. وسقطت نتيجة لذلك بضع مئات من الضحايا، لكن تطورات الأزمة ساعدت على التخلص من الأدلة الصريحة التي تساعد على اكتشاف الجاني، مما ساعد القضاء على تبرئة مبارك من هذه التهمة. وأما الرئيس محمد مرسي، فمازال قضاء الانقلاب عاجزا عن إثبات التهمة الموجهة إليه بقتل اثنين من المتظاهرين عند قصر الاتحادية، مع تعمد إهمال مقتل ثمانية من أنصار مرسي في الحادث نفسه. وتبقى التهمة -على الأقل- مجهولة المنفذين، ولو ثبت أن مرسي كلف الجيش أو الشرطة أو حتى أنصاره بقتل المهاجمين للقصر -وهو أمر تنفيه ملابسات الحادث- لكان هناك مسوِّغ ما من الدفاع عن حياة الرئيس التي كانت مهددة بشكل مباشر. وأما عبد الفتاح السيسي، فهناك قائمة طويلة من الأدلة تدينه بصورة مباشرة بقتل ما لا يقل عن ألف شخص في يوم 14 غشت 2013 فقط في ميدان رابعة العدوية، ولا يقتصر هذا على تقرير المنظمة الدولية لحقوق الإنسان الذي طالب بمحاكمة السيسي وبعض رجاله بتهمة ارتكاب جرائم تصل إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية عند فض اعتصام رابعة، بل هناك آلاف من الشهود المباشرين الذين نجوا من المحرقة وشاهدوها بأم أعينهم، إضافة إلى مئات من لقطات الفيديو والصور لأحداث الفض. وكانت وظيفة الإعلام الموالي للانقلاب قبل المقتلة الرهيبة تسويغُها عند الناس وجمعُ الجماهير المخدوعة على تأييدها، وبعدها سعى إلى تقديم الأعذار للنظام الذي اضطر -حسب ادعائهم- إلى استعمال القوة مع مجموعات خارجة عن القانون تخزن في الميادين أسلحة تتجاوز السلاح الشخصي الخفيف الذي يمتلكه حوالي 20 ألفا منهم إلى أسلحة ثقيلة، ويختطفون الأبرياء ويقتلونهم تحت المنصة. وصوّر هذا الإعلام فض الاعتصام على أنه تحقق بمراعاة القانون تماما، ولم يستعمل القوة إلا في أضيق حدودها، مما أدى إلى مقتل أقل من 50 شخصا من المعتصمين، وحوالي 80 من شهداء الشرطة والجيش!! كل ذلك يمثل نماذج صارخة من التعبير عن «دولة اللامعقول» التي أقامها الانقلاب فوق أرض مصر، حيث صارت إسرائيل صديقا، وقطر وتركيا والمقاومة الفلسطينية أعداء، وأصبح الكذب بلا سقف، واستغلال سذاجة المواطن العادي بلا حدود.