منير شفيق نذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وطوال الخمسينيات، وربما حتى منتصف الستينيات، ظلت قراءة الوضع الدولي وأدوار دوله الكبرى مشدودة إلى المراحل السابقة التي كانت فيها كل من بريطانيا وفرنسا، ولاسيما بريطانيا، اللاعبين الرئيسين في ميادين السياسة الدولية، خصوصا في المنطقة العربية - الإسلامية، المسماة، زورا، منطقة الشرق الأوسط. كانت القراءة الدقيقة للمتغير الذي حدث في ميزان القوى العالمي بعد الحرب العالمية الثانية تقول إن أمريكا هي الدولة الكبرى الصاعدة، فيما بدأ نجم كل من بريطانيا وفرنسا بالأفول. وكانت ثمة دلائل كثيرة على هذا التحوّل ابتداء من انفراد أمريكا بامتلاك القنبلة النووية، وتفوّقها في مجالي القوة العسكرية والاقتصادية (والمالية بالطبع)، جنبا إلى جنب مع ما راح يحلّ في بريطانيا وفرنسا من شيخوخة وضعف عسكري وسياسي واقتصادي وأزمات مع مستعمراتها. لكن العقل السياسي عموما بقي متخلفا يعيش في الماضي الذي كانت فيه بريطانيا اللاعب المهيمن على مجريات السياسة في كثير من مناطق العالم، ولاسيما من مصر إلى الهند. ولم يستطع هذا العقل حتى منتصف الستينيات تقريبا أن يقبل بانتقال الزعامة في الغرب إلى أمريكا وتحول بريطانيا إلى تابع وفرنسا إلى متمرّد في حالة تدهور. الذين أصابوا في التقدّم بقراءة صحيحة للوضع العالمي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية من جهة الدور الأمريكي وانتقاله إلى زعامة الإمبريالية العالمية، كانوا قادة الاتحاد السوفياتي والأحزاب الشيوعية، بل كانت لدى لينين إرهاصات في هذا الاتجاه منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، ناهيك عن التحليل المتعلق بالكارتيلات والتروستات الرأسمالية العالمية وانتقال الزعامة إلى الأمريكية منها. الأمر نفسه يتكرر الآن لدى الكثيرين في قراءة الوضع الدولي، ولاسيما الدور الأمريكي فيه، باعتباره «اللاعب الرئيس»، بالرغم مما راح يصيبه من تدهور وتراجع خلال العشر سنوات الأخيرة في الأقل، ولاسيما في المرحلة الراهنة التي ابتدأت مع العشرية الثانية للقرن الواحد والعشرين. ثمة دلائل كثيرة تشير إلى هذا التراجع ابتداءً من فشلها في إقامة نظام عالمي أحادي القطبية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومرورا بفشل حربيها على أفغانستان 2001 والعراق 2003 في تكريس سيطرتها العسكرية والسياسية عليهما، ثم فشل شراكتها في الحروب التي شنها الكيان الصهيوني على لبنان 2006 وقطاع غزة 2008/2009 و2012، ولا تسل عن الفشل الصهيوني في عدوانه العسكري على قطاع غزة 2014، ثم أزمتها المالية التي هزت أركان اقتصادها منذ عام 2008، وأخيرا وليس آخرا وصولا إلى تخبط سياساتها المفتقرة إلى استراتيجية عالمية، واستراتيجيات إقليمية، متماسكة إزاء مختلف القضايا التي تعالجها، وذلك فضلا عن بروز قوى دولية وإقليمية ذات شأن فاقمت تدهور الدور الأمريكي، بل بروز أدوار محلية وإقليمية، ولاسيما في البلاد العربية والإسلامية أخذت تدفع إلى الخلف كلا من الدور الأمريكي والدور الأوربي في تقرير مصير الأحداث. ولكن مع كل هذه الدلائل، بقي العقل السياسي لدى الكثير من القادة والمفكرين والصحفيين والمحللين متخلفا يعيش في الماضي الذي كانت فيه أمريكا تعتمد على الغزو العسكري والتحكم في الانقلابات العسكرية، أو تحريك جيش الكيان الصهيوني ليقوم بالمهمة عنها. ولهذا تراه (العقل) مازال يبحث عن أمريكاوبريطانيا وفرنسا وراء كل ظاهرة، أو حدث، بل حتى انتشار الفوضى اعتبرها تنفيذا لمخطط أمريكي، بدلا من أن يراها نتاج موازين قوى عالمية وإقليمية ومحلية لم تعد أمريكا في موقع السيطرة عليها، بل ضربت في بلاد كانت، بصورة أو بأخرى، تحت سيطرتها أو حصارها فلم تعد قادرة حتى على حماية سفاراتها ودبلوماسييها فيها. وذهب البعض إلى تفسير حالات صارخة تدل على تراجع السيطرة الأمريكية عليها إما بالاستناد إلى مقولة «القيادة من الخلف» أو «استراتيجية القوة الناعمة» أو مقولة «الفوضى الخلاقة» أو «الانسحاب من منطقتنا»، وهو ما يذكرك بقصة الثعلب الذي أجهد نفسه في القفز لالتقاط عنقود العنب الذي حان أوان قطافه، وعندما فشل في محاولاته وأعياه التعب ترك عناقيد العنب معزيا نفسه بالقول «حصرم» لما رأى أنه لن يناله. فأمريكا عندما كانت قوية ومسيطرة كانت تقود من أمام، إذ لا قيادة إلا من أمام، وكان عماد استراتيجيتها حشد القوة العسكرية واستخدامها أو التهديد الجدي باستخدامها، وكانت تسعى إلى السيطرة وإحكام السيطرة والضبط الأشد للنظام والاستقرار وليس صنع «فوضى خلاقة». فالذين لا يستطيعون أن يواجهوا حقيقة انحسار الدور الأمريكي يفسّرون كل ما يحدث من قِبَل مَنْ أخذوا يسعون إلى الحلول مكان ذلك الدور، ولو نشأت فوضى مدمّرة نتيجة صراعاتهم الداخلية والإقليمية بأن ذلك كله يدخل ضمن مخطط أمريكي وراءه؛ فهؤلاء يتنكرون لبدهية وهي أن لا قيمة لمخطط أو خطة ليست وراءه/وراءها قوّة وقدرة على التنفيذ؛ فعندما تفقد أمريكا وأوربا القوّة والقدرة على السيطرة فلا قيمة لما قد ينسب إليهما من خطط ومخططات. فعلى سبيل المثال، ظاهرة تجزئة المجزّأ أو حدوث تغييرات في حدود تجزئة سايكس-بيكو، هل تفسَّر في الوضع العربي الراهن بأنها تنفيذ لمخطط أعدّه الغرب أو الصهيونية حتى لو كان ذلك المخطط قد وضع سابقا أو كُتِبَ عنه؟ الجواب: صاحب المخطط ينفذه شريطة أن يكون مسيطرا وقادرا عليه، وهو ما حدث مثلا مع مخطط سايكس-بيكو الذي نفذ تحت سيطرة جيوش بريطانيا وفرنسا وهي تحتل البلاد العربية؛ ولم ينفذ بالوساطة أو من خلال متعهدين في الباطن لأن شرط المتعهدين بالباطن أن يعملوا ضمن مخطط مسيطر عليه مباشرة من قِبَل من سيشغلونهم. فبدلا من أن ترى مخاطر تجزيء المجزأ أو حدوث تغييرات في التجزئة العربية القائمة إذا ما تكرّست فعلا، بأنها نتاج ميزان القوى الذي يتحقق على الأرض من خلال مختلف قوى الصراع وبعد أن ييأس كل المعنيين من فرض وحدة أشمل ليسلموا بحدود التجزئة الجديدة؛ فالمسألة لا تحكمها مخططات إنما ميزان قوى. وإذا صادف أن أفرز ميزان القوى ما يتطابق مع مخطط وُضِعَ في ظروف معينة وكان يُراد له أن يُنفذ عبر موازين قوى أخرى فلا يعني ذلك أن التجزئة الجديدة تمت بسبب تخطيط سابق كتبه صهيوني أو تصوّره مركز أبحاث غربي، وذلك في الوقت الذي يفشل فيه الجيش الصهيوني في احتلال حتى غزة أو جنوبلبنان ولا تستطيع فيه أمريكا أن تُحكم سيطرتها على العراق أو أفغانستان وجيوشها في الميدان. طبعا، هذا يتناقض مع اعتبار الفاشلين مخططين. ولكن ما العمل إذا كان مكتوبا علينا أن نعيش بضع سنوات أخرى تحت العقل الذي ساد مرحلة الحرب الباردة ومازال يجترّ مقولاتها وموازين قواها، أو مرحلة العشرين سنة التالية لانهيار الاتحاد السوفياتي إلى أن يعيد قراءة الوضع الدولي والأوضاع الإقليمية والمحلية، ولاسيما في المنطقة العربية - الإسلامية ضمن مقولات أكثر تطابقا مع موازين القوى الجديدة والظواهر الجديدة ومجريات الصراعات الجديدة. ولعل ما حدث من انتصار حققته المقاومة والشعب في قطاع غزة بإنزال الهزيمة الميدانية والسياسية بالعدوان العسكري الصهيوني الذي أيّدته أمريكا وأوربا وفي ظل حصار خانق وتخاذل عربي رسمي (بعضه تواطؤ) غير مسبوق، أن يفرض على عقل المرحلتين المذكورتين أن يعيد حساباته في قراءة موازين القوى عالميا وإقليميا ومحليا، كما قراءة أدوار الدول والمقاومات والشعوب في المرحلة الجديدة، ولاسيما ما حلّ من تراجع وتدهور في أدوار أمريكا وأوربا والكيان الصهيوني، «أم على قلوب أقفالها».