بمناسبة الاقتراب من ذكرى النكبة، النكبة التي حلّت بالفلسطينيين والعرب والمسلمين بإقامة الكيان الصهيوني على 78% من أرض فلسطين في العام ,1948 يتوجّب الوقوف أمام مجموعة من حقائق مترابطة طالما عمد الكثيرون إلى تجاهلها أو قلبها رأساً على عقب. بداية، ما كان للمشروع الصهيوني الذي استهدف الاستيلاء على فلسطين، وإقامة دولة له عليها، مع اشتراطه تهجير أهلها، أو القسم الأعظم منهم، أن يتقدّم خطوة واحدة لولا الرعاية البريطانية: الدولة الإمبريالية الأعظم مع مطلع القرن العشرين. فكل حديث عن مهارة الحركة الصهيونية وتنظيماتها ومؤامراتها في تحقيق أهداف المشروع الصهيوني يظل مضلِلاً إذا لم يوضع في المرتبة الثانية، أو الثالثة، أو الرابعة، من حيث الأهمية بعد الدور البريطاني الدولي. وذلك من زاوية ما وفّر له من حماية عسكرية وأمنية، فيما كان هشاً يحبو غير قادر على الوقوف أو المشي. فلولا الانتداب البريطاني على فلسطين، وقد بلغ تعداد جنوده، في مرحلة من مراحل حشدها، إلى مائة ألف في مواجهة مليون ونصف المليون فلسطيني مجردّين من السلاح. وقد كرسّهم للإمعان في قمع الشعب الفلسطيني إلى حدّ بلغ الحكم بالإعدام لمن يُعثر معه على غلاف رصاصة أو كان يُحكم بالسجن بين ثلاث سنوات و15 سنة إذا حمل مدية يزيد نصلها على 12 سم. وبهذا ما كان على الحركة الصهيونية إلاّ أن تحشد ما استطاعت من المهاجرين وترسلهم إلى فلسطين والباقي على بريطانيا في تأمين الأرض والحماية لهم، ثم تسليحهم، أو تسهيل تسليحهم وتدريبهم. هذا وأمَّنت بريطانيا إلى جانب تكبيل الشعب الفلسطيني تقسيم الأقطار العربية والهيمنة عليها، وقد شاركتها فرنسا في تقسيم البلاد العربية والسيطرة عليها. الأمر الذي عنى شلّ القدرة العربية عن نصرة الفلسطينيين، بل سدّ الأبواب والحدود في وجههم من حيث الدعم والتسليح والحركة. وبهذا تكون بريطانيا وفرنسا وبمشاركة دولية أوسع، وقد انضمت إليهما أميركا أيضاً، أصحاب الفضل الأول الحاسم في إقامة الكيان الصهيوني. بل لا مبالغة لو قيل إن فلسطين قدّمت للمشروع الصهيوني على طبق من ذهب. فما كان عليه إلاّ أن يقاتل في العام 1948 وهو متفوّق تفوّقاً كاسحاً بالعديد والسلاح على كل من حشدهم الشعب الفلسطيني من حاملي السلاح البدائي المتخلف، أو ما حشدتهم الجيوش العربية التي تدّخلت بعد انتهاء الانتداب البريطاني. كان التفوّق لقوات الهاغاناه على تلك الجيوش بنسبة ثلاثة إلى واحد. أما السلاح فكان التفوّق فيه يزيد على ذلك أضعافاً كماً ونوعاً. ثم أخذ نهر التسلّح السوفياتي التشيكي يتدّفق عليه ليضيف إلى ذلك التفوّق تفوّقاً عسكرياً ومعنوياً وسياسياً كما الاعتراف الدولي بعد تمرير قرار التقسيم الجائر، والمخالف للقانون الدولي. وبكلمة، إن كل من يتغنّى بمزايا تنظيمية أو حضارية أو مؤامراتية كانت ذات الفضل الأول في ما حققه المشروع الصهيوني يخالفون الحقيقة ويقعون في براثن الدعاية الصهيونية إن لم يجذبهم تقليده في التغلغل في الدول الغربية. فحتى من الزاوية الأخيرة فالفضل الأول يرجع إلى الإستراتيجية الغربية التي فتحت للحركة الصهيونية الأبواب من أجل التسهيل عليها في دعم المشروع الصهيوني في فلسطين، والذي كان القرار الإستراتيجي البريطاني أولاً وقبل كل شيء، وراء تشكله بما في ذلك عقده لمؤتمره الأول في بازل في سويسرا. ثمة خلل كبير حين يُعاد الموضوع إلى الحلم التوراتي، أو اعتبار مؤتمر بازل كان وراء تأسيسه، ثم استطاعت الحركة الصهيونية أن تتقدّم فيه بقدراتها الذاتية إلى حدّ فرضه على الأجندة الإستراتيجية البريطانية ثم الأميركية فالغربية عموماً. وباختصار، إن من يقول بغير هذا إنما يضع العربة أمام الحصان. ما إن انسحب الاحتلال البريطاني من فلسطين بعد أن ضمن إقامة الكيان الصهيوني كما أمّن توسّعه إلى حدّ الاستيلاء على 78% من فلسطين وتهجير حوالى المليون فلسطيني (ثلثا الشعب)، حتى سارعت أميركا وبريطانيا وفرنسا في 1951 إلى إصدار الإعلان الثلاثي الذي تعهدّ بعدم المساس بخطوط الهدنة التي فرضت في العام 1948/.1949 وقد شكل هذا الإعلان ضماناً دولياً للكيان الصهيوني. ولكن ذلك لم يكن كافياً إذ تقرّر إمداده بالسلاح وتحديد سقف التسّلح العربي بما يحقق له تفوّقاً عسكرياً كاسحاً على كل الجيوش العربية منفردة، ومجتمعة. ثم عقد توافق سوفياتي أميركي على سقف التسلح الذي يمكن أن يصله التسليح السوفياتي للدول العربية. وهو الذي يفسّر الهوّة الواسعة التي كانت قائمة طوال مرحلة الحرب الباردة. فالقرار الدولي كان ولم يزل على مستوى الدول الكبرى، منذ قيام دولة الكيان الصهيوني أن يبقي لها التفوّق العسكري على كل الجيوش العربية بل وصل الأمر إلى تأمين امتلاكها للقنبلة النووية وحمايتها من أن توقّع على اتفاقيات الوكالة الدولية للطاقة النووية. ومن ثم كبت كل صوت يحتجّ على ذلك. عندما حاولت مصر أن تقترب من امتلاك قدرة نووية، ولو في الحدود السلمية مورست عليها الضغوط التي أجبرتها على التخلي عن مشروعها. وعندما حاول العراق أن يبني مفاعلاً نووياً تمّ التواطؤ الدولي للمساعدة في تدميره من قِبَل الطيران الصهيوني. وهكذا كان ممنوعاً على العرب، بصورة خاصة، اختراق حاجز التسّلح التقليدي بما يؤمّن نوعاً من التوازن الإستراتيجي مع جيش الكيان الصهيوني. ناهيك عن التحريم القاطع من امتلاك النووي أو حتى الكيمياوي. وقد وصل هذا حتى إلى مراقبة تسّلح شاه إيران. أما الموضوع التركي من حيث التسّلح فكان محكوماً بالحلف الأطلسي ومقتضياته. هذا ولعلّ باكستان هي التي شذّت في امتلاكها للقنبلة النووية من بين الدول الإسلامية. علماً أن قنبلتها موجهّة لتحقيق توازن نووي مع الهند. ولكن مع ذلك فإن أميركا لن يهدأ لها بال قبل أن تجرّد باكستان منها أو تسيطر عليها بالكامل. وذلك ضماناً لعدم إدخالها في التوازن النووي مع الكيان الصهيوني. من هنا ندرك ما معنى الذي تفعله إيران من زاوية الإستراتيجية الدولية حين تخرج عن سقف التوازن المفروض على المنطقة العربية الإيرانية. وتذهب بعيداً في تطوير قدراتها الصاروخية والتكنولوجية العسكرية في الأسلحة التقليدية. ومن ثم ندرك ما معنى الذي تفعله في محاولة امتلاك قدرة تخصيب نووي حتى لو لم يرتفع إلى مستوى امتلاك القنبلة. وإن الأمر لكذلك حين تتجرّأ سوريا خلال العشر سنوات الماضية أن تتسّلح وتطوّر قدراتها الصاروخية، وفقاً لتقارير صهيونية وغربية فوق السقف المسموح لها به، وبصورة خارجة عن السيطرة. وذلك عكس ما كان عليه الحال في مرحلة الحرب الباردة. هذا ويجب أن يُضاف إلى ما تقدّم تجاوز سقف التسّلح من قِبَل كلٍ من سوريا وإيران من جهة تسليح المقاومة بقيادة حزب الله في لبنان. وقد تمّ تجاوز السقف أيضاً في دعم قطاع غزة، كما تعلن المصادر الصهيونية والغربية، مالياً وتسّلحاً. هذا يعني أن كلاً من إيران وسوريا والمقاومتيْن في لبنان وقطاع غزة (قطاع غزة أقل بسبب الحصار ولكن ما زال في إطار الممنوع والمحرّم) دخلوا في الخط الأحمر بالنسبة إلى الإستراتيجية الأميركية الغربية الصهيونية. وذلك من زاوية الإخلال بتوازن السلاح التقليدي وتأمين قدرات قتالية معززة بالأنفاق والتمويه. طبعاً مثل هذا ما كان ليحدث في زمن الحرب الباردة. أي في ظل الوفاق بين المعسكريْن. ثم ما كان ليحدث الآن لو كان بإمكان أميركا والكيان الصهيوني منعه بالقوّة العسكرية المباشرة. وهو ما حاوله الكيان الصهيوني وبدعم أميركي، وتواطؤ دولي، في حربيْ 2006 ضدّ المقاومة في لبنان، و2008/2009 ضدّ المقاومة في قطاع غزة. وقد فشلتا، ونجم عنهما سباق تسّلح جديد خارج عن السيطرة. ومن هنا، فإن استمرار هذه المعادلة التي خرجت عن سقوف التسّلح المفروضة منذ 1948 ما كان له أن يستمر حتى الآن لولا دخول الوضع العالمي: كل من أميركا والكيان الصهيوني إلى حالة اللا يقين من نتائج استخدام القوّة المسّلحة. فقرار الحرب متخذ من جهة، ولكن التردّد في التنفيذ، من جهة أخرى، هو الذي أجلّ اندلاع الحرب حتى الآن. الأمر الذي يعني أن الأشهر القليلة القادمة (ربما أكثر) هي التي ستقرّر إن كان الجواب هو الحرب أم ابتلاع معادلة جديدة لميزان القوى. وهذه ستربض كالصخرة على الذين خططوا وعملوا دائماً على إبقاء التفوّق الكاسح في ميزان القوى ضمن شروط أو سقوف مسيطر عليها في مصلحة الكيان الصهيوني. بالتأكيد كان على الحرب أن تندلع لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء منذ سنتين في الأقل لو لم تكن هنالك موانع حقيقية أميركية إسرائيلية حالت دونها. ولا تفسير ممكنا حتى الآن لذلك غير الإعداد للحرب وإطلاقها بمجرّد تشكل يقين يرجّح الخروج بنتائج إيجابية ولو على مستوى تجميد التسّلح من قِبَل إيران وسوريا والمقاومتيْن عند الحدود الحالية. وخلاصة، لا تفسير لعدم اندلاع الحرب حتى الآن غير الخوف من أن تأتي بنتائج تزيد الأمر تفاقماً بالنسبة لأميركا والكيان الصهيوني. وهذا ينطبق على قطاع غزة كذلك.