عجزت أوربا عن إيقاف المد العثماني ووقفت مشدوهة أمام اختراق العثمانيين لأراضيها في سهولة ويسر. وبينما كانت شمس المسلمين تغرب في أوربا الغربية بعد توالي انكساراتهم في الأندلس بزغ فجر جديد في أوربا الشرقية وتلاحقت هناك فتوحات الجيوش الإسلامية بقيادة بني عثمان مؤذنة بعودة إشعاع الحضارة الإسلامية إلى أوربا من بوابة جديدة. كان بايزيد الأول الملقب بالصاعقة واحدا من أعظم الملوك الذين صنعوا أمجاد العثمانيين. ويكفي أن نذكر موقفا عظيما من مواقفه المشهودة لنعرفه عن كثب ونكون فكرة صغيرة عن شخصيته العظيمة، فمع أنه كانت ترتعد لذكر اسمه الفرائص في سائر أنحاء أوربا، مما دفع ملوكها للتحالف ضده ومحاربته، فإن ذلك لم يمنعه من الوقوف كسائر أفراد الرعية بين يدي القاضي شمس الدين الفناري ليدلي بشهادته في قضية من القضايا، فرد القاضي شهادته، فلما سأله عن السبب قال الفناري: «لا أراك تصلي مع الجماعة»، فانسحب السلطان ولم يعقب على قول القاضي، وبنى جامعا عظيما يذكره بهذه الحادثة. كان الجامع ملاصقا لقصره في مدينة بورصة. وقد روى المؤرخ عثمان نزار في «حديقة السلاطين» أنه واظب على أداء صلواته في ذلك المسجد لئلا ترد شهادته مرة أخرى. وطبعا بايزيد هنا لم يشغله لهو ولا طرب ولا لذة من لذائذ الدنيا عن صلاة الجماعة، وإنما شغله أمر حرب الصليبيين الذين تكالبوا عليه، فصرفته مدافعتهم عن كل شيء، لكنه يعلم أنه قدوة لمن هم دونه من الرعية، وعليه أن يكون نموذجا يحتذى به في سلوكه، هذا ما تعلمه من والده مراد الذي أحسن تربيته وتعليمه. وكما لقب بايزيد بالصاعقة لأنه كان صاعقة في الحروب، فقد لقب بالولي أيضا، وذاك أنه لما أنهى بناء مسجد «بايزيد» الموجود في ساحة إسطنبول وأراد افتتاحه تردد هنيهة في تعيين إمام للصلاة فوقف إمام الجامع وصاح في الناس: «فليتقدم للصلاة من لم يضطر يوما لقضاء صلاة فرض في حياته» (يقصد لم يضطر لقضائها بعد خروجها عن وقتها) فجعل الناس ينظر بعضهم إلى بعض وما تقدم منهم غير بايزيد نفسه. كان بايزيد صاحب همة عالية يقذف بنفسه في غمار الحروب ولا يتهيب لقاء الموت في مظانه، تجده محاصرا للقسطنطينية، ومنها ينتقل إلى بلغاريا، ثم يعود إلى آسيا، يتحرك بسرعة مدهشة ليحفظ لدولته هيبتها. وذات مرة وجدته زوجته مكبا على ثيابه ينفض عنها الغبار بيديه في قارورة، فلما سألته عن سبب قيامه بذلك أجابها بأنه سيوصي بعمل طوب من هذا الغبار ليوضع تحت رأسه أثناء دفنه ليشفع له ذلك بين يدي ربه. فتح بايزيد سلانيك وألبانيا والبوسنة وبلاد البلغار بعد حروب طويلة مريرة، وتمكن بعد فتح بلغاريا عام 797 ه أن يفرض شروطه على إمبراطور بيزنطة مانويل بعد أن صار في موقع قوة. ومن شروطه تلك إنشاء محكمة إسلامية تقضي بين أبناء الجالية المسلمة المقيمة ببلاده وزيادة مبلغ الجزية وبناء مسجد كبير للمسلمين ليؤدوا فيه شعائرهم، وهو ما دفع أوربا برمتها إلى الانتفاض ضده بعدما أحست بتفاقم خطره، فاقترح كل من ملك المجر سيجموند والبابا بونيفا التاسع تشكيل حلف صليبي لسحق العثمانيين، وكذلك كان، ففي سنة 800ه تحركت جحافل الصليبيين نحو مدينة نيكوبولوس في حوالي مائة وعشرين ألف مقاتل يمثلون مختلف الجنسيات (ألمانيا، اسكتلندا، سويسرا، إيطاليا ...) بقيادة سيجموند، وقد تغلب عليهم بايزيد في معركة فاصلة أطلق عليها اسم المدينة التي شهدت فصول المواجهة: نيكوبولس. وبينما بايزيد يضع الخطط لاستثمار انتصاره العظيم وصلت حملات تيمورلنك إلى الشرق فتنفست أوربا الصعداء، وكان المنطق يقضي باصطدام بايزيد بالجيوش التتارية، فالعثمانيون كانوا عقبة كأداء أمام طموحات تيمورلنك. وهكذا سيلتقي الجيش العثماني بالتتار في أنقرة في معركة حاسمة، فبعد سقوط بغداد فر أميرها إلى بايزيد ورفض هذا الأخير تسليمه إلى أعدائه، فجرد تيمور لحربه حملة ضخمة يفوق عدد جنودها ثمانمائة ألف مقاتل، وتمكن هذا الجيش العرمرم من قتل الأمير أرطغرل ابن بايزيد ومن الاستيلاء على مدينة سيواس، فجمع السلطان العثماني قواته وسار نحوهم لإيقاف زحفهم. ومع أن عدد قواته كان أقل من عدد قوات خصمه حيث لم يتجاوز في أحسن الروايات مائة وخمسين ألف مقاتل وقيل أقل من ذلك بكثير، فإن بايزيد كان عازما على دحرهم، خاصة أنه يقاتل على أرضه وفي رقعة يعرف تضاريسها جيدا، غير أنه حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد استطاع تيمورلنك اختراق جيش بايزيد، واتصل بالتتار المنضوين تحت لوائه، وأقنعهم بالانضمام إليه، وكذلك كان. فما إن التقى الجمعان في صبيحة التاسع عشر من ذي الحجة عام 804 ه حتى انحازت فرق آيدن وصاروخان وكرميان ومنتشا التترية إلى صف تيمورلنك فاختل توازن الجيش العثماني وحلت به الهزيمة ووقع بايزيد وولده موسى في الأسر. وقد لقي معاملة مذلة لم يستطع احتمالها، إذ وضعوه في قفص وراحوا يطوفون به في البلدان التي ينتقلون إليها، وحاول الفرار مرارا، ولم يفلح فأصيب بإحباط شديد وساءت أحواله النفسية، وبعد ثمانية أشهر من الأسر والمعاناة فاضت روحه ودفن قرب مسجده بمدينة بورصة وقد بلغ من العمر أربعة وأربعين عاما.