عندما نتحدث عن الطغاة عموما لا بد أن نشير إلى أن لكل واحد منهم دوافع معينة دفعته للإسراف في القتل، فبعضهم حاول الحفاظ على سلطانه، والبعض الآخر كانت تسكنه رغبة قوية في التوسع وبناء دولة عظمى ولو على حساب الأبرياء والضعفاء. وعندما نذكر اسم تيمورلنك فدافع القتل لديه يختلف عن دوافع هؤلاء جميعا، فهو حالة خاصة ضمن الطغاة وقد تفرد عنهم في مسلكه الإجرامي وفي دوافعه على حد سواء. كان تيمورلنك يقتل لأنه يعشق القتل وينكل بضحاياه لأن عذابهم يثيره، فهو صاحب الأفاعيل التي لم يعرف لها التاريخ مثيلا، بدأ حياته لصا منفردا ثم زعيما للصوص وكان مهووسا بهولاكو وجنكيزخان، وقد تمكن بحزمه وحنكته أن يخضع سمرقند لسلطته، ولم تمنعه إعاقته من قيادة الجيوش وخوض غمار الحروب. كان تيمور قاسيا شرسا لا يرحم مقربيه بله أعداءه ومخالفيه، وكانت عقوبة أبسط خطإ عنده هي القتل. غزا الهند والعراق وإيران وحارب الإمبراطورية العثمانية وفكك أوصالها بعد اعتقال الملك العثماني بايزيد في معركة أنقرة الشهيرة، وأخضع بلادا شاسعة لسلطانه، وكان يطمح لغزو العالم بأسره لولا أن وافته المنية. ولنتعرف على حقيقة شغف هذا الملك بالحروب يكفي أن نشير إلى أنه لم يكف عن القتال حتى بعد أن بلغ سبعين عاما، وقد مات أثناء سيره إلى بلاد الصين ليضمها إلى إمبراطوريته. ومن عجائب ما ينقل عنه المؤرخون أنه كوّن جيشا جرارا بلغ عدد مقاتليه ثمانمائة ألف رجل كان يوفر لهم المؤونة ووسائل الراحة والنقل والعتاد وسائر ما يلزمهم في معاركهم. ومن مجازره الوحشية التي خلدها التاريخ مجازر خرسان حيث حاصر ذات مرة مدينة سبزوار فاستمات أهلها في الدفاع عنها فأمر أتباعه بنصب راية سوداء عليها، وكان هذا العرف عنده يعني أن يقتل سائر الأحياء في المدينة. فلما دخلها أعمل السيف في رقاب أهلها ولم يستثن طفلا ولا رضيعا ولا امرأة ولا شيخا مسنا ولا ضريرا حتى أنه طلب من جنوده أن يبقروا بطون القتلى وأن يخرجوا أحشاءهم. وقد استمر القتل في المدينة يوما كاملا أزهقت فيه تسعون ألف نفس. ولم يشف ذلك غليل تيمور فأمر من بقي من الأحياء أن يفصلوا رؤوس القتلى عن أجسادهم، وأمر المهندسين في جيشه أن يبنوا برجين من هذه الرؤوس وعلق على كل برج لوحة كتب عليها: بأمر تيمور قطعت هذه الرؤوس. فلما فرغ من أمر البرجين أمر بالأسرى، وكان عددهم يصل إلى ألفي أسير، فدفنوا أحياء. وذات مرة في إحدى معاركه حاول الناس ثنيه عن جرائمه فوضعوا الأطفال في طريقه ليرق قلبه فداسهم بخيله، وأمر جنوده أن يحضروا له سبعين ألف رأس من رؤوس ساكنة تلك المدينة فراحوا يقطعون الرؤوس إلى أن أفنوا الرجال أجمعين فراحوا يكملون العدد برؤوس النساء والأطفال لكيلا يثيروا غضبه . كان تيمور عديم الأخلاق، ففي مرات عديدة أجبر نساء الأسرى على خدمة ضيوفه أمام أزواجهن وهن عاريات إمعانا في إذلالهم جميعا. وكان يطلب من جنوده أن يغتصبوا نساء وبنات وأولاد الأسرى في واضحة النهار وأقاربهم ينظرون فيتمنون الموت ولا يدركونه. كان مرهوب الجانب لا يقف له شيء وقد عاث في الأرض فسادا، فلما دنا من شيراز خرج حاكمها شاه منصور لملاقاته، وهو ابن أخ الحاكم شاه شجاع ولا توجد تفاصيل كثيرة عن حياته سوى أنه ينتسب إلى أسرة حكمت عراق العجم ولها فضل كبير في كسوة الكعبة ووقف المال على الفقراء والعلم. غير أن ما نقلته المصادر التاريخية التي استقصت أنباء حملاته يغني عن كل تعريف، فقد كان مثالا نادرا في الشجاعة ورباطة الجأش، فبعد أن تخاذل عنه رجاله وحاول كبراء دولته ثنيه عن عزمه قرر شاه منصور تخليص الناس من جبروت تيمور ولم يلتفت لأحد، وأخبر قادة الجند أنه سيخرج لملاقاة عدوه بمفرده إن رفضوا السير معه. كان قوام الحملة التي جردها تيمور على شيراز مائة ألف جندي وليس مع شاه منصور غير ألفي مقاتل، انفصل نصفهم عنه وانضموا إلى جيش العدو عندما رأوا ضخامته. غير أن ذلك لم يثبط عزيمة القائد شاه منصور فقاتلهم يوما كاملا مستبسلا بمن معه من الرجال حتى أقبل الليل، ورجع كل فريق إلى معسكره فعمد منصور إلى فرس جفول وربط في ذيلها قدرا من نحاس وساقها إلى معسكر تيمور ورجاله نيام بعد هدأة الليل، وأطلقها وسطهم فوقع فيهم هرج عظيم واقتتلوا فيما بينهم ظنا منهم أن رجال منصور اخترقوا صفهم. فلما رأى منصور اضطرابهم هاجمهم برجاله فقتل منهم عشرة آلاف جندي وحاربهم الليل كله، وعندما أقبل الفجر خلص إلى خيمة تيمور ودخل عليه ففر منه واختفى بين حريمه وراح يبحث عنه وقد عقد العزم على قتله، فاحتالت إحدى جواريه حتى خبأته وضللت منصور وأرسلته إلى طائفة من التمرية (جنود تيمور) فتكاثروا عليه وقاتلهم قتالا شديدا حتى كلت يداه من الطعن والضرب، فأخذوه وقتلوه وقطعوا رأسه وحملوه إلى تيمور فسألهم عن قاتله فلما تعرف عليه قتله إكراما لمنصور وشجاعته. إذ لم يسبق أن نال منه أحد في معاركه ما نال منه هذا القائد العظيم. لم يرتدع تيمور عن إجرامه، فبعد أن أخضع الشام والأناضول اتجه بجيوشه نحو الصين فألم به مرض خبيث عجز الأطباء عن علاجه وكان يتقيأ دما ولا يجد دواء يسكن ألمه أو يخلصه مما هو فيه، إلى أن فاضت روحه في أوائل سنة 1405 م/ 807 ه. يوسف الحلوي