في الوقت الذي كان فيه كريم غلاب وزير التجهيز والنقل مشغولا مع نظرائه الفرنسيين بتوقيع عقد شراكة لتمويل مشروع قطار «التي. جي. في» الذي سيربط بين طنجة والدار البيضاء، مثرثرا حول الوقت الذي سيربحه المسافرون في هذه الرحلة بفضل هذه القطارات الفائقة السرعة، كان مئات الآلاف من المواطنين يقفون في صفوف بلا نهاية أمام محطات التزود بالوقود لملء خزانات سياراتهم بلا طائل. فصهاريج ثمانين بالمائة من محطات الوقود كانت فارغة بسبب إضراب شاحنات النقل. ويبدو أن مدام بورارة، التي تصنع المطر والطقس المشمس في وزارة النقل، كما يقول الفرنسيون، لم يصل إلى علمها بعد أن إضراب قطاع النقل قد أسقط قتيله الثالث إلى حدود أمس، دون أن نتحدث عن الجرحى والمعطوبين الذين تم تخييرهم بين الإضراب أوالضرب، فاختاروا الضرب. ولذلك أجابت سعادة المكلفة بالاتصال في ديوان وزير النقل مدير مكتب إحدى وكالات الأنباء الأجنبية عندما شاهد أمام محطات الوقود صفوفا طويلة وطلب منها على الهاتف موقف الوزارة مما يحدث في الشوارع، قائلة : -«علاش معيط عليا فالتلفون ديالي نهار الحد، وزايدون أنا معروضة لعيد الميلاد، اللي بغا شي حاجة يتاصل بالوزير»... بالنسبة للوزير فلا فائدة في طرح أي سؤال عليه، فقد اعترف بأنه لا يفهم لماذا تضرب نقابات قطاع النقل. وهذا أغبى جواب يمكن أن يقدمه وزير للحديث عن الإضراب. وإذا كانت لهذا الإضراب من مزية فهي أنه وضح لنا أخيرا لماذا تصلح غرفة المستشارين. فها هو رئيسها يشرح لكل من شكك في جدوى هذه الغرفة أن وجودها ضروري لامتصاص الصدمات التي تخترق جدران البرلمان. ومع أن رئيس مجلس المستشارين ليس له الحق دستوريا في توقيف مناقشة المدونة بدون الرجوع إلى بقية المستشارين، أو على الأقل إرجاعها إلى مجلس النواب مرفقة بالملاحظات التي يرى المستشارون ضرورة إدخالها عليها، فإن قراره جاء يوم الأحد وهو يوم عطلة، لنزع فتيل انفجار اجتماعي محتمل، لم تتسلل رائحة باروده إلى خياشيم الوزير ومستشارته بسبب انشغال الوزير بالرقص في مهرجانه بسباتة، وانشغال مستشارته بإطفاء شموع عيد الميلاد وتقطيع «الكعكة» وتوزيعها على الأصدقاء والمقربين. والحديث هنا عن «كعكة» عيد الميلاد طبعا. لنكن صرحاء، إن ما يقع منذ أسبوع في شوارع المملكة بسبب إضراب النقل، ليس بسبب المدونة وحدها. يجب أن يكون الإنسان غبيا لكي لا يشم رائحة حرب حكومية بين الاستقلاليين والاتحاديين تدور رحاها داخل مقر الحكومة، وبلسانيهما الناطقين باسميهما. هذه الحرب السياسية بين حلفاء داخل الحكومة، نؤدي ثمنها نحن المواطنين الذين نجد أنفسنا اليوم مجبرين على دفع المزيد من أجل اقتناء المواد الغذائية التي ارتفعت أثمانها في الأسواق بسبب هذا الإضراب. وليس خافيا على أحد أن النقابات التي تتحكم في الإضراب، جميعها تتحرك بأجندة سياسية تمليها عليها الأحزاب التي تحرك خيوطها من وراء الستار. فهناك النقابات الموالية للحكومة والنقابات المعارضة للحكومة، والنقابات التي تؤمن بقاعدة «الله ينصر من صبح». وعندما يتحول الإضراب من وسيلة لإخضاع الحكومة وإجبارها على الجلوس حول طاولة الحوار مع ممثلي العمال، إلى حرب شوارع مفتوحة يسقط فيها القتلى والجرحى يؤدي ثمنها المواطنون البسطاء، فإن المرء من حقه أن يطرح أسئلة حول الهدف الحقيقي من هذا التصعيد الاجتماعي الخطير الذي يهدد بنسف السلم الاجتماعي الهش. لسنا هنا في معرض الدفاع عن الحكومة، فالحكومة برهنت عن فشلها الكبير في إدارة هذا الملف، لكن من حقنا كمستعملي وسائل النقل وكمستهلكين وكعمال نؤدي الضرائب أن نتساءل لماذا علينا أن ندفع نحن ضريبة هذا الفشل الحكومي والنقابي؟ هل يعتقد النقابيون المضربون أن غلاب «يشد» الصف أمام محطات الوقود لكي يملأ خزان سيارته من أجل الذهاب إلى عمله؟ هل يعتقدون أن عباس الفاسي ينزل إلى السوق ويشتري الخضر لكي «ينصب» غداءه اليومي؟ هؤلاء يعيشون في أبراج عاجية بعيدة بملايين السنوات الضوئية عن الواقع اليومي للمغاربة. ولذلك فإننا لا نستغرب لماذا لا يفهم غلاب إلى الآن السبب الذي من أجله يضرب مستخدمو النقل. فهناك وزراء في حكومة عباس يشبهون مدعوي سفينة «التيطانيك» الذين كانوا يرقصون ويشربون في صحة بعضهم البعض، بينما السفينة تنزل ببطء نحو القعر. ولعل أول درس يجب أن يستخلصه من يهمهم الأمر من خلال هذه الأزمة، هو ضرورة التعجيل بإجراء تعديل حكومي في أقرب الآجال. فلا معنى لاستمرار حكومة يتبادل يمينها ويسارها الضربات تحت الحزام بواسطة جرائدهم ونقاباتهم في الشارع العام. عندما تصل الخلافات السياسية بين الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال وبقية الحلفاء حدا من الجفاء يجعلهم يختارون الشارع لتصفية حساباتهم، فإن الحكمة والمصلحة العامة والمسؤولية التاريخية تقتضي أن يتدخل من بيدهم الأمر لإنهاء هذه الملهاة الحكومية حتى لا تتحول إلى مأساة. وبالإضافة إلى عدم الانسجام بين الأحزاب التي تشكل الطيف الحكومي، هناك أكثر من سبب يدعو إلى إجراء تعديل حكومي عاجل. فهناك وزارة للثقافة فارغة من وزيرتها منذ شهر بسبب مرضها، ولا أحد يعرف متى ستعود الوزيرة إلى مزاولة مهامها الحكومية. وهناك وزارة للشبيبة والرياضة تقضي وزيرتها بسبب التزاماتها مع اللجنة الأولمبية الدولية في الخارج أكثر مما تقضيه في الداخل. وهناك حوالي خمسة عشر وزيرا في الحكومة لا أحد يسمع بهم ولا يراهم ولا يعرف ماذا يصنعون ولا يتذكر حتى أسماء وزاراتهم، يكلفون ميزانية الدولة ملايير الدراهم. في إسبانيا اضطر رئيس الحكومة قبل أسبوع بسبب الأزمة الاقتصادية إلى إجراء تعديل حكومي، وتخلى عن الوزراء الذين لم يستطيعوا مواكبة الإيقاع الحكومي السريع. وكانت أول هدية يتوصلون بها من رئيس حكومتهم هي منعهم من الاستمتاع بعطلة «الأسبوع المقدس» مثل بقية المواطنين، لأن الظرف الاقتصادي والسياسي الذي تجتازه إسبانيا لا يسمح بالعطل. عندنا يوشك قلب المغرب النابض أن يتوقف، ويتحول إضراب للنقل إلى حرب شوارع مفتوحة بين المضربين والذين يفضلون العمل على المشاركة في الإضراب، ومع ذلك ليس هناك أي تفكير في تعديل هذه الحكومة العاجزة وتقليص عدد وزرائها إلى النصف والاستغناء عن الوزراء الذين لا يفهمون لماذا يضرب المستخدمون عن العمل. هكذا يتفرغون أحسن لرقصهم في أزقة المقاطعات التي يسيرونها. من حسنات هذا الإضراب أنه كشف لمن كان بحاجة إلى توضيح، أن التعايش بين الاتحاد والاستقلال داخل سقف حكومي واحد أصبح مستحيلا. ومن يريد أن يفهم جيدا زواج المصلحة هذا، ما عليه سوى أن يأخذ جريدتي الحزبين ويقرأ تغطية كل واحدة منهما للإضراب. فلسان حزب الاستقلال لا يتعب من ترديد أسطوانة الحركة «شبه العادية في الشوارع»، فيما لسان الاتحاد الاشتراكي استعاد طوله القديم وأصبح يتحدث حول لهيب الأسعار في الأسواق وجفاف محطات الوقود وضياع ملايين الدراهم من عائدات الميناء بسبب الإضراب. مع أن الحزبين شريكان في حكومة واحدة ويتحملان مسؤولية مشتركة في الإضراب ونتائجه. المغاربة محتاجون اليوم إلى حكومة منسجمة تتحمل مسؤوليتها كاملة ولا تعلق فشلها على مشاجب الآخرين. أما هذا اللعب على الحبال وتصدير الأزمة من دواوين الوزارات إلى الشوارع والأزقة، فلا يخدم في شيء مستقبل السلم الاجتماعي في المغرب. قد تصلح مثل هذه الملهاة السياسية لتسخين طبول الانتخابات المقبلة، لكنها قد تتحول فجأة إلى مأساة إذا ما ترهلت خيوط اللعبة في أيدي من يمسكون بها من وراء الستار.