سعيد أكدال إن ما لم يسمح بإبراز المساهمات المورية الأمازيغية في تمدين المغرب القديم هو أن كل الأدلة الأركيولوجية والإثباتات التي تبرهن على أن للسكان المحليين محاولات شخصية في تحضر البلاد، قد تم التعامل معها باستخفاف كبير وتم تأويلها تأويلا غير موضوعي من طرف الباحثين الغربيين، وذلك قصد ترسيخ مسألة التبعية التاريخية، وكأن وجود المغرب مقرون بالوصاية الأجنبية على مصيره. وخير شاهد على ملاحظتنا هذه هو أن أحد الباحثين الغربيين ( ميشال بونسيش) حينما تحدث عن الأقواس (موقع أثري يوجد على بعد 25 كلم من طنجة وحوالي 28 كلم جنوب رأس سبارطيل عند الضفة الشمالية لمصب واد غريفة) قال إن السكان المحليين جعلوا من هذا الموقع ميناء كبيرا ومهما وبينا، اعتمادا على نتائج الحفريات الأثرية» بأن السكان المحليين اختاروا موقع الأقواس لإقامة صناعاتهم، لأنه كان يوجد في قلب منطقة صناعية غنية، قرب مصب نهر مضياف صالح للملاحة وعلى طول طريق استعملت منذ أمد بعيد، وقد جعلوا منه مرفأ وسوقا كبيرة. فالأقواس كانت منذ القرن الخامس ق. م مركزا صناعيا وسوقا كبرى، وقد بنيت دون شك من الأتربة واحتوت على خيام وأكواخ وتعرضت منشآتها المينائية للاندثار في البحر على إثر انهيار الجرف» (PONSICH.M , 1967 , pp 384-385). هذه الاستنتاجات التي انتهى إليها ميشال بونسيش تشهد على أن ظاهرة التمدين بالمغرب متجذرة في التاريخ وأن السكان المحليين هم الذين اختاروا موقع الأقواس ووضعوا النواة الأولى لمرفإ على الساحل. ولكن بالمقابل، أدركنا أن بونسيش قلل من قيمة هذا الإنجاز بقوله إنه كان يتمثل فقط في منشآت من التراب وخيام وأكواخ. وهذا يدل دلالة واضحة على الاستخفاف بمساهمة السكان الموريين في تمدين المغرب. وبغض النظر عن هذا الاستخفاف والتقزيم للمحاولات المحلية في وضع اللبنات الأولى للظاهرة الحضرية بمغرب ما قبل الإسلام، فإننا لن نتردد في التأكيد على أن السكان الأمازيغ لم يكونوا فقط شعبا تابعا لا دور له، وإنما كانت لهم محاولات في تشكيل أنوية لمدن ومراكز حضرية عبر مختلف أصقاع البلاد. وإن هذا التأكيد ليس من قبيل التعصب والانتماء العرقي، ولكنه وجهة نظر لها تبريراتها ومرتكزاتها. إن المدن التي ذكرتها النصوص التاريخية القديمة وأظهرت الأبحاث الأثرية بأنها مدن رومانية، قد تكون هي نفسها من منجزات الأمازيغ خلال حقبة تاريخية سابقة للاحتلال الروماني، كما هو الشأن بالنسبة لمدينة وليلي التي حاول الباحثون الغربيون أن يصنفوها ضمن المآثر الرومانية. فهذه المدينة كانت قبل يوبا الثاني وقبل الاحتلال الروماني مركزا بسيطا وصغيرا تجاهله المؤرخون القدامى، والذين وصلتنا أعمالهم كاملة أو ناقصة، قبل العقد الرابع من القرن الأول ق. م، وذلك عكس طنجي ولكسوس( عبد العزيز أكرير، م.س، ص 129). وينطبق الأمر نفسه على مدينة تاونات التي تعتبر مدينة أمازيغية منذ 4000 سنة وليست من منجزات الرومان ( عبد الحميد العوني ، 1998، ص 6). لقد ازدهرت العديد من المدن خلال فترة الحكم الموري ومال كثير من الباحثين المحدثين إلى اعتبار بعضها عواصم ملكية، ومن بين هذه المدن نجد لكسوس وطنجي ووليلي، وجيلدا. ويرى عبد العزيز اكرير بأن مدينة جيلدا (Gilda) هي ذات أصل أمازيغي معتمدا في ذلك على ما ذهب إليه الإسكندر بولستور حوالي 70 ق.م، والذي قال إن « جيلدا مدينة ليبية واسم الشعب جيلديت (Gildites)، وكذلك ما أخبرنا به بومبونيوس ميلا الذي تكلم عن هذه المدينة واعتبرها مدينة داخلية غنية (عبد العزيز أكرير، م.س، ص 130). كما برزت مدن أخرى خلال فترة الممالك المورية لتفرض وجودها كيوليا بابا كمبستريس وفالنتيابناسا) وزيليل. وقد كانت هذه المراكز الحضرية موجودة قبل الاحتلال الروماني. فبناسا مثلا كانت مركزا من بين المراكز التي كانت مأهولة بالسكان منذ القرن 4 ق.م واحتمالا قبله (عبد العزيز أكرير ، م.س، ص 98). ونحن نبحث في أصل المدينة المغربية وبداياتها الأولى، ارتأينا من باب الموضوعية في القول والتحليل طرح جميع الفرضيات ومناقشة جميع الأطروحات. ويبقى الحكم القطعي مرتبطا بمدى تقدم البحث الأثري، لأنه هو الوحيد القادر على وضع حد لكل غموض وإيجاد جواب لكل تساؤل. فالحفريات الأثرية المرتبطة بالظاهرة الحضرية خلال حقبة ما قبل الإسلام مازالت ضئيلة والنتائج المتوفرة لحد الآن غير كافية. كما أنه من المؤسف له أن مهمة التحقيب والتأريخ للمآثر لا تتوفر على عوامل مساعدة لها، وخاصة منها قضية تصنيف الخزف المحلي الذي لم يصنف تصنيفا كرونولوجيا (زمنيا) حتى يصبح عنصرا مساعدا في التأريخ للمستويات الاُثرية والطبقات الاستغرافية، ومنها مستويات التأسيس والنشأة (محمد العميم ، م. س ، ص 63)، خصوصا قبل حقبة الحكم الروماني، لأن المعطيات والمعلومات قد أصبحت أكثر وفرة ودقة بعد احتلال الرومان للمغرب، مما ساعد علماء الآثار والمؤرخين على تحديد العديد من المواقع والمدن القديمة. التمدين الروماني بمغرب ما قبل الإسلام إن النصوص التاريخية التي ساعدت المؤرخين والباحثين على معرفة البدايات الأولى للمدينة المغربية لم تكن مع الأسف كافية لاكتمال الصورة حول حركة التمدين بالمغرب القديم. فقد كانت المعلومات والمعطيات مبهمة وغالبا ما تختلط فيها الأسطورة بالحقيقة. وكان علينا أن ننتظر القرون الميلادية الأولى لنحصل على وثائق تاريخية أكثر دقة تزودنا بإشارات ومعلومات مهمة عن السكان والمدن الموجودة بعيدا عن الساحل داخل موريتانيا الطنجية وأخبرتنا بالعديد من المدن والمراكز التي لم يسبق أن ورد ذكرها بالنصوص التاريخية السابقة، مما يوهم القارئ ويجعله يعتقد أن الرومان كان لهم فضل كبير في تمدين مغرب ما قبل الإسلام وانتقلوا به من وضعية البداوة إلى وضعية التحضر.