معادي أسعد صوالحة « إن صنع السلام أصعب من خوض الحرب، لأن صنعه والمحافظة عليه يتطلبان الشجاعة ويفترضان أحيانا مقاربات جديدة وصعبة، والتمتع بشخصية مدنية مُحببة ورأسمال ضخم من الإرادة والطموح والعمل والمثابرة والعزيمة للوصول إلى الهدف «، بهذه الكلمات بدأت الكاتبة البريطانية انجليكا روتر تصف حياة نساء دافعن عن حقوق الإنسان بشجاعة ومثابرة، ناضلن في سبيل الحقيقة والعدالة والأمل والإصلاح والحرية والسلام حتى كوفئن أخيرا بجائزتها العالمية التي أوصى بها ألفريد نوبل قبل وفاته تكفيراً عن شعوره بالذنب لاختراعه الديناميت القاتل...، إنهن نساء دافعْن عن القضية الإنسانية وحملن لأجلها راية الحرّية والديمقراطية والحفاظ على كرامة الإنسان.... إنهن نساء السلم والسلام». كانت ايميلي بالتش قد اعتنقت التفكير الرافض للحرب منذ طفولتها ومعاصرتها للحرب الأمريكية الإسبانية بعد أن شحذت بمواعظ تشارلز دويل ودعواته المؤيدة لخدمة المجتمع لحظات زيارتها لكنيسة جامايكا الموحدة، وعندما اندلعت شرارة الحرب العالمية الأولى كانت ايميلي قد وجدت الفرصة مناسبة للتحرّك سريعا في الخيار المناهض لها، ومن خلال اشتراكها في الاتحاد الأمريكي ضد التسلح قرّرت الكفاح من أجل السلام على المستوى البنيوي، وفي هذا تقول «... كانت شرارة الحرب العالمية الأولى اعتراض مأساوي لأهمية أوقاتنا الجوهرية حيث تحقيق النظام العادل الأكثر إرضاء للجميع، وها هي الحرب قد جاءت إلينا بمبرّرات وأهداف لم تكن ملائمة لطريقة التقدّم البشري، حينها قرّرت الكفاح من أجل السلام والتزمت به على المستوى الشخصي، فقد أضحينا نعيش في عالم متفجر ولا يستطيع أحد توقّع المستقبل رغم أننا جميعا نساعد على إنشائه بطريقة مُتعمدة أحيانا أو غير مُتعمدة، كنت مقتنعة تماما بأن طريق الحرب ليست طريق العالم المسيحي، فإلغاؤها من نظامنا يعني ثورة رهيبة، وبت على قناعة بأنه يمكن إصلاح الحرب من خلال استئصالها أو استبدالها بطرائق أكثر فاعلية تصمّم عبرها البشرية سلامها الخاص..». كانت الحاجة لدى ايميلي بالتش قد جعلتها تُبرز قدراتها على استخلاص وصياغة السياقات المعقدة في كلمات مفهومة بوضوح للجميع، وعندما التقت بجين آدامز التي شاركت معها في مؤتمر السلام للنساء عام 1915 بهولندا أصبح هدفها أشد إصرارا وعزيمة بعد أن بدأت ترفض جميع أشكال العنف والقوة والإكراه، وتدعو إلى حلّ المشاكل، بعيدا عن منطق الصراع والقوة، «...يجب حلّ المشاكل الاجتماعية والسياسية والدولية بجهود ذكية وصبورة، بحيث تكون في الإجمال أفضل حلّ لكل الفرقاء المعنيين..»، وانطلقت للغاية نفسها تدعو إلى تسريع مهمة السلام واتصلت رفقة جين آدامز بالرئيس وودرو ويلسون حتى يتراجع عن قرار إشراك الولاياتالمتحدةالأمريكية في الحرب، وعلقت على ذلك بالقول «... شعرت بإعجاب كبير حياله كشخص، لكن أملي خاب كثيرا لأنه رفض اقتراحاتنا، لقد أصغى إلينا باهتمام لكنه صمّ أذنيه عن كل ما جئنا به وتمنيناه لتطوير خطة جديدة لوقف الحرب، لكننا فشلنا في النهاية بعد أن أيقنا بأن الرئيس لم يكن مُحايدا بقدر ما كان مُنخرطا تماما في سياسات القوة للحلفاء، وبت حينها أعيش أسوأ رفض شعبي بسبب توجهاتي المناهضة للحرب، لكنني لم أتردد في إرسال بياناتي المُندّدة بالحرب إلى كل مسئول أستطيع الوصول إليه، أصدرت العديد من المقالات والبيانات الصحفية التي كان أهمها البيان المتعلق بالتعويضات (المطالبة بتعويضات الحرب وهي عائق جدي أمام السلام)، ذلك السلام الذي بات غائبا حتى أنني لم أجده لنفسي بعد رفض الجامعة تجديد عقدي عام 1917 ووجدت نفسي سريعا في الشارع عام 1919 وأنا في الثانية والخمسين دون أي مصدر للأموال، وأتذكر جيدا ما كتبته حينها لرئيس الجامعة (لا أفهم كيف يمكن أن تتفق الحرب مع تعاليم السيد المسيح)، حينها وجدت نفسي مُجبرة للرحيل إلى جنيف التي أنشأت فيها مكتبا دائما لرابطة النساء الدولية للسلام والحرّية في ظلّ ملابسات افتتاح عصبة الأمم المُتحدة لمكاتبها هناك، التي سرعان ما بدأت تناضل لأجل مصالحها وأغراضها الخاصة فقط،، بعيدا عن أهدافها في تحقيق السلم والسلام الدوليين...». «..أينما أكون في هذا الكوكب أشعر بأنني في منزلي، أستطيع العيش ممّا تقدمه لي الكتب والطبيعة والدين»، هكذا بدأت ايميلي بالتش تقول بعد أن وجدت الدعم الروحي والمعنوي في جذورها الدينية، حيث مذهب المهتزين الذي يطابق فلسفتها وتحديدا لجهة الوحدة في كل المسائل الأساسية والتمتع بالحرية في المسائل غير الأساسية وامتلاك الحب المساعد كمبدأ أساسي، وتضيف بالقول «... لم ترق لي فقط شهاداتهم ضد الحرب وعقيدتهم وانفتاحهم على الإصلاحات الاجتماعية الكبيرة، وإنما أيضا القوة الدينامكية لحبهم الناشط الذي تعبر من خلاله ديانتهم عن نفسها بطرائق عدة قبل الحرب وبعدها، إنه مذهب عميق من العبادة يتيح تواصلا رائعا بين الكائنات البشرية ومصدرا مفيد لقوتها، حيث القدرة على التحدّث إلى الآخرين والتأمل في حال الصعوبات والبحث عن الحلول المناسبة لها، وهي أمور شكلّت لي خدمة رائعة في عملي اللاحق بعد أن وجدت منزلي الروحي...». «...لقد بدأ العمل من أجل السلام يستنفذ المزيد والمزيد من وقتي وحياتي حتى قرّرت التخلي قليلا لأسباب صحية عن عملي المدفوع كأمينة عامة لرابطة النساء الدولية للسلام والحرّية، دون أن أبتعد كثيرا نظير خدمتي لهذه المنظمة من خلال المداومة على حضور العديد من المؤتمرات الدولية والقيام بالأعمال التطوعية المتعلقة بآفة المخدرات وتدويل الطيران ونزع السلاح، ولعبت دورا كبيرا في إقناع الرئيس الأمريكي هوفر عام 1930 (بعد زيارتي لهاييتي) بانسحاب الأمريكيين من هناك عام 1934 بعد أن تطابقت توصياتي مع توصيات اللجنة الرسمية التي شكلها هوفر لحلّ المشكلة، كما أيدت حظر تصدير الأسلحة إلى اليابان، وأمضيت أكتب حتى اندلعت الحرب العالمية الثانية التي سببّت لي الكثير من تأنيب الضمير، لقد تزعزع موقفي الصارم المناهض للحرب( للمرة الأولى) نظير أخبار الانتهاكات القوية لحقوق الإنسان التي بدأ يرتكبها الفاشيون، حينها وجدت نفسي ممزقة وانطلقت بالقول: .. لا يكفي النحيب أمام باب المنزل الشخصي أو أمام الحديقة الشخصية أو إطفاء اللهب حين يكون منزلك مُلتهبا أوحين يستعر إطار باب الجيران ويبكي الأولاد طلبا للمساعدة عبر النوافذ....». رغم كل ما واجهته ايميل من صعوبات وانتقادات وأهازيج العداء إلا أنها بقيت ملتزمة برسالة السلام، ترفض على الدوام كل أشكال القوة والعنف التي لم تفلح معها في وقف آلة القتل، حيث الحرب العالمية الأولى والثانية، ولم تنجح في إقناع الرؤساء الأمريكيين بعدم دخول الولاياتالمتحدةالأمريكية الحرب مع الحلفاء، لكنها نجحت في تحقيق الكثير والكثير، واستطاعت أن تلاحظ وتعلق وتحاول التأثير على نشاطات ستة عشر رئيسا أمريكيا عاصرتهم خلال حياتها، (.......لست أميرة وإنما مجرد واحدة من العوانس والأساتذة السابقين في نيو انجلند، لكن حصل أن عملت خلال فترة وجيزة من حياتي مع رجال كانوا في السلطة..) التي انتهت متأثرة بالمرض حيث الشيخوخة وداء الربو الذي فارقت على إثره الحياة في التاسع من كانون الثاني/يناير 1961 دون أن يتلقى الرئيس الجديد للبيت الأبيض جون كنيدي لأي بريد منها كما جرت العادة مع كل رئيس جديد، لكنها تركت الحياة بعد نيلها جائزة نوبل للسلام التي علقت عليها بالقول عام 1946 «... الطريق إلى السلام لا يكمن في حكومة عالمية، بقدر ما تحتاج إلى تعاون أكبر وإكراه أقل، فالمسألة الأصعب أمامنا ليست مسألة تخطي الزمان والمكان إنما تخطي أنفسنا، غباءنا وتراخينا، خوفنا، وآراءنا المتعصبة، لا يطلب أحد منا الاستسلام للخيال أو الاعتقاد بعالم مثالي موجود بالقرب منا، بقدر ما يطلب منا بدلا من ذلك التحلّي بالصبر مع التقدّم البطيء والمُتعثر والاستعداد للخطوة المُمكنة، يطلب منا تسليح أنفسنا بالشجاعة والأمل والاستعداد للعمل الشاق والتشبث بالمثل العليا الرائعة والنبيلة بدل القوة والغطرسة والهمجية والسلاح...، يجب علينا التحلّي بروح الإخاء والمحبة لنحقق السلام المنشود حتى نعيش بأمن وطمأنينة وتنعم كافة الشعوب بالسلام ...، فحين يتطوْر المجتمع الدولي بالسلام سيفتح معه احتياطات هائلة في الطبيعة البشرية، تماما مثل النابض المطلق من ضغط، هكذا ستكون استجابة جيل الشباب والنساء الناشئين في بيئة ودودة وآمنة، في عالم محتاج إلى خدمتهم ويقدم لهم الرفقة ويدعو إلى كل المغامرات والطموحات...، إنه السلام الذي يجب معه أن نتخطى حاجز الخوف وألا تنتهك معه أي خصوصية للضمير الحي، فعلى كل شاب أن لا يواجه مُجدّدا ضرورة الاختيار بين انتهاك الضمير عبر التعاون في مذبحة جماعية تنافسية أو فصل نفسه عن أولئك الذين يسعون إلى خدمة الحرّية والديمقراطية والبشرية، بقدر ما يجب عليه البحث والعثور عل طريقة أفضل لتجنيد نفسه في خدمة القضايا الاجتماعية وزرع الأمل على وجوه الآخرين، حيث المحبة والعاطفة التي توصلنا سريعا إلى برّ السلام المنشود ...».