« إن صنع السلام أصعب من خوض الحرب، لأن صنعه والمحافظة عليه يتطلبان الشجاعة ويفترضان أحيانا مقاربات جديدة وصعبة، والتمتع بشخصية مدنية مُحببة ورأسمال ضخم من الإرادة والطموح والعمل والمثابرة والعزيمة للوصول إلى الهدف «، بهذه الكلمات بدأت الكاتبة البريطانية انجليكا روتر تصف حياة نساء دافعن عن حقوق الإنسان بشجاعة ومثابرة، ناضلن في سبيل الحقيقة والعدالة والأمل والإصلاح والحرية والسلام حتى كوفئن أخيرا بجائزتها العالمية التي أوصى بها ألفريد نوبل قبل وفاته تكفيراً عن شعوره بالذنب لاختراعه الديناميت القاتل...، إنهن نساء دافعْن عن القضية الإنسانية وحملن لأجلها راية الحرّية والديمقراطية والحفاظ على كرامة الإنسان.... إنهن نساء السلم والسلام». «...كنت أتوق إلى تقديم شرح يُرضي أصحاب الاعتقاد الاجتماعي الراسخ فيُعطي تفسيرا للاضطراب الاجتماعي، ويبيّن طريقة منطقية لبلوغ نظام اجتماعي أفضل، لقد شعرت بمسؤوليتي وبشكل مُفرط عن الفقر المحيط بي، فقد جعلني الاشتراكيون أشعر بهذه المسؤولية مرارا وتكرارا...»، هكذا عبّرت جين آدامز لحظات تأسيسها لجمعية (هاول هاوس) الاجتماعية بشيكاغو وأمام سبعمائة من موظفيها ألقوا على عاتقهم المساعدة والعناية بالأشخاص الذين لا يتمتعون بمزايا المجتمع الأساسية نظير انتشار الفقر والجوع والحاجة. في العام 1867 كانت هناك فتاة في سدرافيل (بلدة صغيرة بولاية ايلينوي الأمريكية) أكثر ما تتمناه هو أن يكون لها إبهام طحّان، كانت تجلس وحيدة لساعات ولفترات طويلة من الزمن وتفرك بإبهامها وسبّابتها الحبوب المُتساقطة على الأرض من حجرْي الرْحى، إذ تقول في مذكراتها التي نشرت في سنّ الخمسين «...كنت أشعر بأنه لم يكن لدي أبداً رغبة أكبر من أن يُصبح إبهامي الأيمن عريضا كإبهام والدي بسبب عمله في المطحنة، وكانت هذه الرغبة وفقا للتقليد ضريبة صادقة أدّيْتها عن تعلّقي بما أحبْ، آمل إيجاد تعبير أكثر ملائمة لهذا الأمر في وقت لاحق، لكنه لن يكون تعبيراً أعمق ممّا يختلج في صدري الآن من مشاعر، فربما أكون قد أسهمت بهذه الطريقة بقسطي من الإعجاب الذي كنّه جيلنا بطيب خاطر للأشخاص الذين دانوا بكل شيء لجهودهم الخاصة». كان جون آدامز عضوا بارزا في مجلس الشيوخ عن ولاية ايلينوي لثماني دورات متتالية وصديقا مُقرّباً لأبراهام لينكولن الرئيس السادس عشر للولايات المتحدةالأمريكية، الذي شغل المنصب بين عامي 1861/1865، والصديق المقرّب والشخص الأكثر أهمية الذي ترجع إليه ابنته الصغيرة جين بعد وفاة والدتها سارة، فمال إلى تربيتها وفقا لإيمان الأمريكيين المُنتمين إلى مذهب المُهتزين، يكافئها بنكلة واحدة عن كل عمل بطولي لبلوتارش تستطيع أن ترويه له، وتحصل على ربع دولار لقاء كل كتاب تقرأه من مجموعة حياة واشنطن لإرفين، فقد كان جون الوالد بمثابة الشمس في حياة الفتاة الصغيرة حتى أضحى الوحيد الذي يستطيع اختراق الكآبة فترتاح جين لحضوره الشفاف وتنعم بالدفء كلما تلقفها سريعا بين أحضانه، لقد كانت باختصار تصبّ كل إعجابها على هذا الرجل الذي يدعوه صديقه أبراهام لينكولن بتودّد كبير(عزيزي آدامز)، وفي هذا تقول «.. لم أكن أشعر بمودة كبيرة حيال والدي فحسب، بل لقد عرفني على المتطلبات الأخلاقية للحياة، فأمّن لي بهذه الطريقة ما يمكنني الاستناد إليه لمواجهة أوضاع مُعقدة في مرحلة لاحقة من الحياة، كان يشجّعني على التعليم ويجري حواراته معي حول الفلسفة العملية للصدق الباطني السامي، فتمسّكت بهذه التوجيهات طيلة حياتي..». امتازت حياة جين منذ البدء بحالة من المدّ والجزرّ نظير حالات اليأس العارم والكآبة طويلة الأمد في حياتها المنفردة التي بدأت تعيشها دون عائلة ودون أصدقاء مُقربين بعد وفاة والدها عام 1881 دون أن تبلغ بعد الحادية والعشرين، وبعد انفصالها وتخلّيها عن زواج طالما خططت له وحلمت به، تشغل نفسها بإيجاد المسكن الروحي والثقافي والاجتماعي للمهاجرين إلى أرض الصناعة بعد أن آمنت بكون العيش يستحيل دون كرامة إنسانية، ونظمت لأجله الحركات الاجتماعية التي تعنى بمؤسسات الإنعاش وتقديم الإعانات للمحتاجين، كرّمت في بادئ الأمر لكن سرعان ما كُرهْت ولوْحقت لسنوات بسبب نشاطاتها المؤيدة للسلام التي حصلت على جائزتها عام 1931 ( بعد ثمانية ترشيحات مخفقة كان من بينها ترشيح الرئيس ودورد ويلسون لها لنيل الجائزة) اعترافا بشعارها في الحياة: لفت الانتباه إلى الإنسانية دون أن تُحول إعاقتها الجسدية التي بدأت تعاني منها منذ الصغر إتمامها لمهمتها الإنسانية التي بدأتها بمحاربة الفقر ومساعدة الفقراء والمحتاجين، وتأمين المأوى للمهاجرين، كانت حريصة على كل شي بما في ذلك حرصها الشديد على عدم لفت انتباه الناس بأنها ابنة ذلك السيد المرموق في المجتمع آدامز، وفي هذا تقول «..كنت أصلي بحرارة كي لا يتم إخبار الزائر بأن تلك الفتاة القبيحة ذات المشية المتثاقلة والرأس المائل بسبب عمودها الفقري المعْوَج هي ابنة هذا السيد ذا المكانة المرموقة في المجتمع، وحتى أتجنب المخاطرة بحمل الناس على التفكير بوجود صلة بيني وبين والدي كنت لا أسير بجانبه أيام الآحاد التي تشكل حدث الأسبوع بالنسبة لي، بل ألتصق بعمي جيمس آدامز...». «.. كنت حريصة على عدم التنقل كثيرا في طفولتي نتيجة التزامي بالراحة حسب نصائح الطبيب المعالج، كنت ألتزم البيت طيلة النهار أقرا الكثير من مؤلفات الطب الذي طالما تمنيت دراسته ولم أنجح في مهمتي التي اتجهت بها إلى القيام بنشاطات ذات مغزى وبت أقول حينها....سيكون على كل شخص النضال بطريقته الخاصة للقيام بواجب أخلاقي وإلا بقي من دون تطبيق وفقد أهميته، كنت منزعجة من نفسي ومن السؤال الذي بدأ يساورني على الدوام: ما هو المُقدر لي ؟؟، فقد كانت سلامتي وحقي في الاستقلال اللذين حظيت بهما لمدة طويلة من الزمن قد تعرضا للاهتزاز بسبب العديد من الإخفاقات المخزية، فأثناء رحلتي الأولى إلى أوربا الغربية لم أجد حوابا مقنعا لتساؤلي، ولم أجد لنفسي أي عزاء بقدر ما كان انطباعي السيئ أكثر سوءاً، لكن سرعان ما وجدت الإجابات بعد عامين من قنوطي وإدراكي المفاجئ لما أعاني منه من بؤس وتحوْل سريعا إلى سأم من الحياة، لقد كان مُقدرا لي أن أخدم الإنسانية وأحارب الفقر والجوع الذي أخذ يتفشّى في كل مدن أوربا وأحيائها الفقيرة، وافتتحت لهذه الغاية مؤسسة هال هاوس خريف العام 1889 بعد أن استغرق الأمر ثماني سنوات، فرغم موقفي الذي كان مُبهما من كل الأهداف الأخلاقية، إلا أنني كنت أتمسك فقط بالرغبة في العيش في عالم زاخر بالحياة حقا، وألا اكتفي بفكرة مُملة نظرية أو جمالية..». كانت جين قد صادفت فقرا مدقعا في سن مُبكرة وهو سبب كاف لتوجه العمق الاجتماعي لها نحو مشاكل الهجرة والفقر التي يعاني منها الكثيرون ولامستها مباشرة نتيجة سفرها المُتكرّر إلى أوربا العام 1883 (حسب وصية الطبيب المعالج لها)، حتى وصلت إلى عاصمة الضباب لندن التي رأت فيها من الفقر ما يكفي بعد أن اصطحبها مُبشر ديني رفقة مجموعة من المسافرين إلى شرق المدينة لمشاهدة عملية بيع الفاكهة والخضار إذ تقول « كانت مشاهد الفقر المدقع قد بدأت تملأ أركان ونواحي لندن، وكان مما لازم فكري ليس منظر ذلك الرجل المُسن الذي وقعت يداه على قطعة من الخضار النيئة وبدأ يلتهمها بنهم شديد، بقدر ما كان ذلك العدد الكبير من الأيدي الفارغة والضعيفة التي تبحث عن طعام غير صالح للاستهلاك في الأماكن المُتسخة، حينها أدركت أن لا شيء في العالم أكثر تعبيرا من يد الإنسان وهي أقدم الأدوات التي استخدمها البشر لشق الطريق إ، ويستمر البشر في العمل بلا كلل بواسطتها، ومنذ ذلك اليوم لم أتمكن من رؤية أيدي مرفوعة سواء أكانت أيدي فتيات تمارسن الألعاب الرياضية من خلال القيام بحركات إيقاعية، أو أيدي مجموعة من الأطفال الراغبين بحماسة في الإجابة عن سؤال طرحته مدرستهم، فقد كانت تلك الصورة قد جعلت قلبي ينقبض ألما، حينها فقط اكتشفت كل شيء وباتت رسالتي الأولى والأخيرة هي محاربة الفقر الذي جُلتُ من أجله أصقاع مدن أوربا، حيث إيطاليا وفرنسا واستراليا وألمانيا، قبل أن أعود إلى مواصلة رحلتي في روما عام 1887 (بعد قضاء وقت قليل مع عائلتي) حتى وصلت إلى مدريد في العام الموالي واستأجرت منزلا صغيرا فيها، وبدأت أداوم على مشاهدة مصارعة الثيران التي أحسست من خلالها بأنني أرحت ضميري بسبب كوني حالمة، وأنني حققت ما كنت قد طوْرته وكتبته على الورق رغم أن ذلك لم يشكل لي سوى عذرا لعدم قدرتي المستمرة على التحرّك، شعرت حينها بأن الإنسان يحصل على العزاء من مخطط يتم إرجاء تنفيذه باطّراد، آملا من خلال الادعاء بأنني كنت أقوم بكل هذه الأمور استعدادا لمستقبل زاخر، كانت مُجرد وخزات معنوية ناجمة عن مصارعة الثيران كفيلة لأدرك بأنني ابتعدت كثيرا عن اقتفاء آثار مركبة نارية من الحب الوْدّي، لكن استئجاري للمنزل الصغير ووسط الأحياء الإسبانية الفقيرة ساعد على تفتح بصيرتي لاتخاذ أهدافي المستقبلية للحياة». إعداد وترجمة معادي أسعد صوالحة