الفقرة الثالثة كان مسقط رأسي حيا ليس كباقي الأحياء، وتاريخ ولادتي سنة ليس كباقي السنوات، كان الحي حي شعبي مغمور يدعى دوار المعاضيد بمدينة الرباط، هاجر أغلب سكانه إليه من البادية في بداية القرن المنصرم بحثا عن حياة أفضل، أغلبهم دافعوا عن المغرب وسلاطينه في عهد الاستعمار و استمروا في وطنيتهم حتى في عهد الاستقلال، تعاقبت الحكومات بمرجعيات مختلفة لم تجني منها الساكنة إلا العزلة والضياع و التيه، فضيعوا عالمهم القروي الملائكي فاصطدموا بقسوة المدينة و بعمرانها و بطشها. أما ولادتي فكانت في الرابع من مارس من 1965، عرف المغرب خلال هذه السنة مجموعة من الأحداث أهمها مظاهرات الدارالبيضاء، كان ذلك في 23 مارس 1965 ، بعد صدور مذكرة دورية لوزارة التربية الوطنية توجه التلاميذ المتقدمين في السن إلى تعليم تقني غير موجود، خرج حينها تلاميذ الثانوي و أولياؤهم إلى الشارع للتظاهر و الاعتصام، كان حينها أفقير وزير الداخلية منذ غشت 1964 وكان الدليمي مديرا عاما للأمن الوطني؛ خلال الثورة خلف رصاص الرشاشات و الطائرة المروحية التي كان يقودها أفقير بنفسه مئات من القتلى و الجرحى، إنها حقا مذبحة بشعة . قبل المذبحة كان القصر ينوي ربط علاقة جديدة مع المعارضة للخروج بالبلاد من أزمتها, فكانت الجدية بادية على الطرفين و لكن في غفلة من الجميع كان لأوفقير رأي آخر. أما الحدث الآخر، فكان يوم 7 من يونيو 1965، خلاله أعلن الحسن الثاني حالة الاستثناء و أوقف العمل بالدستور الذي كان قد منحه قبل ذلك بسنتين للبلاد، أما يوم 29 أكتوبر لسنة 1965 فقد كان يوما دمويا بامتياز، اختطف فيه المهدي بن بركة وتم اغتياله من طرف مجموعة من الخونة والأوباش الدمويين ورجال المخابرات الفرنسية العاملين لصالح أفقير، فتوقفت عجلة التاريخ وحركيته ومن تلك اللحظة أصبح المغاربة متخصصين في إنتاج وتوزيع الألم والمعاناة والقهر. انتصرت إذن آلة القمع والعنف، فامتلأت السجون و تمت المحاكمات غير العادلة بما فيها محاكمات الإعدام، كثر المفقودون و الأرامل والأيتام، إنها حرب غير معلنة ،إنها الصاعقة الكبرى. لقد كان العنوان الكبير لهذه السنة هو العنف وكان الزمن زمن الرصاص بامتياز، فكان البطش والظلم في قمته. فهلك من هلك وعذب من عذب و أهين من أهين. إنها بالفعل مأساة حقيقية عاشها المغرب. تقول والدتي التي لا زالت إلى يومنا هذا تقطن الحي نفسه متشبثة بقدرها وذاكرتها: « بعد خمس بنات متتاليات وطفل أخذه الموت بكل قسوة و هو لم يتجاوز السنة؛ رزقنا بك، عمت الفرحة و البهجة خلالها بعد سنوات عجاف، ولكن في نفس الوقت كان المغرب يعيش حالة استثنائية، كان أبطالها الدمويين شبكة أوفقير وكل من يدور في فلكها، فاختلط على العائلة ضحك الشياطين بضحك الملائكة.» كان الحي الذي كنت أقطنه مكتظ بالسكان يعيشون الحياة بكل مآسيها ويخيم عليهم الظلام في عز النور. كانوا يتهكمون على وضعهم الكارثي بتقسيمهم للحي إلى منطقتين، منطقة روما ومنطقة بزنطة. كل منطقة بطقوسها وأهازيجها وفتواتها، فكان الحي امتداد لمجموعة أخرى من الأحياء الضاربة في قدم المعاناة والألم واليأس: كدوار الحاجة ودوار الدوم واليوسفية و حي التقدم... ولكن وللأمانة فقد خلفت هذه الأحياء المهمشة في غفلة من الزمان مجموعة من الأطر و الكفاءات الوازنة في كل الميادين، في الطب، الصيدلة، المحاماة، الهندسة، التعليم، الأمن و مجموعة من الساسة المناضلين الواعون بخطورة المرحلة و المتطلعين إلى الحرية والتغيير. إضافة إلى أطر أخرى وصلت إلى مناصب عليا في هرم الدولة. كما خلفت هذه الأحياء مجموعة عريضة من خريجي السجون ومحترفي العنف والتسيب في غياب التأطير والإهتمام والأمن. فمن من سكان المنطقة لا يتذكر: «علال الضب، احمد الضب، ميلود الصوبيص، كروش، بن عيسة لقرع، بوعزة العسكري...» كان هؤلاء يعيشون خارج القانون وينشرون الرعب داخل هذه المستوطنات الدامية ، ربما للفت الإنتباه و الثأر لمأساتهم و جحيمهم. ونحن في مقتبل العمر ألفنا مجموعة من الوجوه كانت حاضرة على الدوام لتذكرنا بحقيقة المأساة والعزلة التي كنا نعيشها، فمن منا لا يتذكر ‹مامي› وهي تنتشي سجارتها من نوع «فافوريط» وتقول: ‹حن يا حنان› . ومن منا لا يتذكر› حمو الكراب ‹ ومغامراته التي لا تنتهي مع الزبائن. ومن منا لا يتذكر أيضا ‹نوعا› ذلك الفتى الأشقر الجميل الذي كان يحسن السباحة، والذي كان يعيش واقعا يصنعه بنفسه و لنفسه بعيدا عن حماقات المجتمع الذي كان يحتضنه. ومن منا لا يتذكر مقهى ‹قرطبة› لصاحبها ‹سي لحسن› التي كانت المتنفس الوحيد للساكنة في غياب المؤسسات الثقافية والترفيهية. ومن منا لا يتذكر جمعية ‹أعن أخاك›التي كانت متنفسا فريدا من نوعه من أجل التحصيل والمعرفة. أما الوجه الجميل لهذه الأحياء المهمشة فكان هو التضامن الاجتماعي العفوي لساكنته. فمن منا لا يتذكر الناس الطيبين الذين ألفناهم بيننا، و الذين كانوا يمدوننا بالعطف والحنان والأمان في زمن القهر والخوف والمعاناة، نتذكر الحاج الحمري وطيبوبته، الفقيه الحكيم الذي تتلمذت على يده وعمري لايتجاوز الرابعة، ثم والدي الحاج بن الطيبي وعائلة فاطنة بوشعيب وعائلة فريحة وعائلة لكبير وعائلة مهيدرة و آخرون. كانوا جميعا يتصارعون من أجل البقاء، نتذكر ونحن صغار كانت بيوت الحي كلها بيوتنا وكانت أمهات الحي كلهن أمهاتنا وكان آباء الحي كلهم آباؤنا. كنا نعيش حياة جميلة رغم قساوتها فأين نحن من هذه الحياة اليوم؟ في يوم ليس كباقي الأيام و عمري لم يتجاوز حينها التاسعة، قررت منظمة الكشفية المغربية فتح فرع لها بحينا و هي تابعة كما هو معروف لحزب الاستقلال، انخرطنا بكل عفوية فكان الدعم و التأطير حاضرين خاصة في ظل الفراغ القاتل الذي كانت تعيشه الساكنة على جميع المستويات، فكانت فكرة الانخرط صائبة. كان الزمن منتصف السبعينيات انخرطت بداية كجرموز، كنا نطوق أعناقنا بمناديل حمراء ونشارك في اجتماعات مثل الراشدين، نتأطر من خلالها نردد مجموعة من الأناشيد كنشيد الكشاف الذي يقول: «نحن بنوا كشفية نحن بنوا كشفية مغربية ، دوما نعمل بجد في كل ناحية ...» كان الجرموز بعد أن يتقدم في السن يصبح كشافا بعد ذلك رائدا، و لن يتم هذا إلا بعد عملية التوشيح، فعلا كانت منظمة الكشاف المغربي فضاء ترفيهيا و تأطيريا بامتياز؛ شكرا للذين أطروننا، شكرا ‹نور الدين الزمراني› شكرا ‹نور الدين المرابط› شكرا ‹حسن المرابط› شكرا ‹الصنهاجي› والحداوي› وآخرون... ومن حسن حظنا كذلك كنا ندرس في مؤسسات تعليمية عمومية داع صيتها وطنيا وأفرزت مجموعة من الأطر الوازنة والتي لها الآن مكانة متميزة داخل المغرب وخارجه، من بين هذه المؤسسات التعليمية : مدرسة عمر بن عبد العزيز الابتدائية وإعدادية التقدم المعروفة الآن بإعدادية عمرو عالم و ثانوية دار السلام الغنية عن التعريف. فعلا كانت مؤسسات نموذجية سواء بالنسبة لمناهجها التعليمية أو لأطرها التعليمية و الإدارية المحنكة، فكانت الحكامة في هذه المؤسسات ظاهرة للعيان. بعد عشر سنوات تأثرت بالفكر الاشتراكي بعد انخراطي بالمركز الثقافي للإتحاد السوفياتي سابقا بالرباط، فكنت جد مقتنع بهذا النظام السياسي من خلال أدبيات الفكر الماركسي وما حققته الثورة البلشفية من انتصارات ضد الظلم و القهر والميز،هذا ما دفعني للتفكير جليا بمتابعة دراستي الجامعية بإحدى دول المعسكر الشرقي. الفقرة الرابعة في إحدى أيام الصيف الحارة من شهر يوليوز لسنة 1988 ،كنت بالمنزل، أتناول وجبة الفطور المتواضعة فطرق طارق، ذهبت لأستطلع الأمر، إنه ساعي البريد السيد حميد. قلت له : ما الجديد» سي حميد» ؟ قال : إنه تلغراف من مديرية تكوين الأطر. فأخذت منه التلغراف و بعد الإمضاء اكتشفت بما في داخله، إنها المفاجأة، لقد تمكنت من الحصول على منحة دراسية لمتابعة دراستي الجامعية بدولة ‹تشيكوسلوفاكيا› بشعبة الصيدلة، لقد تحقق ما كنت أنتظره منذ زمان، و أصبح الحلم حقيقة، فعلا كانت لحظة أنستني كل المآسي و التيه والضياع التي عشتها من قبل. بعد هنيهة اختلطت الأمور فبدأت أتساءل من أين لي بالمال اللازم للقيام بهذه الرحلة المفاجئة و خاصة أنني مطالب بالالتحاق بالجامعة في غضون شهر، لم أجد أمامي إلا والدتي التي اضطرت إلى بيع صواريها الذهبيين الوحيدين، فكان المبلغ هزيلا لا يمكنني من السفر عبر الطائرة، فاخترت السفر مجبرا عبر القطار من الرباط إلى براتيسلافا. كانت الرحلة شاقة لكن ممتعة، دامت حوالي الشهر، زرت خلالها إسبانيا، فرنساوألمانيا. وأنا في طريقي إلى المجهول وذكريات أفراد العائلة والأصدقاء تتبادر أمامي وخاصة ذكرى الوالدة التي ودعتني بحرارة وسلمتني كيسا مملوءا بالحلويات وبعض النباتات الطبية كالزعتر والكامون إضافة إلى «الزميتة»، وعلى ذكر «الزميتة» فهي خليط من الشعير المحمص المطحون والممزوج بمختلف النباتات الطبية ككوزة الطيب، زريعة الكتان، الزعتر، النعناع المجفف...قبل تناولها نظيف الماء الساخن وعسل النحل، نخلط المزيج جيدا حتى الحصول على عجين متماسك، غذاء كان الآباء والأجداد يأخذونه معهم في سفرياتهم الطويلة لقهر الجوع و الظمأ. فقلت لها مبتسما : إنني مسافر إلى أوروبا و ليس لقضاء مناسك الحج في زمن استعمال الدواب ومواجهة مخاطر قطاع الطرق و قسوة الطبيعة. ابتسمت قائلة : خذ يا شقي ستحتاجه في سفرك هذا حتما. وفي غمرة الابتسامة عانقتني بقوة واستسلمت للبكاء وكان عناق الوداع. مباشرة بعد ذلك رافقني والدي خارجا، ناديت على سيارة الأجرة، توقفت بجانب الرصيف، فتحت الباب وضعت أمتعتي، فالتفت إلى والدي و عانقته بحرارة وقال لي حينها: كن رجلا . كلمتان فقط ولكنهما تحملان في طياتهما الكثير من الكلام. أخذت سيارة الأجرة طريقها نحو محطة القطار الرباطالمدينة، حينها استسلمت لنوبة من البكاء لم أعرفها قط. كلما اقتربنا من المحطة بدأ الحي بكل ذكرياته ومعاناته يبتعد رويدا رويدا، في نفس الوقت أصبح المجهول يقترب. خلال مدة سفري اختلطت علي الأمور، كنت أعيش بين أحضان عالم كله مآسي وعذاب وظلم وقهر و في رمشة عين وجدت نفسي في عالم آخر، عالم أوروبا بحضارتها و ثقافتها و عيشها الرغيد، إنها بلاد الجن و الملائكة كما قال الأديب «طه حسين» أصبت حينها بالذهول و لم أصدق أنني أعيش هذه اللحظة التي انتظرتها طويلا. فقلت في نفسي :» لقد أحسنتم أيها الأوروبيون، فما تعيشونه الآن هو ثمرة جهودكم و نضالاتكم و عزيمتكم.» بعد المرور الخاطف على إسبانيا زرت فرنسا تلبية لعزومة أحد أصدقاء الطفولة ، كان اسمه ‹الوردي›، كنا نمارس معا كرة القدم بإحدى فرق الحي، كنت قد التقيت به صدفة في محطة القطار بإسبانيا بجزيرة› الخزيرات›. بعد أربعة أيام قضيتها مع عائلته بفرنسا، توجهت بعد ذلك إلى ألمانيا لزيارة أختي «لكبيرة» و هي كبيرة فعلا لأنها منذ أن سافرت إلى ألمانيا وعمرها لم يتجاوز 19 سنة كانت تساعد العائلة بشكل منتظم، و لولاها لذقنا الأمرين، كنت حينها في السابعة من العمر، جاءت إلى أوروبا بعد صدمة عاطفية و نفسية لا أعتقد أن ذاكرتها ستنساها، تزوجت و هي قاصر لم تتجاوز حينها الخامسة عشر من عمرها، أرغمت على ذلك من طرف والدي، فغادرت المدرسة أمام ذهول أساتذتها، لقد كانت متفوقة في دراستها بشهادة الجميع. بعد أقل من سنة بدأت الصراعات مع زوجها الذي يكبرها بأكثر من عشرين سنة، بعد مخاض عسير تم الطلاق وأصبحت تنعت بالمطلقة وعمرها لا يتجاوز السابعة عشر. إنها فعلا كارثة اجتماعية تجسد الحيف والظلم الذي كانت تتعرض له المرأة المغربية آنذاك. هاجرت من أجل النسيان والبحث عن غد أفضل فاصطدمت بواقع آخر، لا يقل معاناة عن واقعها الأول. تزوجت مرة أخرى ولم تجن من هذا الزواج إلا الألم. أنجبت طفلا وحيدا أعادها للتشبث بالحياة. من أجل رد الاعتبار لهذه الفئة من النساء ولمواجهة الاغتصاب وزواج القاصرات على المجتمع برمته بكل فاعليه أن يتجند من أجل إعادة النظر في النصوص التشريعية التي تبارك هذا العنف الوحشي و خاصة الفصل 475 من القانون الجنائي و المادة 20 و 21 من مدونة الأسرة، علينا و بدون تردد حذفها وبثرها ورميها إلى مزبلة التاريخ؛ نترك هذه المرأة المناضلة الشجاعة تعيش حياتها و خصوصيتها و نعود لإتمام بقية الرحلة. بعد عشرين يوما قضيتها بألمانياالغربية سابقا بمدينة ‹دورتموند›، تعرفت من خلالها نسبيا على حركية المجتمع و نضجه و إلى أي حد نحن متخلفين بالنسبة إليه. بعدها اتجهت عبر القطار من مدينة «دورتموند» إلى مدينة «نورنبورغ»، المدينة التي حوكم فيها النازيون بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية. ومنها توجهت إلى مدينة «براغ» عاصمة «تشيكوسلوفاكيا». في منطقة الحدود بين ألمانياالغربية آنذاك ودولة « تشيكوسلوفيكيا «، كانت بوادر الحرب الباردة ظاهرة للعيان، جنود بأسلحتهم الرشاشة وكلابهم المدربة، يراقبون، يبحثون ويفتشون عن كل كبيرة وصغيرة، عن جوازات سفرنا، عن الكتاب الذي بين أيدينا عن أمتعتنا، عن جنسيتنا، ينظرون إلينا بنظرات ليست كباقي النظرات. كأنهم يقولون لنا : حذار، فأنتم في عالم جديد، عالم الشيوعية، عالم كارل ماركس، لينين، إينجلز وستالين، لقد انتهى عالمكم الرأسمالي المتوحش الأناني. كانت «تشيكوسلوفيكيا« بالنسبة إلي عالم مجهول، لا أعرف شيئا عن عاداته ، عن تقاليده، عن لغته، عن ساكنته. كل ما أعرف عنه هو ربيع «براغ» وأحداثه. بعد نقطة الحدود وبعد ساعتين وجدت نفسي فوق أرض البوهيميا، بلد «بيتر كافكا» و«ميلان كونديرا» و «فاتسلاف هافل» و «ألكسندر دوبتشيك». أخيرا تحقق الحلم و وجدت نفسي بين أحضان العالم الشيوعي الذي كنت أبحث عنه لأتخلص من ظلم و بطش البقايا الأوفقيرية والشبكة البصرية، نعم إنها بالفعل نشوة الانتصار. في محطة القطار كان مجموعة من الطلبة الأجانب سواء منهم السوريون أو الأردنيون أو اليمنيون وآخرون ينتظرونني، و هي عادة يساعد من خلالها الطلبة القدماء الطلبة الجدد ويقدمون لهم العون لإدماجهم في مجتمعهم الجديد. بعد التحية والسلام، أخذنا القطار جميعا إلى مدينة «براتيسلافا» عاصمة الجزء السلوفاكي ومنها توجهنا إلى مدينة صغيرة عبر الحافلة تدعي «سينتس»، وبعدها توجهنا إلى المركز المخصص للدراسة والإيواء بوسط المدينة قرب بحيرتها الشهيرة. كنا بهذا المركز ندرس اللغة السلوفاكية والمواد العلمية التي نحتاجها من أجل دراستنا الجامعية، وفي آخر السنة نجتاز امتحان للولوج إلى الجامعة، إنها باكالوريا جديدة. كان الكل مستعد من أجل تأطيرنا وإعادة تكويننا تكوينا يليق بالمعسكر الشرقي. تعلمنا مجموعة من الأشياء إضافة إلى اللغة وباقي العلوم، علمونا طقوس المسرح و‹إتكيت› الأكل والنوم وكذلك التزحلق على الجليد، بعد ما كنا نتزحلق في المغرب على «الغيس». كان الكل آنذاك يعزف سنفونية الجمال. كانت بناتهم ونسائهم في قمة الجمال، جمال لا يوصف ولا يوجد إلا في أرض البوهيمية ذات الأصول السلافية. كانت الجعة المختلفة ألوانها وأشكالها شفاء لمحتسيها، أما الجامعات العريقة والمكتبات المختلفة، فلا تسأل. إضافة إلى وجود وسائل نقل متطورة وبأثمنة مناسبة للغاية، أما خدمات التطبيب المجاني والإنساني فكانت في أوجها. قلت في نفسي إنها الجنة، ربما أنا من عداد الموتى، من ضحايا جلادي خدام الجنرال الدموي أوفقير أو تلميذه البصري، إذن أنا شهيد زمن الرصاص، بعد أن واجهت الجلادين في عز العنف والظلم بلغة الموت، فكان جزائي الجنة، ونعم الجزاء. جنة البوهيمية ببحيراتها وجبالها وجليدها وبناتها و جعتها. الفقرة الخامسة فعلا كانت أياما جميلة لا تنسى، وخاصة في بدايتها الأولى. ولكن بعد الغوص في حركية المجتمع و التعرف عليه أكثر فأكثر، اكتشفت مأساة جديدة أنستني جنة البوهيميا، مأساة كان بطلها النظام الشيوعي الذي تغنى به ماركس وإينجلز ولينين، نظام كان بعيدا كل البعد عن حقيقته التي تم تسويقها إلينا، فكانت الطبقية المجتمعية حاضرة في عز الشيوعية ، كان الجشع الإنساني والأنا حاضرين، كان القمع والعنف وخنق الحريات وإيديولوجية الحزب الواحد في الأوج. حينما اكتشفت حقيقة النظام الشيوعي الشمولي الجائر، نظام كنت أعتبره موطن الخلاص لكل معاناتي ومعاناة الملايين من أمثالي، بدأت أشعر بالوحدة والاضطراب واليأس و القلق. وذات مساء من خريف 1988 كنت حينها في زيارة لمدينة براتيسلافا لبعض الأصدقاء، في نهاية عطلة الأسبوع للتخفيف من حدة الملل و التكرار الذي تعرفه مدينة «سينتس الصغيرة» ، بعد جولة بمدينة «براتيسلافا» عدت إلى الحي الجامعي للخلود إلى النوم بعد لحظة و في منتصف الليل بدأت أشعر بصداع رهيب في مؤخرة رأسي، لم أنم طول الليل. في الصباح مباشرة بعد شروق الشمس أخذت الحافلة عائدا إلى المركز الطلابي بمدينة «سينتس» ، كان اليوم يوم أحد، صعدت إلى الحافلة كانت مملوءة عن آخرها، لم أجد مكان للجلوس، أصبت بالغثيان، بعد حوالي ساعة، كانت أحر من الجمر، وصلت إلى المركز الطلابي و حينها سقطت على الفور فاقدا للوعي. نقلت بعدها مباشرة إلى المستشفى المركزي لمدينة براتيسلافا، بقيت فاقدا للوعي ليومين، كانت فيهما حرارتي جد مرتفعة كما أخبرني الطبيب المشرف، بعد الفحوصات الطبية و التحاليل المخبرية تبين بأنني مصاب بمرض «التهاب السحايا» المعروف بمرض «المينانجيت»، وهو تعفن باكتيري يصيب غشاء المخ و يشل الحركة، إذا لم يعالج المريض في الوقت المناسب يكون مصيره الموت، نعم لقد أصبح دماغي يتفسخ في تلك اللحظة من شدة الصدمة، صدمة الخيبة. كنت في غرفة الإنعاش، أتقاسم الموت مع ثمانية مرضى آخرين لكل علته. في كل يوم يخطف الموت أحدنا، بدأت أشعر بالخوف والرهبة، إنه الموت يتربص بي. في لحظة من اللحظات تكون الجثة إنسان بشحمه ولحمه، بتطلعاته، بآلامه و عذاباته وأمله، متشبث بالحياة وبرغبة البقاء، له حرمته وحميميته وقدسيته، ولكن حينما يخترقه الموت يصبح الإنسان مجرد ذكرى، ممكن أن يتعرض للعبث دون أدنى مقاومة، فيرمى به في عالم النسيان. مرت أربعة أيام، غاب الموت عنا، وبدأت الحياة تأخذ مجراها الطبيعي. كان اليوم عيد ميلاد أحد المرضى الذي كان مصابا بمرض السرطان، للتخفيف عنه قرر الأطباء والممرضات الحسناوات الاحتفال بهذه المناسبة. في عز المرض احتفلنا بطريقتنا، كانت الفرحة والسعادة بادية على الوجوه، فلم أعرف كيف بدأت أحكي لهم عن المغرب، عن تاريخه و جغرافيته وثقافته، عن أيام الحركة الوطنية، عن بطش الاستعمار، عن زمن الرصاص، عن كل التناقضات والمعاناة التي كانت تنخر جسم المجتمع. حكيت لهم عن استقلال المغرب سنة 1956 ،حينها اعتقد الجميع بأن المغاربة دخلوا مرحلة جديدة من أجل التغيير والتطور والقطع مع مخلفات الاستعمار، ولكن أمام اندهاش الجميع حضر العنف الدموي والتصفيات الجسدية والإعدامات و المحاكمات غير العادلة. لم أكن حينها أحسن اللغة المحلية جيدا، كنت في بداياتي الأولى، اجتمع الكل حولي، كانوا منبهرين من كلامي، لكن بعضهم حسبوه كذبا و بهتانا. فجأة ظهر شخص يقطن الغرفة المجاورة بدون سابق إنذار، كان الرجل يتجاوز السبعين من عمره، قال لهم و هو واثق من نفسه:» لقد صدق هذا الشاب في ما قاله». فاقترب مني و قال لي بنبرات حزينة سمعها الجميع: «لا يحق للمرء أن يتعرض للتصفيات البشعة و للعنف الدموي، أن يمس عرضه، أن يرمى به في السجون بدون محاكمة و لا رقيب. لا لشيء إلا لاختلافه مع جلاديه.» فأضاف والكآبة بادية على وجهه: «لقد تعرض صديقي «المهدي بن بركة» للعنف البشع، و تعرضت جثته للإهانة، و مست حرمته و قدسية جسده، إنها جريمة ضد الإنسانية بامتياز.› عم الصمت بعدها، فقلت له سائلا:» من أنت أيها الطيب؟» قال لي: «إنني ببساطة صهر الصديق والرفيق «المهدي بن بركة».» ودعني و عاد إلى غرفته و تركني تائها، لا أفهم ما يجري حولي. بعدها و في صباح اليوم الموالي، بعد أن تحسنت حالتي نقلت إلى جناح آخر، فاختفى الرجل الطيب عن أنظاري و إلى يومنا هذا. منذ تلك اللحظة بدأ الأطباء والممرضات يعاملونني معاملة متميزة، بعد خمس أسابيع من النقاهة، تخطيت خلالها الموت غادرت المستشفى ولم أتعرض للمرض نفسه إلى يومنا هذا، ربما أصبحت أكثر واقعية بعيدا عن مدينة ‹أفلاطون› الفاضلة. بعد سنة من الدراسة والمثابرة بمدينة «سينتس» واجتياز امتحان الولوج إلى الجامعة ، التحقت بجامعة «كومينيوس» ببراتيسلافا لأبدأ مشواري الدراسي الجامعي. كان ذلك في صيف 1989. نعود إلى ثورتنا وهي في بداياتها، في إحدى المقاهي وسط مدينة «براتيسلافا» كان شباب الثورة التشيكوسلوفاكية بمن فيهم الأجانب المتضامنون معهم يجتمعون من أجل الحوار و النقاش و من أجل إنجاح الثورة. ويذكرني هذا بحركة 20 فبراير المغربية لسنة 2011. و بينما نحن في عز النقاش والحوار تدخل أحد الطلبة فبدأ ينتقد بشدة النظام الشيوعي الحاكم فقال حينها : -› إن نظامنا العقيم بمثابة الإله الواحد، يغني من يشاء ويذل من يشاء، كان والدي دكتورا باحثا في علم التاريخ، كان ينتقد بشدة النظام الشيوعي في عز قوته و جبروته فطرد من الجامعة بعد أحداث ربيع براغ لسنة 1968، فقست عليه الأيام فلم يجد من بد إلا القبول بعمل متواضع كحارس بالحي الجامعي، ربما تعرفونه فاسمه «ميلان نوفاك» ‹. فقلت له : «نعم أعرفه إنه يشتغل بالحي الجامعي الذي أقطن فيه «ملينسكادولينا»، وكم تناقشنا و تحاورنا حول مواضيع متعددة.» فأضاف قائلا والدموع تتساقط من عينيه والألم يغمره: «نعم، بسبب هذا النظام فقد والدي عمله وزج به في السجن لسنين، بعد خروجه وجد العائلة مفككة و خاصة بعد وفاة والدتي، فضاع كل شيء.» ذكرني هذا الحديث الحزين برواية «كائن لا تحتمل خفته» لكاتبها «ميلان كونديرا» عندما فقد بطل الرواية ميلان الطبيب عمله بعد معارضته للنظام في عز وحشيته، فأصبح يعمل كمنظف للزجاج ثم كسائق شاحنة في إحدى الضيعات، وكم عانى من الإهانات بعد أن كان طبيبا ناجحا.