في ذاكرة السياسيين، تأريخ غير مدون لمسار عاشه الوطن، بقيت تفاصيل منه مخبأة في ركن خفي من العقل. ولأن الذاكرة، تنتقي في كثير من الأحوال، ما يحلو لصاحبها أن يكشفه، فإن تدفق المعلومات قد يزيل بعض الظلال المحيطة بكثير من التفاصيل الغائبة. في حياة السياسيين، تقع أحداث مختلفة ومتفاوتة من حيث الحجم والنوع والزمن...ومهما صغر أو كبر مبلغها، فإن إعادة ترتيبها وقراءتها من جديد، من شأنها أن تسلط الضوء على سلوك أو فعل قد لا يكون فرديا بقدر ما يكون جماعيا. وما يهم أكثر في حياة السياسيين، سيما أولئك الذين ألقت بهم الأحداث إلى الواجهة، أن صناعة الحدث كانت جزء من عملهم. بالنسبة لكثير من السياسيين في المغرب، قد تكون لحظة «التقاعد» أو الابتعاد عن صناعة الحدث السياسي، فرصة لمن يريد البحث عما تختزنه الذاكرة من رؤى ومواقف وآراء ومعطيات... لم يعد «واجب التحفظ» يغرقها في كنف الأسرار. وفي تفاصيل ذاكرة السياسيين، هنالك حدث ما أو واقعة أو شهادة أو معاينة واستشراف، وفي ثنايا هذه التفاصيل جزئيات قد تبدو للكثيرين غير مرتبطة بمركز الحدث، لكنها بالتأكيد، قد تفيد في فهم الصورة العامة. وحيثما نبحث في الذاكرة، يختلط الفردي بالجماعي، والشخصي بالآخر، والذاتي بالموضوعي، لكن الاستقراء المنظم للذاكرة، يجعل الحدث السياسي هو كل هذه الأشياء. هذه المرة، تأكدنا من أننا نريد شيئا من هذا القبيل. ذاكرة مفتوحة على أحداث قرن مضى وعقد من هذا القرن الجديد. ذاكرة قائد سياسي تمتزج بين طياتها المتناقضات والمتآلفات، لتنتهي إلى صياغة صورة عن وجه سياسي عرفه المغرب كشخصية عمومية، لكن رغبة معرفته كشخصية خصوصية، هدف مبتغى. من هنا، وقع الاختيار على مولاي إسماعيل العلوي، ابن العائلة الكبيرة، ذات الأصول الشريفة، وابن باشا في عهد الملك محمد الخامس، لكنه لم يختر رغم كونه كذلك، سوى أن ينخرط في صفوف الحزب الشيوعي المغربي، ليشكل الاستثناء في عائلة أرستقراطية محافظة. في حياته، درس نستقيه عن كيف يتحول المرء، دفاعا، عن مبدإ مجتمعي، من حياة الثراء، إلى حياة العمل في تنظيم محظور. وكيف أصبح حفيد الصدر الأعظم، وقريب العائلة الملكية، وجها بارزا في صفوف الشيوعيين المغاربة المناهضين للاستغلال والفوارق الطبقية والمدافعين عن عدالة توزيع الثروات. في تفاصيل حياة مولاي إسماعيل العلوي، قصص وروايات وأحداث جسام، وأحيانا طرائف ومستملحات. ومن المهم التذكير، أن العلوي، لم يكبح جماح رغبتنا في أن نفتح ذاكرته للعلن، ونعممها على القراء بشكل لم يكن مسبوقا.. ومن ثم جاءت صياغة هذه الأوراق. حصل على الباكالوريا في القنيطرة ثم تسجل في ثلاث شهادات جامعية دفعة واحدة حاولت تقليد الهولنديين في غمر مياه البحر بالمغرب لكنني كنت حالما * بعدها، انتقلتم إلى مدينة القنيطرة حيث حصلت على شهادة الباكالوريا. العلوي: كنا قد انتقلنا بالطبع إلى القنيطرة مع والدي بعد تعيينه قائدا على هذه المدينة، بكافة أفراد أسرتي. وقد حصلت على شهادة الباكالوريا في جزئها الأول والثاني هنالك في ثانوية تدعىcollege mixte de port lyautey ، وقد تغير اسمها بطبيعة الحال، غداة الاستقلال، لتصبح ثانوية عبد المالك السعدي، ومع ذلك، فقد كانت دراستي في هذه الثانوية على المنهج الفرنسي، وليس على النهج المغربي. * متى عين والدك باشا على مدينة القنيطرة ؟ - عين مباشرة بعد عودة الملك محمد الخامس من المنفى في نونبر. إذ صدر ظهير تعيين ووالدي كباشا على المدينة بعد شهر من ذلك. * وهل شرح لكم الأب حيثيات التعيين وما يصاحبه من انتقال؟ العلوي: لا، لم يشرح أي شيء، والدي لم يكن يدع نفسه يغرق في مثل هذه الجزيئات، وكل ما هنالك أن قرار التعيين صدر، فكان الرحيل قرارا محسوما سلفا، وهكذا كانت الأمور تجري معه، إذ لم يكن يجري أي تشاور معنا على الإطلاق. وأتذكر في هذا السياق، أنه في إحدى المرات، بمدينة القنيطرة، كان والدي قد باشر بعض الإصلاحات في السكن الوظيفي حيث كنا نقطن، وطلب مني أنا وشقيقيّ الإدلاء بمقترحات حول كيفية الترميم والإصلاح، وشرعنا في الكلام، كل واحد منا يقترح القيام بإصلاح هنا أو هناك. ولما أنهينا كلامنا نحن الثلاث، وهو يستمع إلينا بإمعان، قال لنا « شوفو أوليداتي، ملي تكبر ديرو لي بغيتو، أما دبا نوضو سيرو فحالكم علي». بالطبع، لم يكن ينطق بتلك الكلمات بنوع من الخشونة، لكن سلوكه كان يعكس فكرة في رأسه وهي انه صاحب القرار وليس أحدا غيره. وبالتالي، لم يكن لدينا نحن، أو سوانا، الحق في تغيير ما يقره. * وهل تغير سلوك والدك بعدما أصبح رجل سلطة؟ - لم يتغير سلوكه أبدا، بل ظل كما كنا نعرفه دوما. وما رأيته في هذا الجانب، هو أن والدي ترك انطباعا طيبا لدى سكان القنيطرة، فقد كان كما كان يقول أحد الأصدقاء ممن عايشوه في تلك الفترة،»رجلا قويا» و»ذو شخصية قوية» . وقد كان صارما بعض الشيء في تصرفاته وسلوكاته في بعض الأحيان مع الناس، بل وكان ينتفض أحيانا غضبا، لكنه سرعان ما يهدأ ويتحول إلى شخص بشوش معهم. * وكيف اندمجت في بيئة القنيطرة بعد انتقالكم إليها؟ - بالطبع، فقد كانت بيئة مدينة القنيطرة، مغايرة لما كان في سلا أو الرباط، ومع ذلك، لم يطرح هذا التغير أي مشكل بالنسبة لي؛ أولا، ما لاحظته أن ما كان يميز مدينة القنيطرة عن الرباط في باب التعليم، هو أن التعليم الثانوي في القنيطرة، كان مختلطا، فيما مدرستنا في الرباط، كانت خاصة بالبنين دون البنات، وهذا كان بالنسبة لي أمرا جديدا، فكان وكأني عدت إلى المرحلة الابتدائية حيث كنا في مدرسة مختلطة. * ثم حصلت على شهادة الباكالوريا.. - بعد حصولي على الجزء الثاني من شهادة الباكالوريا، كان من الضروري وفق النظام التعليمي الذي كان سائدا وقتئذ أن نمر بما يسمى بشهادة الدراسات العامة، وتلقيت تعليمي لهذه الشهادة في ثانوية ليوطي في مدينة الدارالبيضاء، ولأني غادرت بيتي، فقد تكفل بمسكني خالي عبد الرحمان الخطيب. وقد كان عاما ممتازا على جميع المستويات، إذ كنت مسجلا في الشهادة العامة بثانوية ليوطي ومسجلا أيضا في السنة الأولى بكلية الحقوق بجامعة الحسن الثاني بالدارالبيضاء، ودراسة الحقوق في ذلك الوقت، لم تكن حتى كلية وقتئذ، بل كانت نواة لكلية موجودة في الطابق الأول لعمارة «الستيام»، فذلك كان مقر هذه « الكلية» وقد كنت حينئذ متحررا من الوضع الأسري، بعدما بت أقطن مع خالي، ثم إن الشهادة العامة كانت تفتح أفاقا معرفية هامة، مثلها في ذلك مثل دراسة الحقوق، بحيث منحت نكهة خاصة لذلك المناخ التكويني حيث كنت أتواجد. * بعد ذلك، ستغادر لاستكمال الدراسة في الخارج. - بعدما سجلت في شهادة الدراسات العامة بثانوية ليوطي، وكذا في شعبة الجغرافيا بجامعة محمد الخامس بالرباط، (كانت الدراسة الجامعية وقتئذ لا تحسب بالسنوات بل بالشهادات) وكانت شعبة الجغرافيا تتشعب إلى شهادة الجغرافيا العامة وشهادة التاريخ القديم، وكنت عازما على التسجيل فيهما معا، وذلك ما حصل فعلا، حيث قضيت السنة الأولى، وحصلت على شهادتين في الفرعين معا. بعدها، سافرت إلى فرنسا، وبالضبط نحو معهد الجغرافيا التابع لجامعة السوربون، إذ كانت هي الجامعة الوحيدة الموجودة في العاصمة الفرنسية باريس. وقد تلقيت في المعهد ما كنت أختاره لنفسي، وما حددته ليكون تخصصي منذ سنوات، فقد كنت أعرف أنني أريد أن أتخصص في الجغرافيا بشكل أساسي، ثم التاريخ كمعطى تكويني. * لماذا اختيارك للجغرافيا بالضبط؟ - اخترت الجغرافيا في وقت كانت هنالك موضة تسري في عالم الجغرافيا، وهي الجغرافيا التطبيقية، أي أن المرء لن يتعلم المعطيات المتعلقة بالجيوفورمولوجيا أوالتضاريس أوالمعطيات الجيوسياسية أو الجغرافيا الإقليمية، بل كانت هنالك رغبة من أجل تغيير الواقع المعيش من قبل الإنسان، أي تغيير ظروف عيشه وبيئته، وقد كان هذا الاتجاه في التفكير يعجبني، فقد كنت أحب هذا التصور، بل وكنت مغرورا في مدى قدرتي على إخضاع الطبيعة لإرادتي. وعلى سبيل المثال، فإن ثاني سفر قمت به في أوروبا، قادني إلى هولندا، وما أثار إعجابي هنالك هو تشييد «البولدرز»هنالك، إذ بهذه الطريقة تمكن الهولنديون من ربح نصف أراضيهم الحالية على حساب البحر (نصف هولندا كان حينئذ اقل من مستوى البحر) وقد ظهر لي أن هذه العملية لا تستحق الإعجاب فحسب، بل وتحتاج إلى تعرف عن كثب، وهكذا رحت إلى إدارة المياه الهولندية، وقد مدوني بشكل مستغرب بالنسبة لي، بعدد من الوثائق والمعلومات المتعلقة ببناء تلك الحواجز وبكيفية تمويل أراضي مغمورة بمياه البحر إلى أراضي صالحة للزراعة والفلاحة. لقد كان ذلك أمرا مدهشا لدرجة دفعتني إلى التفكير بأنه يمكن تحقيق أوراش مشابهة بهذه بالمغرب، وكان لدي حلم في هذا الصدد راودني بل وحاولت أن أصوغ حلمي في مشروع تشييد ميناء بمدينة القنيطرة في سهل على حساب الترسبات الطينية الموجودة هنالك، إذ يمكن فتح قناة لحمل مياه البحر ثم بحفر أحواض السفن، وقد كان ذلك المشروع ممكنا، لكن ما لم يخطر على بالي حينئذ هو الكلفة الضخمة لمثل هذا المشروع، إذ لم أكن أبالي بهذه التفاصيل، لكن يمكن القول أن موانئ أخرى بنيت على هذه القاعدة مثل ميناء «دانكيك» الفرنسي، ليس عبر الولوج إلى البحر بل بحمل البحر إلى الأرض. ولأن أحلامي كانت كثيرة حينئذ، فقد كنت أقارن بين أوضاع الشعب المغربي على المستوى الاجتماعي، والقدرة على التغيير المتجسدة في العلم والمعرفة، فقادني هذا التفكير مباشرة إلى الحزب الشيوعي المغربي، وإن كان التحاقي به يكاد يكون صدفة.