« إن صنع السلام أصعب من خوض الحرب، لأن صنعه والمحافظة عليه يتطلبان الشجاعة ويفترضان أحيانا مقاربات جديدة وصعبة، والتمتع بشخصية مدنية مُحببة ورأسمال ضخم من الإرادة والطموح والعمل والمثابرة والعزيمة للوصول إلى الهدف «، بهذه الكلمات بدأت الكاتبة البريطانية انجليكا روتر تصف حياة نساء دافعن عن حقوق الإنسان بشجاعة ومثابرة، ناضلن في سبيل الحقيقة والعدالة والأمل والإصلاح والحرية والسلام حتى كوفئن أخيرا بجائزتها العالمية التي أوصى بها ألفريد نوبل قبل وفاته تكفيراً عن شعوره بالذنب لاختراعه الديناميت القاتل...، إنهن نساء دافعْن عن القضية الإنسانية وحملن لأجلها راية الحرّية والديمقراطية والحفاظ على كرامة الإنسان.... إنهن نساء السلم والسلام». «....عزيزي الشعب الصيني: إنها رسالة حب أرسلها إليكم، أنا أمريكية وربما ما تُسمْونه رأسمالية، هل يفترض بذلك أن يكون حاجزا أمام الحب؟ إُنه لا يعيق حبّي، هناك العديد من الاختلافات بيننا، تقاليد...، أسلوب حياة،.. لغات..، ديانات...، لكننا مُتساوون في العديد من الجوانب الأخرى، لقد وُلدْنا لنعاني، نضحك ونبكي مثلما يفعل البشر فقط، هل يُفترض بالجيران أن تفصل بينهم الإيديولوجيات ...لا... لا...، لا يجوز ذلك، لا بد أن نتعايش جميعا، دعونا نكسّر الحواجز الكبيرة ونتخطاها، دعونا نتعلّم العيش معا..»، بهذه الكلمات البسيطة والمُعبرة خطت ايميلي غرين ابنة الثامنة والثمانين رسالتها إلى الشعب الصيني بهدف تحطيم الهوْة الكبيرة بين الولاياتالمتحدة وجمهورية الصين لتؤكد من خلالها على الإرادة الطيبة التي هي أساس التعاطي مع الآخرين وعلى الصعيدين البشري والسياسي، وباتت بالتالي كمثيلتها جين آدامز تدافع وبصلابة عن السلام الدولي حتى عمر الرابعة والتسعين دون أن تخسر حسّ الدعابة الذي أحبّه أصدقاؤها كثيراً وعلقت على جائزة نوبل للسلام 1946 مع صديقها وابن بلدها (جون راليغ موت) أمين سرّ جمعية الشبان المسيحيين بالقول «.. الأمر أشبه بحضور جنازتك قبل أن تموت...». ففي جو من الإحساس العالمي بالقوة الروحية والانضباط الذاتي والمعايير الأخلاقية الرفيعة والإخلاص لكل القضايا النبيلة نمت وترعْرت ايميلي غرين رفقة أشقائها الستة مغمورة بحنان والدها فرانسيس ووالدتها أيلين بالتش، قبل أن تغمرها تلك المعايير وتنطلق معها لتحصل على جائزة نوبل للسلام، بعد أن أضحت المرأة الأكثر شعبية في أمريكا وجعلت دموع الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون تنهمر بكثافة ( بعد أن منح الإذن لمجلسي الكونغرس لإعلان الحرب عام 1917) لحظات بدأ يقرأ فيها رسالتها التي تقول «.. رسالتي اليوم هي رسالة موت لرجالنا الشباب، كم غريب أن يتم تلقي هذا الخبر بالتصفيق، إنني أقف إلى جانب مواطنتي وعضو الكونغرس جانيت رانكلين التي راقبتها عن كثب وهي ترفض التصويت على قرار الحرب، إنني أحب وطني مثلها، وأنا مثلها أيضا لا استطيع التصويت على الحرب ولَكمْ سيكون جميلا لو تم التصويت بالرفض منكم جميعا...». كانت ايميلي قد كتبت رسالتها تلك وقد أخذ يغمرها إحساس الغضب والكراهية لأولئك المُتحمسين للحرب من أصحاب المصالح الشخصية، الذين يضربون مصالح الجميع عرض الحائط في سبيل تحقيق غاياتهم وأهدافهم البعيدة عن الحب والمليئة بالكراهية والحقد والعنف الدموي، وفي هذا بدأت تقول «... ترتكز النوايا الطيبة لحلّ المشاكل على نوع تصدير الحب العالمي الذي يشمل كل الكائنات الواعية، الحب الشامل الذي هو أساس جيد لكل النشاطات السياسية، إنها قوة الذكاء الحاسمة لفهم الآخر واستنباط حلول مقبولة لكل المعنيين، ولهذا سأهب كل وقتي لتحقيق السلام، السلام الكامل حيث الحب والمودة التي تسود..، لقد وجدت كلماتي تلك تطبيقا لها على أرض الواقع بعد أن قرّرت سريعا المشاركة في أول مؤتمر دولي للنساء في هولندا كانون الثاني/يناير 1915 ومع الإحداثيات الأولى للحرب العالمية...». وتضيف ايميلي بالقول «.... كانت مرحلة شبابي مرحلة جميلة وسعيدة جدا، فقد طبعها الحبّ الحماسي للطبيعة والرغبة في الكتابة، بتُّ اقرأ كثيرا وفي شتى أصناف العلم والمعرفة دون أن أغلق عيني عن رغبتي غير المنطوقة بأن أكون شخصا مُهما بعيدا عن الغرور، ذلك الوحش الذي يثور في داخل النفس البشرية والذي عوْضت عنه بالعواطف بتحفظ مُفرط وحس دعابة خاص حتى حصلت على منحة دراسية إلى أوربا لمدة عام، وكنت حينها أول طالبة أنثى أحصل على منحه كهذه، حاولت التنازل عنها لغيري مراراً وتكراراً لكن أساتذتي وزملائي رفضوا ذلك، بعد أن وصفوني بأنني امرأة صاحبة ذكاء غير اعتيادي وأخلاق استثنائية وروح كاملة مستعدة للتضحية والفداء في سبيل الآخرين، وبتّ حينها أميل إلى التركيز على الآداب والتاريخ واللغة (بعيدا عن خانة الاقتصاد كما تقتضيه المنحة الدراسية)، فآمالي كانت تنحصر في أن أكون شخصا مُفيدا في المجتمع البشري كوالدي تماما، وبدأت أتحول إلى باحثة نظرية مُحترمة حول البنيات العقلية للسلام، حينها شعرت بأنني وجدت المجال الذي سأخدم به البشرية وبدأت أردّد حينها بالقول: «إن المجتمع الفعال يستلزم تكيّفا مع القواعد الاجتماعية، لكن المسائل الأخلاقية لا يستطيع الفرد التمكن منها إلا من خلال اللحاق بالمجموعات وكسر القيم التقليدية حين تدعو الظروف لذلك..». كان عمر ايميلي غرين بالتش اثنين وعشرين عاما تقريبا حين بدأت دراستها بالعاصمة الفرنسية باريس وانطلقت في رحلتها الاجتماعية التي بدأتها بمحاربة الفقر والتهميش، بعد أن نشرت لأجله مقالا بعنوان (المساعدة العامة للفقراء في فرنسا 1893)، وساهمت للغاية نفسها في تطوير جمعية مساعدة أولاد بوسطن بعد عودتها من باريس التي تولّت إدارتها سريعا وطارت عبرها إلى كشف العلاقة بين السبب والنتيجة في الظلم الاقتصادي والجرائم والحرب والقوانين والمكاتب الحكومية التي تتعاطى مع المعتدين الأحداث وصاغت لأجله عام 1895 دليلا عرف باسم (قضايا المعتدين الأحداث والقاصرين الآخرين)، وأصبح فيما بعد مرجعا قياسيا وأخذت تقول في ديباجته «.. يصعب كثيرا الحفاظ على القيم النفيسة ونقل ثروة الماضي، ويصعب أكثر فأكثر مساعدة جيل جديد للتقدّم نحو المستقبل، لكنه أمر في غاية الإثارة، فعلى البشر نسيان الكثير قبل أن يصبحوا مُستعدين لطريقة تفكير جديدة، يجب تعليمهم احترام كل الآخرين بما في ذلك الضعفاء والمُغفلين والمعوقين، يجب أن يتعلموا وهب الآخرين الحرّيات التي يطلبونها لأنفسهم». فرغم عملها كأستاذه في كلية الاقتصاد وتعلّمها الاشتراكية بشكل جدّي إلا أنها تمكّنت من أخذ عطلة سنوية عام 1905، وسافرت لسنتين زارت خلالهما العديد من مدن أوربا، فصدمت بالفقر الذي صادفته أينما حلت وارتحلت، والتصقت بالشباب الاشتراكي المثقف الذي يشعر حتما بالعواقب الهائلة للفقر، وبدت هذه الطريقة السياسية كأنها البديل الأكثر ملائمة وفي هذا تقول «... كان هناك حدث عظيم دفعني وبصراحة إلى اعتناق الاشتراكية وبشكل حاسم، كان ذلك أثناء زيارتي لعائلة توماس ساريك في براغ عام 1906 الذي أصبح فيما بعد رئيس الجمهورية التشيكية، كان واحدا من صباحات الشتاء الكئيبة جدا حين رأيت رجلا عجوزا يبحث بيديه العاريتين عن شيء يأكله في برميل النفايات، يشهد الله أنني صادفت قبلا الكثير من البؤس، لكن تلك الأصابع العارية في النفايات المُتجلّدة كانت آخر حافز احتجت إليه، حينها شعرت بمهمتي الثانية ألا وهي محاربة الفقر، فمع لحظات اندلاع الحرب العالمية الأولى دعا العمال الاشتراكيون المتوجهون نحو الإصلاح إلى اجتماع مباشر أنشئوا معه مجموعات للعمل لإعادة السلام بأسرع وقت ممكن، حينها ساهمت في الاتحاد الأمريكي ضد التسلح وبدأت بالتالي مهمتي الثالثة كناشطة للسلام معادي أسعد صوالحة