أصبحت الظاهرة الحضرية تفرض نفسها اليوم بالمغرب، سواء من حيث الحجم الديموغرافي لسكان المدن أو من حيث عدد التجمعات الحضرية. غير أن أهمية الظاهرة الحضرية لا تعني بتاتا أن المغرب حديث التمدين، بل يصنف ضمن البلدان قديمة التحضر. فإذا كان الفينيقيون والقرطاجيون والرومان قد ساهموا في حركة التمدين بالمغرب، فإن السكان الأصليين للمغرب كان لهم الفضل في الدفع بالتطور الحضري. وإذا كانت للفتح الإسلامي انعكاسات إيجابية على تطور المدن، فإن الدول التي تعاقبت على حكم المغرب انتقلت بالظاهرة الحضرية إلى مستويات أرقى، وجعلت البلاد تتوفر في ما مضى على حواضر عالمية كبرى ذات إشعاع واسع. وسيتم التطرق إلى الظاهرة الحضرية ما قبل الفتح الإسلامي، انطلاقا من الحديث عن مختلف المساهمات التي كان لها تأثير واضح في حركة التمدين. وفي مرحلة ثانية سيعرض الكتاب للبدايات الأولى للتمدين الإسلامي بالمغرب. ثم سيقف عند تلك المساهمات البارزة للدولتين الموحدية والمرابطية، وفي الأخير سيتطرق إلى مرحلة التعثر الحضري الذي أصاب حركة التمدين وأدخل المدن المغربية في مرحلة سبات عميق. إن أهم مرجع يخبرنا عن هذه المساهمة هو نص رحلة حانون الذي يعتبر وثيقة تاريخية تحدثنا عن تفاصيل الرحلة الطوافية التي قام بها الملك القرطاجي حانون حوالي 520 ق.م. وقد كان الهدف الرئيسي منها تأسيس مراكز تجارية على الساحل الأطلسي للمغرب، كما تدل على ذلك الملاحظات المدونة عن مختلف مراحل السفر الاستكشافي. فقد جاء في هذا النص التاريخي أنه راق للقرطاجيين أن يدفعوا بحانون للإبحار إلى ما وراء أعمدة هرقل، وذلك لتأسيس مدن ليبية فنيقية (.J ,1967,p26BRIGNON). فبعد أن تجاوز حانون أعمدة هرقل هو ومن معه وأبحروا لمدة يومين أسسوا المدينة الأولى التي أخذت اسم ثيمياثريون التي يحيط بها سهل كبير. ويضيف كاتب النص أن حانون ومرافقيه بعد الإبحار جنوب تيمياتريون قاموا بتشييد مدن بجوار الشاطئ هي كاركون تايكوس Caricon Teichos وجيتا Gytte وعكرا Acra ومليتا Melittaوأرامبيس Arambys، هذا بالإضافة إلى الموقع المسمى بكيرني Cerné(نص رحلة حانون، المصطفى مولاي رشيد، م.س، ص14.(ROGET .R,1924, pp17-18 ويقول جيروم كاركوبينو عن هذه المواقع السبعة بأنها - باستثناء الأول والأخير ثيمياثريون وكيرني)- مستوطنات أشباح لا وجود لها، فبعد «قرن على رحلة حانون لم يتمكن البحارة الذين عبروا خلال رحلاتهم الساحل الأطلسي، من العثور سوى على موقعين من سبعة، فسولاكس –ومن خلال رحلته سنة 337 ق.م – لم يحدد سوى موقع ثيمياثريون قبل رأس سوليس، وكيرني ماوراء ذلك «(CARCOPINO. J , 1944,p83). وهذه المراكز التجارية التي أقامها حانون أو أعاد إحياءها لم يتمكن المؤرخون وعلماء الآثار من الاستدلال على مواقعها. ويرى ستيفان كزيل بأنه «يستحيل تحديد مواقع المستوطنات الخمس التي ذكرها حانون، بل والأكثر من ذلك، فإن الرحلة لا تشير إلى الوقت الذي تم قطعه للوصول إلى هذه الأماكن المختلفة وللذهاب من آخر مستعمرة، أرامبيس، عند نهر ليكسوس(...) «(GZELL.S, p 483). وقد سبق للمؤرخ بلينيوس الأقدم (23-79م) Pline l Ancienأن صرح بأن هذه المستوطنات لم يستدل عليها، حيث يقول «كتب القائد القرطاجي حانون مذكراته خلال أوجه ازدهار قرطاجة. وتلقى الأمر بالطواف حول إفريقيا. وقد نقل معظم المؤلفين الإغريق واللاتين المقتنعين بشهادته، من بين الأمور التي تقرب للأسطورة، أنه أسس العديد من المدن التي لم يبق لها أية ذكرى ولا أي أثر» (المصطفى مولاي رشيد، م.س، ص 46). وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل عن حقيقة مساهمة القرطاجيين في تطور الظاهرة الحضرية بالمغرب القديم. فحتى وإن سلمنا بصحة المعلومات الواردة في نص رحلة حانون، ووضعناه موضع ثقة ولم نشكك فيه، فإن الافتراض الذي يبلغنا به بلينيوس الأقدم يجعلنا نتساءل عن المستوطنات الواردة في هذا النص: فهل كانت مدنا تتوفر فيها جميع صفات المدينة الحقيقية؟ أم أنها كانت فقط عبارة عن مراكز مؤقتة مكونة من بضع منشآت لاستقبال السفن والبحارة القرطاجيين خلال رحلاتهم التجارية؟ فقد يقول قائل إن هذه المستوطنات لو كانت مدنا بما في الكلمة من معنى وتتوفر على جميع شروط الحاضرة الحقيقية لاستطاعت الصمود والاستمرار أو تركت على الأقل آثارا تدل على وجودها، وبالتالي تمكن المؤرخون القدماء الذين جاؤوا بعد حانون من الحديث عنها. ألا يمكن القول إن التغاضي عن ذكر ما قام به القرطاجيون من مجهودات في حركة التمدين بالمغرب يدخل ضمن توجهات القوى الموجودة شمال البحر الأبيض المتوسط المعادية لقرطاج؟ قد يكون المؤرخون الذين جاؤوا بعد حانون مدفوعين إلى تقزيم منجزات الفنيقيين والقرطاجيين بالمغرب خدمة لمصالح الإمبراطورية الرومانية وبغية إبرازها كحضارة منقذة أخرجت المغرب من حالة البداوة إلى حالة التمدن. وهذا يقودنا إلى القول إن كل حضارة قدمت إلى المغرب وأثرت فيه، تنزع إلى محو ما قامت به الحضارة التي سبقتها وتبني مجدها على أنقاضها. سعيد أكدال