كتاب «السياسة» أو «السياسات» كما يترجمه الأب أوغيسطنس بربارة البوليسي، والذي نقله من الأصل اليوناني إلى العربية، من بين أهم الكتب في علم السياسة، والتي تظل اليوم، الحاجة ماسة إليها، لتنير للطبقة السياسية والحكام في مختلف أنحاء العالم، طرق الحكم «الرشيد» كما يخط ذلك الفيلسوف اليوناني أرسطو، والذي جاء هذا الكتاب، الجامع المانع، ثمرة لدراسة شملت أكثر مائة وثمانية وخمسين دستورا مكنته من أن يعطي كتاب السياسة شمولية جعلته اليوم، واحدا من بين أهم المراجع التي يجري اعتمادها في مجالات تدبير أمور الدول وطرق بناء الأنظمة، أشملها وأعلاها شأنا النظم الديمقراطية بمختلف مراجعها. وإلى ذلك، فإن الطبقة السياسية العربية، والمغربية على وجه التخصيص، تحتاج إلى مثل هذه الكتب، عساها تفكر وتحلل وتتجاوز أعطابها وما يجرها إلى الخلف وتداوي نواقصها، إذا كان لها العقل والإرادة. ترجم كتاب «السياسات» أول ما ترجم عن النص اليوناني الأصلي، إلى العربية سنة 1957 بمبادرة ودعم من اللجنة الدولية لترجمة الروائع الإنسانية، التابعة لليونسكو في بيروت، وتكلف بإنجاز هذه المهمة الأب أوغيسطنس بربارة البوليسي، ومن الأسماء الكبيرة التي تشكلت منها هذه اللجنة العلمية، يمكن أن نذكر اسمين، الإسم الأول هو الدكتور أكرم البستاتي، المعروف بأبحاثه في التراث الثقافي العربي، والمستشرق الفرنسي جاك بيرك، المهووس بالثقافة العربية الإسلامية، وله إسهامات شاهدة على أثره الحميد. إضافة إلى الدكتور جميل صليبا وعبدالله المشنوق، وكان يرأس هذه اللجنة العلمية وقتها أحد كبار رجالات القانون الدكتور إدمون رباط، وكان نائبا عن حلب في الثلاثينيات من القرن الماضي. وهذه الترجمة مراجعة من طرف خبيرين وباحثين كبيرين، الأول هو الدكتور دنلوب من جامعة كمبريدج، والثاني هو الدكتور مصطفى الرافعي، وهو أحد الوجوه الثقافية والقانونية اللبنانية. تتصدر مقدمة الكتاب، مقولة لهيغل عن أرسطو، يقول فيها «إنما عد امرؤ مهذبا للبشرية، فذاك بلا مراء إنما هو أرسطو.. فإن ذهنه الثاقب قد نفذ إلى كل أرجاء الوجدان الإنساني، ولبث مدة أجيال طوال عمادا أوحد لازدهار الفكر». وفي مقدمة الترجمة لكتاب «السياسات» يقربنا المترجم من السياق العام الذي نشأ فيه أرسطو، على المستويات السياسية والثقافية، وكيف استطاع أرسطو أن يتدرج معرفيا وأن يدرك النضج، ليستطيع أن يساجل فيما بعد، ويقوض المذهب السوفسطائي الذي كان سائدا في تلك الفترة ومهيمنا على المنتج الفلسفي اليوناني. وهي تفاصيل مهمة، تضع القطار على سكته بالنسبة للباحث المتخصص في الفلسفة اليونانية، غير أن ما يهمنا في الكتاب، هو ما يحبل به من تعاليم ومن أفكار ومن توجيهات وإرشادات ومن تفكيك لبنية السلطة، لا تنسحب فقط على ذلك العصر، ولكن يمكن أن تصلح مفاتيح لتحليل بنيات السلطة، الآن، في العالم، وفي العالم العربي على وجه الدقة والاختصار، نظرا لسيادة أنظمة شمولية في أغلب النظم السياسية العربية، ولتزامن عرض بعض ما جاء في هذا الكتاب مع ربيع عربي متأرجح، كان هدفه المباشر تغيير بنية السلطة «المستبدة» وإحلال أخرى محلها أكثر ديمقراطية. ولكن قبل هذا وذاك، لا بد من فهم كيف تشتغل بنية السلطة، وكيف تتحرك، وما هو أصل نشوئها، وديمومتها، وكيف تنسج شبكات من المصالح والتحالفات من أجل البقاء والرسوخ. وأيضا ما هي الطبقات الأكثر عرضة للاستنزاف، وتلك التي على أهبة الاستعداد للتحول من موقع إلى آخر في لعبة شطرنج مثيرة ومشوقة. هذه من فضائل هذا الكتاب، الذي اخترنا منه فقرات للإضاءة على الحاضر، انطلاقا من نص قديم، بما أن الحاضر ليس إلا ابن الماضي وصنيعته.