- أستاذ محمد الولي، مرحبا بك في جريدة الاتحاد الاشتراكي. قرأنا عن جزء من سيرتك في كتاب الأستاذ العمري »»زمن الطلبة والعسكر».« لكن بداية نريد أن نسمع سيرتك العلمية بلسانك. طيب، في الحقيقة كان بعد التخرج من الإجازة كان الاصطدام الحقيقي والمباشر بالحداثة. وخلال إعدادي لأطروحة السلك الثالث، لاحظت أن هناك فقرا في الدرس الأدبي، يعود ذلك الى هيمنة ماسمي آنذاك بتاريخ الادب.حيث يعطيك الباحث شيئا من كل شيئ او نزرا يسيرا من كل شيئ. . وهذا الأمر فيه تبخيس للنص الأدبي، ولكن أيضا فيه تقاطع مع مجموعة من التخصصات: علم الاجتماع، التاريخ، الاقتصاد، السياسة.. إلخ .هذه التقاطعات مع هذه العلوم تشعر المرء بأن هناك اكتساحا غير مشروع على مجالات أخرى. في حين أن الموضوع الأساس هو النص. والنص يصبح في هذه الحالة مجرد ذريعة لشيء آخر. فالتساؤل الذي طرح علي وأنا أهيء اطروحة السلك الثالث، طرح عندي مشكلة ضرورة حصر الاهتمام في مجال يوفر لي الحق في الكلام ضمن هذه الدائرة أو المجال أو التخصص. ولكنني كنت أريد أن أتحدث عن هذا الموضوع وأنا أقدم حججا مرشحة للقبول، ثم أتحدث عن كائنات ملموسة لا كائنات مجردة، ضمن هذه الظاهرة. طبعا في هذا السياق يمكن أن نتحدث عن المقومات وأقصد هنا مقومات النص الأدبي، فنحن في الشعر نتحدث عن مقومات الاوزان، الإيقاع، النبر، عن المقومات الصوتية ،البيانية، الاستعارة، التشبيه، التمثيل، كما يمكن أن نتحدث عن التوازي أو ما يسميه جاكوبسون نحو الشعر، لأن للشعرنحوه الخاص. ويمكن أن نتحدث عن بناء النص ككل في علاقة بكل هذه المقومات. ويمكن أخيرا الخروج من هذه الظاهرة للربط بين النص وسياقه وجمهوره ومؤلفيه. هذه هي أهم العناصر المهيمنة في عملي وأنا مدرس في الثانوي أولا ثم في الجامعة. ولم نكن نشتغل آنذاك إلا في الثمانينات من القرن الماضي في جو مريح دائما، بسبب صعوبات الوجود الكثيف لمؤرخي الأدب في الجامعة والبلاغيين التقليديين والانطباعيين والكسالى. ولكن أيضا كنا نصطدم حتى مع الطلبة، أو مع بعضهم على الأقل ممن كانوا يتمتعون بالراحة والطمأنينة في أمور من قبيل حياته وشعره والفكرة الأساسية للنص، والأفكار الثانوية للنص وأشياء أخرى. ومع ذلك، ينبغي أن ننصف الذين رحبوا بهذا النوع من التفكير من الأساتذة والطلبة أيضا ومن القراء خارج الجامعة. فنحن لم نكن مجرد مدرسين، كانت لنا مشاركاتنا في الندوات وفي المجلات وفي نشر الكتب والدراسات. هذا الامر فرض علينا حسن الاستماع إلى ما يفد علينا من الغرب ومن الأجداد. في هذه الفترة كانت البنيوية سيدة الموقف. ولقد تحولت عندنا إلى ما يشبه العقيدة، ولكن من غريب الصدف أن هذا اللقاء بالفكر الغربي البنيوي خاصة قد جعلنا ننظر بعين الانصاف إلى الأجداد، فبدأنا نقرأ من جديد، وبنظارة جديدة، آثار البلاغين العرب والفلاسفة المسلمين، أو على الأقل ما حرروه من ترجمات لأرسطو في مجالي الشعر والخطابة. ولقد قدمنا في حدود إمكاناتنا آنذاك، وتمكننا من لغات أجنبية، من أن نقدم وجها آخر للبلاغة العربية. ولقد تناولنا ما كان يعتبر حقائق ثابتة في البلاغة العربية بالصقل والنقد والتهذيب.. فتجاوزنا بذلك هموم الشراح والناظمين والمرددين. في هذا السياق أيضا قدمنا منا صورة جديدة لما يسمى بلاغيي عصور الانحطاط أمثال السكاكي والقزويني والتفتزاني، ولكن أيضا لعملاقة البلاغة العربية، وعلى رأسهم جميعا البلاغي الفذ عبد القاهر الجرجاني وحازم القرطاجني. إذن، هذا اللقاء بين تراثين، العربي والغربي، جعلنا نبتعد شيئا ما عن التراث العربي، متخذين زاوية للنظر في التراث الغربي فيسمح لنا ذلك برؤية مختلفة للبلاغيين العرب، فنزيح الستار عن الأنوية الانسانية في هذا التراث. { هذا كان مدخلا، إن صح القول لترجمة كتاب »»جان كوهن»« »»بنية اللغة الشعرية»، اضافة إلى ترجمات أخرى. في هذا المناخ حيث نشعر بنوع من الضجر كان مهيمنا في الدرس الأدبي، وجدنا في الشعرية المعاصرة مستودعا نستمد منه الأدوات لمواجهة النص الأدبي، أو أدبية النص الأدبي بالأحرى،وأدوات لمواجهة اللغة الواصفة السائدة عندنا آنذاك ووجدنا فيها أيضا ما يجعلنا نتعامل مع كائنات ملموسة في النص الأدبي. وجعلنا نشعر بأننا نخلص لمهنتنا وواجباتنا أمام الطلبة خاصة، إذن هذا يعني أننا كنا في اتصال مباشر مع الثقافة الفرنسية، وما أنتجته من روائع في علم الشعر. في هذا السياق كان كتاب جان كوهين »»بنية اللغة الشعرية» يوفر لنا الكثير من الأدوات. ولقد كان من الصدف السعيدة، ونحن آنذاك في فاس، أن التقيت بالصديق العزيز الأستاذ محمد العمري، في شبه صدفة في إحدى الادارات بفاس .وبما أنني كنت أعرفه شخصيا ونحن طلبة في فاس، فقد تجاذبنا أطراف الحديث في نفس الإدارة ونحن ننتظر سحب وثيقة. وأخذنا نتحدث في أمور الشعرية. وفجأة انجذبنا للحديث عن الشعرية البنيوية، وكان حديثا مقتضبا في ذلك اليوم الذي لا ننسى. إلا أننا ضربنا موعدا للقاء في إحدى مقاهي فاس. التقينا بالفعل في هذا الموعد المرتب لأنني كنت آنذاك أشتغل في مكناس وهو في فاس. إذن التقينا في المقهى. وبعد التشاكي مما آلت إليه أمور البحث في الجامعة، انصرفنا للحديث عن أمور الشعرية المعاصرة. وبالصدفة التقينا للحديث عن «بنية اللغة الشعرية.» و لقد صادف الكتاب هوى في قلبنا فاتفقنا على الشروع في ترجمة أحد فصوله. ومن جميل الصدف أيضا أننا في ذلك الوقت كنا قد ألفنا مجموعة من الباحثين تضم إلينا نحن الاثنين الأصدقاء الدكاترة: حميد الحميداني، محمد أوراغ ومبارك حنون. كنا نلتقي بشكل منتظم في منزل أحدنا في كل مرة، فيلقي أحدنا عرضا في موضوع من الموضوعات: البلاغة العربية والبلاغة الغربية والنقد الأدبي والسرديات واللسانيات... ولقد كانت العروض تختم بمناقشات وتدخلات وأحيانا حادة. وبعيدا عن أي مجاملة كان هناك نوع من حب المعرفة وفحص المفاهيم وتدقيقها،يتخطى في بعض الأحيان مجرد التعامل بمفاهيم جافة، كان هناك بالاضافة في هذا، نوع من الإيمان العاطفي بما نقول ونفعل. هكذا كنا نشتغل. كانت تلك المجموعة أشبه ما تكون بجماعة السوفسطائيين أو الشكلانيين الروس، أو الرومانسيين الألمان، مع احترام الفوارق الموجودة بطبيعة الحال. في هذا السياق ولدت ترجمة كتاب «»بنية اللغة الشعرية»«، بعد ترجمة فصل منه، ونشره في مجلة «»دراسات أدبية««، التي كان يديرها الزميل الأستاذ محمد العمري. ولقد أثار ذلك الفصل المنشور ردود فعل. فقد تعرض لنقد لم يكن في عمومه يحترم ضوابط الفكر. إلا أن تلك المبالغات في ذلك النقد كانت مفيدة جدا في مزيد من الضبط والتدقيق. مازلت أتذكر كيف كنا نشتغل، الاستاذ العمري وأنا، في مراجعة النص. ولقد كانت المراجعة بيننا والنقد المتبادل قاسيا وفي بعض الأحيان مؤلما، ومع ذلك أستعرض الآن هذه الذكريات بكثير من الفخر والاعتزاز. وأتذكر أيضا كيف أن الأستاذ العمري يشتغل وأنا معه كآلة لا تتعب. بحيث إننا قد صرفنا الأسابيع كلها عمل، صباح مساء. وطبعا، كانت لنا واجهة أخرى للمناقشة. كانت أيضا قاسية، وهي مراجعات واقتراحات دار توبقال للنشر التي وافقت على نشر الكتاب. ولقد كان ذلك النقاش كله مثمرا حتى في الحالات التي كنا نرى أن الناشر لم يكن دائما على حق. { حدثنا بالتفصيل عن ظروف ترجمة «»بنية اللغة الشعرية«« علما أنه كان مترجما وصادرا في مصر. حينما انتهينا من ترجمة «بنية اللغة الشعرية» وسلمناه لدار توبقال قصد النشر، علمنا بأن الكتاب منشور في مصر، بترجمة الأستاذ أحمد درويش. وقد سبب لنا ذلك بعض الاضطراب. وألححنا بعد إخبار الناشر دار توبقال على ضرورة الاطلاع على هذه الترجمة المصرية. وبعد الاطلاع وإعداد تقرير جد مفصل عن هذه الترجمة، تأكد لنا أن الترجمة المصرية لم تكن تستوفي الشروط الدنيا لترجمة مقبولة، ولقد امتنع الناشر المغربي امتناعا كليا عن الخوض ضمن تقديمنا للكتاب في نقاش بشأن الترجمة المصرية،وبالفعل نشر ترجمتنا. ولقيت من الترحاب ما لقيت.. ولقد كانت موضوع بحث أنجزه الباحث ذاكر عبد النبي في كلية الاداب بالرباط، تحت إشراف الاستاذ سعيد علوش. ولعل اهم الملاحظات المتعلقة بالترجمة المصرية عدم المام الاستاذ احمد درويش باللغة الفرنسية، بحيث انه وقع في اخطاء لا تليق بباحث من هذا العيار. { استاذ محمد الولي، ترجمتم اخيرا كتاب آخر لجان كوهن هو «الكلام السامي» عن دار الكتاب الجديد. و قد ترجمه ايضا المترجم المصري احمد درويش .وقد صدر تحت عنوان «اللغة العليا.» إن ما لاحظناه من اخطاء في اللغة الطبيعية، وفي اللغة الواصفة عند الاستاذ درويش، شيء فوق انه لا يلقي يبدد المحتوى العلمي للكتابين. ولنشر الى بعض الامثلة فقط. فهو يضع مقابل كلمة estethique الاحصاء. مقابل sofistique الصوفي ومقابل la seine الشبكة و Nue انف و mirage يضع له تزاوج و paradoxale بسيطة و laboratoire معمل و tabac الطباق haut bois الغابات العالية و douleur غضب igualioوهو اسم علم: غبي و infame مجاعة. وما يقال عن اللغة الطبيعية يمكن تعميمه على المصطلحات والمفاهيم بحيث انه يضع مقابل Encyclopedie المعجم، والصحيح هو المعارف. ويضع مقابل partie du discours شريحة الخطاب وAnomalie semantic الخروج السمنتيكي وProcede invariant اساليب متشابهة. ومن المصطلحات المركزية في الكتاب نجد pathetique الذي وضع له مقابل المؤثر. والاصح هو الوجداني. هذا المصطلح او المفهوم هو اساس الكتاب. اذ إن كوهن يعتبر الشعر والادب عامة يعبر عن معنى وجداني. ويتعارض هذا المفهوم المصطلح الاساس عند كوهن مع noetique والمقصود المحتوى المفهومي. ولقد تعرض هذا المفهوم شأن سابقة لترجمة زائفة إذ تخطى هذا لكي «يصحح» الكلمة الفرنسية متوهما ان هناك خطأ مطبعيا، فوضع مكانه poetique فجاز له بذلك ان يترجم sens noetique بالمعني الشعري. فالمقصود ب sens noetique المعنى المفهومي او النثري او التقريري. وليس هذا هو موضوع الشعر عند كوهن بل «المعني الوجداني» sens Pathetique وتعرضت مصطلحات اخرى لنفس التشويه. فوضع مقابل extention وهو مصطلح منطقي يقابله في العربية «الماصدق»، فوضع له مقابل «امتداد» ولو وضع «المرجع» لهان الخطب. { عملت لسنوات في «المعهد الملكي للثقافة الامازيغية» وغادرت المعهد كيف؟ لماذا؟ لالتحاقي بالمعهد قصة، لابد من توضيحها. المعهد مؤسسة وطنية من حق اي باحث ان يطلب العمل فيها اذ توفرت الاهلية ولقد رأيت في لحظة معينة ان اتقدم بطلب الانضمام على احد مراكزه. فقبل طلبي. وهذا فيه تغيير لمساري الجامعي اذ ينبغي ان انتقل للبحث في الامازيغيات. او في واحدة من الامازيغيات. اننني اتذكر الان ما انجزته هناك من اعمال وهي في اغلبها غير منشورة، اخص بالذكر ترجمة «حكايات بربرية» كما سماها «ايميل لاوست». وهي ترجمة من الامازيغية الى العربية، باعتماد النصين الامازيغي والترجمة الفرنسية. وترجمة الى العربية دائما لابحاث «العسكري» «ايميليوبلانكو ايثاغا» حول النظام القبلي في الريف. واعمال اخرى لا يسمح المقام بالتفصيل فيها. الا انني قد قررت ان اغادر المعهد في اطار المغادرة الطوعية في نهايات 2005 لاسباب تتعلق بعدم ضبط التخصص في المعهد. و عدم احترام هذه الحدود واحيانا بسبب ترابطات متنافرة بين الهموم العلمية التقنية والهموم الايديولوجية. ان لكل تخصص مكانه الذي لا ينبغي ان يتعداه.. ولم يكن الباحثون في المعهد، والمسؤولون في المراكز يحترمون دائما هذه الحدود. إن عشقي للغة الامازيغية، وهي لغة امي، لن اسمح له اطلاقا بان يكون سببا في المسب بلغة تكويني ودراستي وتدريسي وعشقي التي هي العربية. { يتذكر المهتمون بالشأن الامازيغي دراستك «في نقد الخطاب الامازيغي» المنشورة في مجلة الاداب البيروتية، وفي مجلة علامات المغربية لقد نشرت المقالة في المجلتين المذكورتين، و لقد بسطت فيها رأيي في العلاقات الوشيجة بين العربية والامازيغية وهي علاقة طبيعية بين اللغات. وان اية لغة حاولت تفادي هذه العلاقة سيكون مصيرها هو الموت. كما بسطت رأيي في ما يتعلق بشرعية الدفاع عن الامازيغية وهذا مطلب نبيل لا ينبغي تلطيخه بمد اليد الى لغة أخرى، اية لغة، ولو كانت هي العربية. لا يمكن نهائيا، علميا واخلاقيا، الدفاع عن لغة بصفع لغة أخرى. هذا مبدأ كوني. فلو فعل الالمان هذا بلغتهم، وهم المعروفون بتشددهم القومي، فابعد من معجمهم ما يحتضنه من كلمات اللغات الاوروبية وحدها، لانتهت الالمانية بالانتحار. نقطة أخيرة ضمن هذه الدراسة تنبيه ان المعضلة الاساسية بالنسبة الي في المغرب الان هي المعضلة الاجتماعية، فانا حينما أخترق الاطلس فأجد مناطق تنعدم فيها الشروط الحضارية الدنيا المؤمنة للحياة الكريمة، سيكون من السخرية بادمية الامازيغ في هذه المنطقة، مطالبتهم وهم يعيشون في فقر مدقع بادخال المعضلة الاجتماعية الى الظل ووضع الاشكالية اللغوية والثقافية في الواجهة. { سي محمد الولي، ماجديدك على مستوى الابحاث والترجمات؟ اشتغل حاليا في ترجمة واحدة ما تحف النظرية الحجاجية، يتعلق الامر traite l'argumentation واعتبر مؤلفه شاييم بيرلمان الاب الروحي للنظرية الحجاجية المعاصرة. فبعد خطابة ارسطو والطوبيقا نجد مصنف الحجاج، وحاليا، يوجد عند الناشر «دار الكتاب» ترجمة «الاستعارة الحية» لبول ريكور، وهو كتاب يستعرض استعراضا نقديا اهم النظريات في الاستعارة. ولقد نشرت ترجمة للكتاب الثاني لجان كوهن «الكلام السامي»، وقد ينزل الى السوق المغربية قريبا، وبدون شك سيكون حاضرا في معرض الكتاب المقبل. والكتاب يكمل او يتمم بنية اللغة الشعرية. اذ انه يوسع الاهتمام فيشمل، بالاضافة الى الشعر، اجناسا اخرى في الخطاب كالسرد مثلا. ولكنه يشمل ايضا ما يتخطى الممارسة اللغوية، فيتطرق الى ما يجعل من الشيء الجميل شيئا جميلا مثل مشاهدة البحر والقمر وسط السماء. الخ ولقد أعاد جان كوهن الاعتبار للاطروحة الرومانسية باعتبار الشعر والادب تعبيرا عن الوجدان.