بدأ النقد مع وجود الإنسان ,الذي أعطى أحكاما لكل ما يحيط به , و لما كان الشعر محور حياة العرب في الجاهلية فقد اهتموا بنقده كما اهتموا بنظمه, فعقدت مواسم و أسواق خاصة بالتحكيم و الحكم على القصائد المختلفة القادمة من بطون أحياء العرب و قبائلهم, حتى حكم على القصائد بأحكام الاستحسان أو الامتعاض ,و ظهرت منها القصائد المستَحسَنة ك : اليتيمة- المنصفة - المسمّطة- المنقحات- المحكّكات- المقلّدات- الحوليات ...و بعد مجيء نور الإسلام ,و إن قيل بوهن الشعر فلم يقل بوهن نقده, إذ الوهن أصلا حكم نقدي لهذا الشعر, و قد تطور النقد خلال القرون الأربعة الأولى ,فهذا ابن سلام الجمحي يضع كتابه «طبقات فحول الشعراء» وثعلب يضع كتاب «قواعد الشعر» والمبرد يضع «الكامل» والجاحظ واحد من الأعلام الكبار في القرن الثالث الهجري فكان يوفّق بين القديم والجديد في نظراته النقدية خاصة في نقد الشعر، ومن المحاولات النقدية في هذا القرن كتاب «الشعر والشعراء» لابن قتيبة, أما في القرن الرابع الهجري فنشأت اتجاهات نقدية مهمة تأثرت من جهة بكتابات علماء الكلام و مناهجهم و من جهة أخرى بكتابي أرسطو «الشعر» و«الخطابة» ، فكتب ابن طباطبا «عيار الشعر» وكتب الآمدي «الموازنة»، والنقد الذي أظهر تأثراً بالثقافة اليونانية كان عند قدامة بن جعفر والفارابي والتوحيدي والعسكري وعبد القاهر الجرجاني وحازم القرطاجني ووضع القاضي الجرجاني كتاب «الوساطة» الذي يعد آخر كتاب نقدي منهجي في الحركة الشديدة حول المتنبي وكانت فكرة «الإعجاز» من الاتجاهات النقدية الواضحة في القرن الثالث الهجري وكذلك فكرة «عمود الشعر» وفكرة «النظم»...و هكذا تطور النقد كما و كيفا عبر القرون الخمس الأولى للهجرة مما أعطى زخما معرفيا قل نظيره في حضارة من الحضارات من حيث عمق تناول الظاهرة النقدية التي لم تدرس بالطريقة اللائقة من طرف أساتذة اليوم المنبهرين بشمس الغرب, وهم الذين لم ينهوا بعد تراثهم دراسة و تمحيصا و سبرا. كلما طلع علينا دارس للنقد القديم إلا و يلوح في وجوهنا بسيف الانطباعية و الذوقية التي خيمت على النقد العربي الأول, و حتى إذا تمكن من زرع الحكم في قلوبنا قبل عقولنا يعاود ليلوح لنا بالنقد الأخلاقي ليزرعه مرة أخرى في القلوب و العقول, لكن هل فعلا كان النقد العربي القديم نقدا انطباعيا ذوقيا فأخلاقيا؟؟؟ إن من يقرا التراث النقدي العربي, سواء في العصر الجاهلي أو في القرون الخمسة الأولى, إلا و تظهر له بشائر الانطباعية و الذوقية فالأخلاقية, و ذلك لأسباب عديدة منها: · المصطلحات المستخدمة في النقد و التي غالبا ما ترتبط بمصطلحات ذات أحكام ذاتية غير مؤسسة. · الدراسات الحديثة التي قيدت وعي الدارس و ووجهته نحو الحكم بالانطباعية حتى لم يعد قادرا على توجيه أسئلة جديدة للنص النقدي غير الأسئلة القديمة فلقي نفس الإجابات المتداولة. · انقطاع الصلة بين المصطلحات النقدية القديمة و نظيرتها الحديثة و الاستلاب الفكري للدارس الذي جعل من الدراسات الغربية مرجعا لا مناص عنه في فهم العالم. · ضياع التراث النقدي و الفكري القديم في كثير من مفاصله التي تقيم علاقة بين الموجود الآن من كتب و بين المنهج المتبع في كتابتها و كتابة مادتها, فتجد كتابا مكملا لآخر غير موجود أو غير موجود الكتاب المكمل له فتضيع الحلقة العلمية. · ضعف الاهتمام بالنقد العربي القديم و قلة البحث العلمي و حتى الدراسات المقدمة هي إعادة لمواضيع قتلت بحثا و لم تعد تقدم جديدا يذكر في هذا المجال. · عدم استعداد الدارس العربي لتقبل الوصل مع الماضي لما يمثل لديه من ماضوية و سلفية عززت لديه أنها لا تكرس إلا التخلف و الرجعية... إن الحكم على النقد العربي القديم بالانطباعية و الذوقية و الأخلاقية, لهو حكم بدوره يحمل الكثير من الانطباعية بل من الاعتباطية, إذ كيف للدارس في العصر الحديث بما تخوله المناهج الحديثة و الوسائل المتاحة أن يرضى بالإجابات المقدمة من طرف أسلافه المحدثين, دون أن يكلف نفسه عناء مساءلة النصوص من جديد ,و محاولة البحث عن إجابات جديدة ربما تقلب التصور القديم رأسا على عقب ,فتحيل الحقائق سراب تولد من الاستلاب الفكري الذي عاشه العربي خلال القرون الثلاثة الفائتة و لا يزال البعض يحاول تكريسه و عيشه إلى الآن في عصر الكفر بكل المسلمات حتى الصحيحة منها و المقبولة. لا احد ينكر أن الشعر العربي القديم في العصر الجاهلي خصوصا و في القرون الأولى للإسلام عرف تقدما كبيرا و تطورا منقطع النظير ,قل أن تعرفه تجربة أدبية, لكن هذا الشعر لم يصلنا منه إلا المتطور و النامي , فهل ولد هذا الشعر كذلك بهذه الدرجة من التقدم و النمو؟؟ طبعا لا , إذ لا بد أن هذا الشعر قد سبقته تعثرات و سقطات و محاولات تطورت مع الزمن ,إلى أن وصلت إلى الإتقان الذي وصلته في العصور التي وصلتنا منها المدونة الشعرية التي بين أيدينا, هذا التطور الذي لا بد أنه استغرق قرونا ليصل إلى النضج الذي رصده المتلقي له الآن و في كل زمان, السؤال المطروح الآن هو كيف تطور هذا الشعر؟ لقد اقترح الباحثون مسألة ارتباط الشعر بالدين, فهو كمادة عبادة كان حريا به أن يتطور للعناية و القدسية التي أحيطت به, لكن هل يكفي ارتباط نتاج أدبي بالدين و العبادة ليتطور؟ أليس هناك العديد من الديانات المنتشرة أكثر من وثنية العرب و لم تطور الأدب المرتبط بها ؟ فالتراتيل البوذية و الهندوسية و حتى المسيحية لم تجد لا انتشار و لا تطور الشعر العربي, و بغض النظر عن هذا العامل أو ذاك ,فلا بد أن ما طور التجربة الشعرية العربية هو عدم قبول السيئ منها من طرف الجمهور المتلقي و عدم القبول هذا لا بد انه ارتبط بأحكام قيمة تطورت إلى أحكام نقدية مواكبة لتطور الشعر, إذن فالنقد واكب التجربة الشعرية و سار معها بشكل متوازي, فهل تطور الشعر دون أن يتطور عامل تطويره الذي رافقه الذي هو النقد؟؟ لاشك أن شعرا متطورا كالشعر العربي واكبه تطور في نقده إذ الواحد منهما يغذي الآخر و يسهم في تطوره و إنضاجه, و بالتالي من المعيب أن نحكم على طرفين في نفس المعادلة أو المتساوية بتميز الواحد دون الآخر, فمن أين يأتي إذن الحكم على النقد العربي بالتقهقر و التخلف؟؟ إن هذا الحكم أتى فقط من جهة واحدة و لا شك, هي المصطلح النقدي المستخدم, إذ أن النقاد العرب استخدموا مصطلحات تبدوا في ظاهرها مصطلحات توحي بالانطباعية و الذوقية و الأخلاقية لكنها في الحقيقة تحمل حمولات معرفية نقدية مختلفة تماما عن حمولاتها المعرفية المتداولة في اللغة الاعتيادية ,وهذا الأمر يخص مرحلة الجاهلية بنفس القدر الذي يخص به مرحلة القرون الأولى من الإسلام ,و إن كانت هذه العقود قد عرفت تدوينا كبيرا, إلا أن ضياع عدد كبير من المصنفات ساهم في إحالة الوضع إلى ما هو عليه العصر الجاهلي ,و انك تجد الآن إشارات و إلماعات في الكتب النقدية المتواجدة بين أيدينا لمعارف لا نعرفها قد تكون تواجدت في كتب قبلها ,و لعل كتب المعتزلة و غيرهم التي وجدت آثارها أو كلها في بلدان عدة دليل على ضرورة مراجعة التراث النقدي و تفقد ما ضاع منه من خلال الموجود و من خلال المخطوطات التي تحتفظ بها أسر عربية و غربية سواء علمت قيمتها العلمية و هو القليل أو لم تعرفها و هو الأمر الشائع ومن خلال التنقيب في المصنفات الموجودة و قراءة ما بين سطورها و توقع المعارف الضائعة, ولعلنا نأمل بوجود مخطوط يقلب تصورنا حول النقد ليرشدنا إلى معاني المصطلحات النقدية الغربية القديمة كما أرشد حجر رشيد العلماء إلى معاني اللغة الهيروغليفية.. لقد كان المجتمع الإسلامي مجتمع الأخلاق, و كان يقصي كل من سولت له نفسه كسر المنظومة الأخلاقية التي ساهمت بشكل كبير في تطور هذا المجتمع و بناء حضارته التي أنارت العالم شرقا و غربا, فكيف سمح هذا المجتمع بمنظومته السياسية و الاجتماعية و الفكرية ببروز أشعار و شعراء يبدو شعرهم منحطا أخلاقيا من وجهة نظر جل النقاد؟؟؟ إن الانحطاط الأخلاقي الذي حكم به النقاد على تجارب شعرية بصمت التاريخ العربي إنما هو حكم من عنديتنا نحن القارئون للنقد العربي القديم و لم يكن للنقاد القدماء ناقة و لا جمل في هذا الحكم , إذ ما تبدى لنا انه حكم أخلاقي إنما هو تشابه مصطلحي قصد به النقاد شيئا و فهمناه بحدود ما تخوله لنا اللغة الاعتيادية المتداولة الآن و في الكتب غير النقدية القديمة, في الوقت الذي نحن فيه أمام مادة لها لغتها الخاصة التي لا تشبه اللغة المتداولة سواء في عصرنا أو في العصور السابقة. إن الدارس للمصطلح النقدي الحديث يجد التباعد الكبير بين منطوق المصطلح النقدي في اللغة النقدية و بين منطوقه في اللغة الاعتيادية أو في منظومة مصطلحية خارج المجال النقدي, و الكل مسلم بهذا و متقبل له ,و بالمقابل يصف بالجهل كل من تداخلت عنده المصطلحات بين معناها النقدي و معناها في المجالات الأخرى, لكن في المقابل لا يصف أحد نفسه بالجهل حينما يقرأ لغة نقدية بمصطلحات نقدية و يتمثل معنى هاته المصطلحات كما تعود عليها في حقول أخرى. إن النقد العربي الذي استمد قوته من قوة الشعر الجاهلي المبدع و من قوة الشعر الإسلامي المتمكن و من التراث اليوناني و الروماني و من فحول النقاد و الشعراء و الأدباء و علماء الكلام..لا يمكن أبدا أن يتهم بالانطباعية و الذوقية و الأخلاقية, انه أكثر تفتحا من عقولنا اليوم الذي حكمت على الشعر القديم بالمنطق الأخلاقي في تناول النقد لها حينما لم تقصه و لم تقلل من شأنه و ما وصوله اليوم بين أيدينا إلا نتاج التمييز بين اللغة الشعرية و النقدية من جهة و بين اللغة الإعتداية من جهة أخرى ,و هو الأمر الذي لم نستطع تفهمه لتقديسنا للأحكام الجاهزة و المتوارثة ,و لعدم قدرتنا على فتح متون الكتب و البحث و التنقيب عن المعاني الحقيقية للمصطلحات النقدية التي ميزت النقد القديم ,بدل أن نحكم عليها بعقليتنا الأحادية التفكير و المنغلقة و إن وصفناها نرجسية منا بالمتفتحة. ان المقال الذي بين أيدينا ما هو إلا همسة في أذن الباحثين و الدارسين لفتح صفحة جديدة للبحث و التنقيب في المصطلح النقدي القديم الذي سيعيد قراءتنا للتراث رأسا على عقب ,و سيسهم في تخليصنا من الاستلاب الفكري و سيمد صلتنا بتراث متقدم يمكن أن تنهل منه منظومتنا النقدية اليوم و تتكامل مع ما ننهله من الغرب الذي و إن بدا محكم البناء و التنظير إلا انه لن يكفينا لمقاربة نصوصنا, بل و سنتفاجأ بتقدم التراث القديم و سبقه في استشراف المناهج النقدية الحديثة, و إن كان الموضوع صعب التناول لقلة المصادر و ضياع المعطيات و قوة البصمة التي أحدتها الاستلاب الفكري فينا , إلا أن الوقت قد حان لفتح ملفاتنا و محاولة بناء نظرية أدبية عربية كفيلة بتأطير الحاضر و مد الجسور بين الماضي التليد و الحاضر المريض لإصلاحه و استخلاص البلسم الشافي للحالة المرضية التي يتخبط فيها نقدنا الحديث الذي لم يفلح حتى في توحيد ترجمتنا للمصطلحات النقدية الغربية فما بالك ان يبني نظرية نقدية قادرة على التعاطي مع النصوص. ان وضعية دراسة المصطلح النقدي العربي اليوم لتشعر بالإحباط, و بالمقابل نتبجح بإصدار أحكام القيمة على النقاد القدامى تهكما و انتقاصا من جهودهم و تبخيسا لعملهم ,و نحن الذين لم نكلف أنفسنا عناء فهم مصطلحاتهم التي هي مفاتيح كلامهم, إذ ظل الحديث عن النقد العربي القديم لا يخرج من إطار التأريخ و إبراز سطحي لعوامل النشأة و التطور, و إثارة قضايا محورية فيه لا تقارب المسألة بعموميتها, و التركيز على فترات بعينها دون فهم مفاتيحها المصطلحية اللازمة لفهم المنهج المتبع ,و التي تعتبر عتبة فارقة في فهم النص النقدي, و حتى إن حدث أن التفت احدهم إلى المصطلح النقدي ,فهو لا يعدوا أن يكون حديثا مارا عابرا ,و إشارات طفيفة لا تسمن و لا تغني من جوع, كما فعل الأستاذ محمد منظور في كتابه" النقد المنهجي عند العرب" و إحسان عباس في " تاريخ النقد الأدبي عند العرب" و حتى لما كتب الأستاذ عبد الرزاق جعنيد كتابه " المصطلح النقدي" فهو لم يتجاوز الأحكام المسبقة عن النقد ,و التي اشرنا لها في كلامنا سابقا, و حتى مع الدراسات المتقدمة للعبقري الشاهد البوشيخي و الأستاذ إدريس النقوري و الأستاذ أحمد مطلوب التي أخرجت المصطلح النقدي من بكريته و خاميته إلى التصنيع الفكري و التساؤل النقدي, قلت حتى هذه الإلماعات المتقدمة لم يستفد منها الباحثون لطرح التساؤل الذي يهدم أطروحة الانطباعية و يقيم أسس بنيان العلمية, أو على الأقل, يساءل حقيقة هذه الانطباعية التي توارثناها من غزو الفحول من العرب المستغربين الذين سيطروا على ثقافتنا العربية هم و نظراءهم من الغرب المستشرقين. إن البحث العلمي مرتبط بالمجتمع و مادمنا نعيش تخلفا على كل المستويات فمن المستبعد أن يخوض هذا المخاض الثوري احد, لكن كيف يكون المفكر مفكرا إذا لم يستشرف معارف سابقة لعصره, و أتمنى أن يكون هذا المقال المتواضع فاتح شهية فيتاميني للكبار من الدارسين لتسجيل اسمهم في التاريخ ,عل المستقبل يخبئ لنا ما يقلب تصورات الحاضر و يرد الاعتبار للنقاد القدامى بما ينفعنا اليوم في فهم أنفسنا و تراثنا ثقافتنا التي تعتبر المنطلق الوحيد لبناء حاضر صلب على أساس متين.