كان العز بن عبد السلام عالما جليلا ولم يلقب عبثا بسلطان العلماء، فقد كان سلطانهم على الحقيقة، إليه تنتهي رياسة الفتيا في مصر ودمشق. والعز مغربي الأصل ولد بدمشق وولي بها الخطبة بالجامع الأموي على عهد المالك الصالح إسماعيل من بني أيوب. وللعز مواقف مشهودة مع ملوك عصره، فقد عاش في فترة احتد فيها التنافس على السلطة وانشغل كل أمير بتقوية نفوذه، فجعل بعض الأمراء يستميلون العامة بإباحة الخمر ودور المجون وجعل بعضهم الآخر يستميل الصليبيين لمؤازرته في حروبه ضد إخوانه وانفرط عقد المسلمين. في ظل هذا الوضع المتردي سيلمع نجم العز كعالم عامل يضطلع بواجبه على أكمل وجه، فقد كان همه أن يوحد صف المسلمين، خاصة بعد أن جرف التيار المغولي بغداد وهدم عاصمة الخلافة الإسلامية. وقد لعب العز بن عبد السلام دورا مهما في توحيد المماليك تحت راية سيف الدين قطز. كما لعب دورا مهما أيضا في محاربة مظاهر المجون بمصر أيام إقامته بها. يذكر المؤرخون أن نجم الدين أيوب أحسن استقبال العز حين وفد عليه وأسند إليه مناصب رفيعة في الدولة. لكن ذلك لم يمنع العز من الوقوف في وجه موكبه والصراخ في وجهه أمام الملأ قائلا : يا أيوب ما حجتك عند الله عز وجل غدا إذا قال لك ألم أبوئك ملك مصر فأبحت الخمور؟ فما كان من الملك إلا أن أبطلها. وكذلك كان شأنه مع المماليك، فقد انتقد مسلكهم وكان شديدا عليهم حتى همّ بعض سفهائهم بقتله، لكن ذلك لم يثنه عن أداء رسالته. وكان من طبعه إن منعوه من أداء واجبه في القضاء أو الخطابة أن يترك منصبه دون تردد، وقد حدث مرة أن خرج من مصر غضبا للحق فتبعه العلماء وتبعته الرعية على حد سواء حتى إن بعض خاصة السلطان الصالح أيوب حذروه من أنه لن يبقى في دولته أحد إن خرج منها العز بن عبد السلام . ذاك هو العز رجل لا تأخذه في قول الحق والصدع به لومة لائم، حريصا كان على وحدة صف المسلمين، ساعيا في رد المظالم إلى أهلها، وقد ابتلي في دمشق ابتلاء شديدا، إذ أن الصالح إسماعيل حاكم دمشق كان يسعى إلى استمالة الصليبيين لقتال الصالح أيوب بمصر وفي هذا يقول راغب السرجاني في كتابه «قصة التتار» كان الصالح إسماعيل حاكم دمشق من طينة أخرى، فقد كان خائنا لدينه وشعبه فتحالف مع الصليبيين لحرب أخيه نجم الدين أيوب في مصر، وكان من شروط تحالفه معهم أن يعطي لهم مدينتي صيدا والشقيف، وأن يسمح لهم بشراء السلاح من دمشق، وأن يخرج معهم في جيش واحد لغزو مصر. وقد ثار عليه العز واشتد عليه في خطبه وأعلن صراحة أن الصالح إسماعيل لا يملك مدن المسلمين ملكا شخصيا ليتنازل عنها، فما كان من الملك إلا أن عزله عن القضاء ومنعه من الخطابة، ثم زج به في السجن، فاضطربت دمشق لحبسه اضطرابا فأخرجه ومنعه من التدريس والخطابة بعد ذلك، فغادر العز دمشق نحو بيت المقدس فأرسل في أثره من يخبره بأن الملك مستعد ليعيده إلى منصبه شريطة أن يقبل عليه وأن يقبل يده، فضحك العز وقال قولته الشهيرة : «والله ما أرضى أن يقبل الملك الصالح إسماعيل يدي فضلا عن أن أقبل يده. يا قوم أنا في واد وأنتم في واد آخر. الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به». فما كان من الملك إلا أن أمر بحبسه مجددا وظل في محبسه إلى أن وصلت الجيوش المصرية فحررته. ومن القصص المؤثرة التي حدثت أثناء سجنه أن الصالح إسماعيل عقد اجتماعا مع أعداء أمته للتآمر على إخوانه فسمعوا العز يتلو القرآن، فقال الصالح إسماعيل بفخر: «هل تسمعون هذا الذي يقرأ؟ إنه أكبر علماء المسلمين سجناه لأنه اعترض على تحالفنا معكم، وألب علينا الناس حين سلمناكم بعض الحصون واتفقنا معكم على قتال المصريين فردوا عليه: لو كان عندنا رجل بهذا الإخلاص لأمته وبهذه الشجاعة لكنا غسلنا رجليه وشربنا الماء الذي غسلناها به. لم يلبث مُلك الصالح إسماعيل إلا وقتا يسيرا حتى تهاوى. وأما العز فقد كان له شأن عظيم ودور جليل في نصر معركة «عين جالوت»، التي وضعت حدا لهيمنة التتار على المشرق الإسلامي. يوسف الحلوي