الديمقراطية ليست حلا سحريا للمشاكل المطروحة ولا ابنة اللحظة الآنية فإنها إرث من التعددية والاعتراف بالآخر من الصعب الفصل بين استراتيجية النضال الديمقراطي وحركة حقوق الإنسان المعاصرة، فالفكرتان مترابطتان وقد لعبت فكرة الحقوق الإنسانية لبناء الكرامة كفلسفة وصبغة دورا كبيرا ومركزيا في الخطاب السياسي المعاصر للديمقراطية، فالنظام الديمقراطي المؤسساتي يعتبر خير حامٍ لحقوق الناس، وأقوى راع لحرياتهم وحرماتهم. وهذه الأخيرة هي التربة الخصبة التي تنمو فيها الديمقراطية وتعزز في سياقها الحريات. إن الديمقراطية وحقوق الإنسان بهذا المعنى تعتبران حاجة وجود أساسية لبناء مجتمعنا المعاصر اليوم، فبدون العمل على تكريسهما متلازمين لن نستطيع تحقيق فعالية «الذات الإنسانية الجماعية الواعية» ولن نتمكن حكما وفعلا من تجاوز أزمتنا الحقيقية المستحكمة فينا والمعيقة لنهوضنا الحضاري، ألا وهى مأزق التخلف المجتمعي والتأخر التاريخي. إن مُركّب التخلف والتأخر التاريخي في مجتمعنا يتجلى بارزا متمظهرا بوضوح في هيمنة قوى تقليدية استبدادية وتجمعات مصلحية انتهازية والتي تجهد ببذل كل طاقتها لإرساء قيم وأنماط تدبير تتنافى وحركة التاريخ الإنساني المعاصر، فالتفكير العلمي السليم وفقا لهاته الجدلية يقتضي إبعاد الوعي الإيديولوجي المزيف من ساحة الممارسة الاجتماعية الإصلاحية والتغيرية أولا، ويتطلب ثانيا إخراج الفرد والمجتمع من إطار هذا النوع من التفكير والتقدير وإدخالهما في إطار الوعي الذاتي النقدي لبناء كيان فاعل في التاريخ، قادر على صنع القرار المستوعب الناضج الواعي بدوره في صنع عملية تغيير معادلة الواقع وموازينه وصناعة المستقبل الأفضل. فالمشروع الديمقراطي وفقا لهذا التحديد يتطلب اعتماد بناء معرفي وفكري قائم على قيم مشتركة إنسانية، حيث يبقى التفكير العلمي السليم الناضج هو المدخل الأساسي للعقلانية المعاصرة، والعقلانية النقدية هي المدخل المعرفي الأساسي للديمقراطية، فالديمقراطية التي لا تُمارس على أساس نقدي هدفها الإنسان المواطن بالدرجة الأولى تبقى ناقصة ومزيفة ومشوهة، لأن الديمقراطية القائمة على العلم والوعي والمحاسبة المجتمعية هي الديمقراطية القادرة على تحقيق العدالة والمساواة والحرية في كافة أشكالها «السياسية والحقوقية والاجتماعية والاقتصادية» للفرد، وللمجتمع ككل، أي هي الديمقراطية القادرة على تحقيق التوازن في بنية الدولة والمجتمع دون النظر إلى اعتبارات أخرى «مذهبية، قبلية، اثنية، عشائرية»، وهذا هو جوهر العلاقة بين الديمقراطية وحقوق الإنسان، لأن الديمقراطية تنظر إلى العمل المؤسساتي الجماعي والعقل النقدي المحاسب والمواطن المشارك المسؤول كمحددات أساسية من محددات التقدم في مسيرة بناء المواطنة، وذلك على اعتبار أن ما هو جذري وذو قيمة أساسية وحاسمة في عالم الإنسان هو الإنسان نفسه بمعنى إنسان العمل والإنتاج والمعرفة، إنسان الخلق والإبداع والحضارة، ضد إنسان التواكل والتسليم والسلبية. الديمقراطية لم تشكل مع مرور الأيام تراثا أو تقليدا ينضم إلى ثقافتنا، بل بقيت مواقف ذهنية ترتبط بشخصية أو شخصيات معينة، وأضحت النخبة تتعاطى معها في بعدها الإداري والتقني ولم تصل إلى مرحلة وعي قائم بذاته يُمارس كعنصر ثقافي تربوي متجذر في كياننا الجماعي، وهذا يعود إلى عوامل التخلف السائدة في ثقافتنا كإقصاء الآخر وتهميش الأغيار وتبخيس الحوار والتداول والمساءلة في روحها العامة وهذا ما سيتم استيعابه والخروج منه من خلال الإيمان أولا بالإنسان وحقوقه التي نصت عليها المعاهدات والإعلانات والمواثيق الدولية في روحها العامة. إن حالة التشوه الفكري في مجتمعنا تتبين من خلال الخلل السائد في العلاقات الإنسانية، وهذا ما ينعكس سلبا على كافة العلاقات القائمة في المجتمع وعلى جميع الأصعدة. إن الفقر بالمفاهيم الإنسانية والديمقراطية في إيديولوجيات ثقافتنا ومثقفينا أسهم في القفز فوق الإنسان الفرد «المواطن»، فالخطابات السياسية المعاصرة «كمؤشر» لم تعط هذا الفرد أو تؤمّن له ما قالت إنه يستحق من كرامة ورعاية واحترام. إن الوصفة الجاهزة التي يقدمها الخطاب السياسي بمختلف تعبيراته -القائم على الأهداف الكبيرة والشعارات النارية - لم ولن تكون ظروفا ملائمة لولادة مجتمع يتمتع بالديمقراطية كصيغة لتفكيك السلطة وتوزيع الثروة وحقوق الإنسان كأفق يلهم الفكر والممارسة. إن السعي إلى تحقيق تراكم أولي لثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان يعتمد بالدرجة الأولى على إيمان ذاتي بهذه الثقافة، وعلى إيجاد الوسائل والآليات اللازمة والعقلانية لنشرها وترسيخها في المجتمع. فالديمقراطية في صورها الأقل سوءا هي الديمقراطية المرتبطة بالوعي، وإذا ما تم توظيف هذه الديمقراطية مقترنة بالاعتراف والإيمان الكامل بحقوق الإنسان في النهوض بمجتمعنا فسيتم بذلك خلق منظومة فكرية جديدة تتجلى في: < اعتبار الفرد قيمة في حد ذاته: متساويا في حريته وحقوقه بالأفراد الآخرين، وما السلطة الحاكمة إلا وسيلة لتنظيم علاقات الأفراد بالشكل الذي يخدم مصالحهم الواعية المشتركة. < تجسيد التعددية: «فالديمقراطية تتقبل الرأي المختلف والهدف المختلف، وتعارض الفرض القسري للأفكار والقيم. < عدم التحيز إلى رأي دون آخر أو جنس دون آخر أو عقيدة دون أخرى أو جهة دون غيرها... < الانفتاح وامتلاك أدوات الردع الأخلاقي: فالحق في الحياة يعني وجوب امتناع الناس أيّاً كانوا عن الاعتداء على حياتي، ومعنى أن يكون لي حق معناه أن أي إنسان آخر في أي مكان وزمان يمتلك مثل هذا الحق. < جعل المرجعية للحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية، والحق في التعلم والتربية وتبني الأفكار... الخ على أساس إنساني لا على أساس قيمي، فبغياب هذه المنظومة تُدان التعددية ويَعتبر كل فريق نفسه مالك الحقيقة، عندها سيصبح السجن المكان الوحيد «للخصم»، وعندها سيوضع القانون على الرف أو يصبح غلافا لشهوة الحاكم أو مصلحته أو استفراده بالرأي والقرار، عند هذا كله ماذا سيبقى للمجتمع من قيم وثقافة واختيار؟ إن العمل الحق في مضمار الديمقراطية وحقوق الإنسان يستوجب إغناء مجتمعنا بمختلف تنظيماته المدنية والسياسية بالقيم التعددية المبنية على المساءلة والمراجعة الدائمة والنقد الذاتي والتداول السلمي على المسؤولية والسلطة وهذا ما يفتقر إليه البنيان الإيديولوجي لثقافتنا الجماعية، والذي بذلك يناقض البنيان التنظيمي المؤسساتي للديمقراطية. أخيرا، إن «الديمقراطية وحقوق الإنسان» ليست حلا سحريا للمشاكل المطروحة، ولا ابنة اللحظة الآنية، إنها إرث من التعددية والاعتراف بالآخر وبحق الاختلاف، فهي حوار جماعي مستمر للوصول إلى حلول أنجع للقضايا الاجتماعية والسياسية وللإشكاليات التي تواجه المجتمع في سيرورته، فترجّح المصلحة المشتركة وتمكّن البشر من الدفاع عن مصالحهم عبر قنوات وسبل سلمية متنوعة ومشروطة ومعبّرة عن العلاقة بين الوعي والمصلحة وتدبر الصراع بشكل مدني، وإن كل ذلك يفرز مهاما إضافية يترتّب على ثقافتنا السائدة ومثقفينا الاضطلاع بها والتعرف على منطلقاتها وضروراتها وآليات التعامل معها والتعامل بها، وتوفير ما تحتاجه من نهج فكري منفتح تشرف عليه العقلانية.