فجأة، وفي أقل من سبعة أيام، وبالتحديد منذ انهيار قوات الجيش العراقي (30 ألفا) أمام تحالف الدولة الإسلامية وفصائل أخرى (قوات بعثية وجيش المجاهدين)، بدأ العالم كله يحشد قواته وأجهزة إعلامه لإسقاط إمبراطورية «داعش» التي أصبحت تشكل خطرا وجوديا على أمن العالم وسلامته واستقراره في نظر أمريكا وأوربا. قوات الدولة الإسلامية نفسها تقاتل لإسقاط النظام السوري منذ عامين، واحتلت محافظة الرقة، وجوارها، وهي مماثلة لمحافظة نينوى وعاصمتها الموصل، في المساحة وعدد السكان تقريبا، وأعدمت قوات سورية بلا رحمة وبدم بارد، ووثقت ذلك في أشرطة فيديو بثتها على مواقعها الخاصة على «اليوتيوب»، ومع ذلك لم يتحرك العالم بأسره ويحشد قواته ويعقد اجتماعات مكثفة لقياداته الأمنية والعسكرية لبحث هذا الخطر الداهم، ولم يستنفر الإعلام الغربي وقنواته وهو الذي أهمل العراق طوال السنوات العشر الماضية. نسأل وبكل براءة: لماذا لم يضع الرئيس باراك أوباما جميع الخيارات، بما فيها الخيار العسكري، على الطاولة عندما أقامت الدولة الإسلامية (داعش) إمارتها في الرقة، وطبقت الشريعة الإسلامية، وأعدمت من يعارضها من الفصائل الإسلامية الأخرى، بما في ذلك جبهة النصرة التي تتبنى أفكار القاعدة نفسها؟ ولماذا تسارع الولاياتالمتحدة إلى الصلح مع إيران والاستعانة بها والتنسيق معها لاجتثاث «داعش» من العراق وليس من سورية مثلا؟ هل لأن العراق غني بالنفط بينما سورية غنية بالفستق الحلبي و»الآيس كريم» الشامي اللذيذ؟ إيران حتى قبل أقل من عام كانت حلف الشيطان في نظر الأمريكيين وحلفائهم الأوربيين، وأمريكا كانت «الشيطان الأكبر» في نظر الإيرانيين، وكانت جميع الخيارات الأمريكية والعربية لضرب إيران مطروحة على مائدة الرئيس أوباما الذي أرسل أربع حاملات طائرات وغواصات مزودة بصواريخ نووية إلى مياه الخليج الدافئة المضيافة، فما الذي حدث بالضبط حتى تنقلب المعادلات ويتحول الأعداء إلى حلفاء؟ السيد نوري المالكي، رئيس وزراء العراق، كان المفضل أمريكيا لإعادة بناء الدولة العراقية، وتدخلت الولاياتالمتحدة ووضعت كل ثقلها خلفه للقيام بهذه المهمة، وأبعدت التحالف السني الشيعي (العلماني) بقيادة الدكتور إياد علاوي الذي حصل على نسبة أعلى في الانتخابات البرلمانية، الآن تتهمه أمريكا، أي السيد المالكي، بكونه هو الذي يدمر الدولة العراقية، رغم أنه لم يبن أي شيء في العراق على مدى ثماني سنوات من حكمه المطلق حتى يعكف على تدميره، فلا ماء (في العراق نهران وليس نهرا واحدا) ولا كهرباء، ولا أمن ولا صحة ولا استقرار، ولا تعايش ولا أمل، فقط تحريض طائفي بغيض، وانقسامات حادة بين السنة والشيعة، وبين السنة أنفسهم والشيعة أنفسهم أيضا، ومن يشكك في قولنا عليه مراجعة تصريحات السيد مقتدى الصدر عن ديكتاتورية السيد المالكي وحكمه. الجنرال مارثن ديمبسي، رئيس هيئة أركان الجيوش الأمريكية، قال في شهادة له أمام الكونغرس: «إن القوات العراقية ألقت سلاحها في الموصل وهربت لأنها كانت متيقنة بأن حكومة المالكي غير منصفة في معاملتها لأهالي المدينة»؛ بينما وضع تشاك هاغل، وزير الدفاع الأمريكي، كل اللوم على «الدولة الإسلامية»، وعلى المالكي أيضا، لأن الأخير لم ينجح في تشكيل حكومة وحدة وطنية في العراق. مسلسل طويل من الكذب والتضليل والخداع، نشاهد حاليا الحلقة الأولى منه، ومن المؤكد أن الحلقات الأخرى ستكون أكثر إثارة للقرف والغضب معا، لأن المشرفين على هذا المسلسل تحالف عراقي إيراني أمريكي بريطاني عربي، ونحن -العرب والمسلمين، شيعة وسنة- الضحية الأكبر دون جدل. السيد هوشار زيباري، وزير الخارجية العراقي، أعلن، يوم الثلاثاء في مدينة جدة حيث كان يشارك في اجتماعات وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي (منظمة فاشلة بكل المقاييس، ولا يستفيد منها أو يسمع بها غير العاملين فيها، وتديرها السعودية)، أن «الحكومة العراقية (المنتهية صلاحيتها) طلبت رسميا مساندة واشنطن لتوجيه ضربات جوية إلى الجماعات «الإرهابية» طبقا للاتفاقية الأمنية الموقعة بين البلدين». السيد زيباري يكذب في وضح النهار، إنه لا توجد اتفاقية أمنية بين البلدين، لسبب بسيط «صفق بعضنا له» وهو أن حكومة المالكي رفضت توقيع هذه الاتفاقية لأنها تنص على بقاء قوات أمريكية في العراق، الأمر الذي أصاب أوباما بالغيظ والحرد، وقرر سحب هذه القوات جميعها في عام 2011، وتباهى السيد المالكي وأنصاره بهذا الانتصار. أمريكا ستتدخل عسكريا في العراق، وستوجه ضربات جوية، بطائرات بدون طيار (الدرونز) أو بأخرى بطيار، لتصفية قوات الدولة الإسلامية وحلفائها في الموصل وتكريت والفلوجة وتلعفر وتمنع تقدمها نحو بغداد، سواء بطلب من حكومة المالكي أو بدونه؛ فإذا كان الجيش العراقي -الذي جرى إنفاق عشرات المليارات من الدولارات على تدريبه وتسليحه، ويضم أكثر من 600 ألف عنصر- فرّ من أمام قوات «داعش» وحلفائها بملابسه المدنية، فهل تستطيع حكومة المالكي منعه، أي سلاح الجو الأمريكي، من توجيه هذه الضربات؟ وإذا كانت هذه الحكومة عاجزة عن حماية مدن بلادها وشعبها بغض النظر عن مذهبهم الطائفي فهي لا تستحق حكم العراق. من المفارقة أن الطائرات الأمريكية بأشكالها كافة، التي ستضرب القوات التي استولت على الموصل، ستنطلق من قواعدها في دول «عربية خليجية» تقول قيادتها جهارا إنها ضد التدخل العسكري الأمريكي في الشأن العراقي، وتدعم قوات الدولة الإسلامية وحلفاءها بشكل مباشر أو غير مباشر، ونحن نتحدث هنا عن السعودية وقطر دون أي مواربة، ونسمي الأشياء بأسمائها. نحن أمام «مؤامرة» ثالثة، غير المؤامرة الأولى في سورية، والثانية في العراق التي تحدث عنها السيد المالكي في خطابه الأخير الذي بثته قناة العراقية، واعترف فيه بأن قواته تعرضت إلى «نكبه» ولكنها لم تهزم، وبدأت تستعيد زمام المبادرة، وهذه المؤامرة الثالثة هي لزيادة قوة وحرارة لهيب الحرب الطائفية التي اشتعلت وستحرق المنطقة كلها، بما فيها إيران وتركيا، وليس الدول العربية وحدها، ولن تفرق نيرانها بين شيعي وسني، فالكل سيكون حطبها، والأيام بيننا. أمريكا تدخلت في المرة الأولى لتدمير العراق لمصلحة إسرائيل، فحصلت على حكومة طائفية، ومقاومة شرسة ضدها، وأخيرا تنظيم الدولة الإسلامية، وها هي تستعد للتدخل عسكريا للمرة الثانية بعد عشر سنوات من إقامتها للعراق الديمقراطي الذي يتمتع شعبه بالرخاء والاستقرار باعتباره نموذجا تتمناه دول الجوار العربي؛ ترى ما الذي ستحصل عليه بعد هذا التدخل إلى جانب تقسيم هذا البلد إلى عدة كيانات يحكمها أمراء الطوائف الجدد؟ أمريكا ستضرب من الجو على ارتفاع ثلاثين ألف قدم، بينما الذين سيدفعون ثمن هذه الفتنة هم الذين يوجدون على الأرض، أي العرب السنة والشيعة، الذين سقطوا، وهم في كامل وعيهم وبأعين مفتوحة، في المصيدة الأمريكيةالجديدة. هل نحن نمثل خير أمة أخرجت للناس؟ عبد الباري عطوان