إن المجتمعات لا ترقى إلا بقيمها وأصولها، ولا تكتمل سعادتها إلا باحترام تقاليدها وهويتها. والأمة التي تستنبط نمط عيشها من غيرها، تبتعد عن أصالتها وحقيقتها وتفقد القدرة على الوجود بنفسها، ولن تعود إلى أصلها لجهلها بمكوناتها. لهذه الأسباب جميعها، توجب على الإنسان المغربي أن يهتم بثقافته وتاريخه على كل المستويات، ومن بينها، إن لم يكن من أهمها، ثقافته الغذائية؛ لذلك سنحاول، في هذا المقال الأسبوعي، التطرق إلى أهم التحولات الغذائية التي يعيشها الإنسان المغربي وما تحمله بين طياتها من أمراض فتاكة تشكل خطرا حقيقيا على صحته. تسمى في بلدان المغرب العربي ب»الجلبانة». والبازلاء الخضراء الطرية من الخضر الفصلية إلى جانب الفول الطري. وهذه البقول هي التي تطبع فصل الربيع، رغم أن البازلاء يظهر في فصل الشتاء، لكن النوع الذي ينضج في فصل الربيع يكون أحسن بكثير، وقد يلاحظ الناس أن مذاقه حلو، مما يدفع الكثير إلى استهلاكه طازجا. واستهلاكه طازجا ينفع أكثر لأن بعض الأنزيمات والعوامل تكون نشيطة، ولا توجد هذه المكونات في الأغذية المطبوخة والمعقمة لأنها تتلف بالحرارة المرتفعة. واستهلاك «الجلبانة» قبل نضجها كاملا بدون نزع الغلاف يكون كذلك أنفع، لكن الناس اعتادوا، مع الأسف، على جني هذه البقول بعد نضجها، أي بعدما تشتد الحبوب ويكون غلافها قد يبس فلا يستهلك. ومن العادات الغذائية المغربية أن «الجلبانة» كانت تسلق بالماء مع قليل من الملح، ثم تستهلك، وكانت تسد كل احتياجات الجسم في فصل الربيع، الذي يكون كثير من الناس قد استنفدوا فيه الحبوب الأخرى مثل القمح والذرة والشعير والقطاني. تحتوي البازلاء أو «الجلبانة» على الموليبدنيوم والمنغنيز وحمض الفوليك والنحاس والفوسفور وحمض التريبتوفين، والحديد بنسبة منخفضة؛ وطبعا، المكونات الغذائية الأخرى كالألياف والبروتين والسكريات. والغريب أن الجلبانة لا تحتوي على البوتسيوم والمغنيزيوم إلا بقدر ضئيل جدا، ولذلك فتعميم النصائح الغذائية على القطاني كلها قد يكون خاطئا. والمعروف أن الحمص و»الجلبانة» ينفردان بهذا التركيب، رغم أن هناك تفاوتا طفيفا بين المكونات، ويبقى تركيز كل من الموليبدنيوم والمنغنيز والفوليك مرتفعا، ويمكن أن يسد حاجة الجسم بدون أي تخوف، وبذلك يكون استهلاك «الجلبان» الأخضر وكذلك الفول الطري بالنسبة إلى الحامل والمرضع ضروريا، وحمض التريبتوفين هو الذي يعطي مكون السيروتونين Serotonin الذي يساعد على النوم، ويحد كذلك من التوتر العصبي؛ ويتحول حمض التريبتوفين إلى سيروتونين في الجسم بسهولة، لأن أنزيم TPH (Tryptophane hydrolase) يعمل بنشاط مرتفع وينشط بالحديد؛ وكلما كان تركيز التريبتوفين مرتفعا زاد تركيز السيروتونين. وربما يختار الناس «الجلبانة» على الحمص، لأن نسبة الحمضيات الأمينية المكبرتة تكون مرتفعة، مما يسبب تكون بعض الغازات بالأمعاء لكثير من الناس. ونلاحظ أن النصيحة المعممة بالنسبة إلى المصابين بالقصور الكلوي بعدم استهلاك «الجلبانة» ليس لها ما يبررها من الناحية العلمية. أما السكريات الموجودة في القطاني الطرية فلا تشكل خطرا على المصابين بالسكري، بل هي -على العكس من ذلك- نافعة. ويمكن استبدال اللحوم بالقطاني بالنسبة إلى المصابين بالسكري، لكي يتفادوا مشكل الكوليستيرول والدسم المشبع، وهو ما يشكل خطرا على هؤلاء. وتعطي «الجلبانة» الطرية طاقة كبيرة، لأن حمض الفوليك مع الفايتمين B 1وB 3 يساعد المصابين بالسكري على استخراج الطاقة. وتتقدم «الجلبانة» على كل الخضر الموسمية، ومنها الفول على الخصوص، في ما يخص شحن الجسم بالمغذيات؛ ف»الجلبانة» تزود الجسم بثمانية فايتمينات وسبعة معادن وبالألياف الغذائية والبروتين. وتمتاز بمذاق حلو وعذب يجعل الناس يفضلون تناولها طازجة، خصوصا الأطفال. وترتفع نسبة البروتين في «الجلبانة» بما يكفي لتنوب عن اللحوم، وهي بروتينات بجودة عالية وبنسبة كافية للجسم، ولذلك يعتبر فصل الربيع فصل النبات بامتياز لأن فيه تخرج كل النباتات النافعة للجسم، فلم يكن الناس يستهلكون اللحوم في هذا الفصل، لأن هذه البقول تمثل مصدرا كافيا للطاقة، ولاسيما الفول الطري و»الجلبانة» الطرية، وكذلك للتخلص من كثير من الزوائد مثل الحصى في المرارة والكوليستيرول والشحوم. وتشتهر «الجلبانة» بالمركبات التي تحافظ على صلابة العظام. وتعزى هذه الخاصية إلى كونها تحتوي على نسبة عالية من الفايتمين K الذي يتحول إلى فايتمين K 2 في العظام، فينشط مكون الأوستيوكلسين Osteocalcin، وهو المكون الذي يثبِّت الكلسيوم على العظام، فيحفظها من التسوس أو الهشاشة. وكلما كانت كمية الفايتمين K 2منخفضة أضاعت العظامُ بنيتَها المعدنية. ومعلوم أن «الجلبانة» غنية بحمض الفوليك والفايتمين B 6 اللذين يعملان على منع تكون مركب الهوموسيستين الذي يخرب الوصلات الكولاجينية التي تقبض العظام، مما يؤدي إلى تسوسها، ويشتد هذا الحادث عند النساء اللاتي بلغن سن اليأس، واللاتي كانت نسبة حمض الفوليك منخفضة لديهن؛ ونعلم بأن مركب الهوموسيستين يخرب كذلك الأوعية الدموية، ويتسبب في تكون صفائح داخل الأوعية، فيقع انسداد أو تضييق الأوعية، ويساعد حمض الفوليك على تجنب هذا الحادث الخطير. وبينت الدراسات أن استهلاك المواد النباتية الغنية بحمض الفوليك يحول دون ظهور أعراض تتعلق بالقلب والشرايين. ونعلم بأن الفايتمين K يدخل، كذلك، في امتصاص الأيودين على مستوى الغدة الدرقية، وكل النباتات الخضراء غنية بالفايتمين K والفايتمين A، وهي مركبات مانعة للأكسدة، وتزيد في مناعة الجسم. ويعتبر فصل الربيع فصل الفايتمينات والأملاح المعدنية، مثل المغنيزيوم والبوتسيوم، فلا يصاب الجسم الذي ينال حظه منها بمتلازمة الأيض Metabolic syndrome ولا بتحمض الدم Acidosis، لكن في عصرنا الحاضر أصبحنا نلاحظ أن النظام الغذائي لا يتغير كثيرا أثناء الفصول، ويعتمد على اللحوم والألبان والبطاطس والمشوي وبعض السلطات. وتحتوي «الجلبانة» على فايتمينات الاستقلاب التي تنتمي إلى المجموعة B، ومنها B 1 وB 2 وB 3 وB 6، والتي تلعب دورا أساسيا في استقلاب كل من السكريات والبروتينات والدهنيات، علاوة على الحديد والفايتمين C، ويكون امتصاص الحديد جيدا لما يتوفر الفايتمين C، وأهمية هذا الفايتمين (C) في كبح كل أنواع السرطان معروفة، بما في ذلك سرطان الدم والرئة والبروستيت وعنق الرحم والمبيض. وكل النبات يحتوي على نسبة من الفايتوستروجينات Phytoestrogens، وكذا على بعض الفلافونويدات المضادة للأكسدة، وهي مركبات تطبع النبات، ولا توجد عند الحيوان، وتدخل في مراقبة المفاعلات الفايزيولوجية، وأشهر هذه المركبات اللوتين Lutein والزيكسانتين Zeaxanthin، وهي المركبات التي تحفظ العين. وتناول «الجلبانة» بالنسبة إلى النساء يكون أهم وأنفع، نظرا إلى وجود هذه الفلافونويدات والفايتوستروجينات. وكلما اجتمعت هذه المركبات في الوجبات الغذائية بنسبة كافية ازدادت الوقاية من السرطان، خصوصا سرطان الثدي، وكذلك سرطان البروستيت بالنسبة إلى الرجال. د. محمد فائد