تحول بعضهم إلى مجرد مياومين ومستخدمين بعدما كانوا يصنفون ضمن فئة «الأغنياء»، إنهم فلاحون تكبدوا خسارة كبرى بعدما غمرت النفايات السائلة لمعمل متخصص في صناعة الكحول حقولهم البلاستيكية، فأتت على الأخضر واليابس، فكانت الحصيلة إتلاف المحاصيل الزراعية وتلوث الفرشة المائية، فكان الحل هو اللجوء إلى القضاء طمعا في إنصافهم بعدما طرقوا كل الأبواب أملا في إيجاد حل ودي. على بعد حوالي 40 كيلومترا من مدينة القنيطرة، يوجد معمل متخصص في صناعة الكحول يحمل اسم «معمل تحويل عسل الشمندر سوتراميك»، وهو محاذ لدوار أولاد عطية التابع لجماعة بنمنصور بإقليم القنيطرة، المعروفة ب»سوق الأحد»، هذا المصنع يعتبره السكان العدو رقم 1، لأنه تسبب في قطع أرزاقهم منذ ثلاث سنوات خلت، بعدما استفاقوا ذات يوم من أيام شهر يناير من سنة 2011 على وقع فيضانات نفاياته السائلة، التي غمرت حقولهم التي كانوا ينتظرون منتوجاتها لتسويقها بالأسواق الجهوية والوطنية. ما زالت آثار فيضانات مياه المصنع بادية للعيان، فالحقول البلاستيكية تخفي بقايا أشجار الموز والأفوكا والحوامض وخضر الفلفل والباذنجان والجزر ومزروعات الشعير والقمح وغيرها، لتتحول «الغلات» إلى مجرد أغصان يابسة وأشواك تذروها الرياح. خسائر مادية ومعنوية بنعيسى العسري، من سكان دوار أولاد عطية، تضررت أرضه الفلاحية فتكبد خسارة بعدما تسربت مياه المصنع الملوثة إليها فغمرتها، لتدمر 120 ألف شجرة من الحوامض. حجم الضرر لا يقدر بثمن، يقول بنعيسى بكل أسى: «بعد حدوث الكارثة لزمت الفراش شهرا كاملا، وحاليا أتناول أدوية مهدئة للأعصاب، كما أنني لا أستطيع النوم دون استعمال منوم، إن ما حدث لنا شرد أسرا بكاملها، لأننا نعتمد على الفلاحة كمصدر لرزقنا الوحيد». بعد الأضرار التي لحقت الحقول البلاستيكية المحيطة بالمصنع، كان هناك حوار بين ممثلين عن الشركة والسكان من أجل التوصل إلى اتفاق يقضي بتعويض الفلاحين عن الأضرار التي لحقتهم، وذلك بحضور ممثلين عن السلطات العمومية، غير أنه سرعان ما تم التراجع عن ذلك من لدن الشركة التي تدير المعمل، يقول العسري، وهو يتساءل «لم نفهم لماذا لم تنفذ الشركة ما اتفقنا عليه في البداية من أجل تعويض خسارتنا، والتي قدرت بالنسبة لي في مبلغ يفوق 70 ألف درهم، تراجعت الشركة عن وعودها، فلجأنا إلى القضاء من أجل الفصل بيننا». عبد الحق فقيرات، هو الآخر من المتضررين، يملك أرضا فلاحية كان يخصصها لزراعة الشعير، يروي ل»المساء» ما حدث سنة 2012، إذ أنه بعد تساقط الأمطار انهارت جنبات صهاريج المعمل المخصصة للنفايات والمبنية من التراب، لتغمر المياه الملوثة أرضه وأرض ما يزيد عن ثلاثين فلاحا، ما ألحق بها خسارة كبيرة، يقول فقيرات: «لقد عانينا وما نزال بفعل وجود هذا المعمل الذي دمر أرضنا وحرمنا من شرب المياه الجوفية التي تغير لونها وطعمها ، وشخصيا أرى أن الحل هو إغلاق المعمل لأننا لم نجن منه إلا الأضرار المتعددة والمتنوعة». يصر العربي الدعماش، رجل مسن، بدوره، على نقل معاناته، ويبكي هو الآخر حظه بعدما غمرت مياه المعمل حقله، ليصبح مجرد بقايا آثار مغروسات يابسة، يقول هذا الرجل: «تأثرت أرضي الفلاحية بعدما تسربت إليها النفايات السائلة التابعة للمصنع، وهو ما أجهز على كل المزروعات والأشجار من ليمون وأفوكا وحبوب، لذلك فإنني أطالب بالتعويض عما لحقني من خسارة كبيرة تفوق 80 مليون سنتيم». أحواض منجرفة التربة تشعر بالغثيان وأنت تقترب من الأحواض (الصهاريج) الممتلئة بنفايات المعمل، جنباتها عبارة عن تراب منجرف، وبالعين المجردة يمكن أن تقارن بين حوض معمل الكحول والمعمل الذي يقع بجانبه، حيث إن صهاريج هذا الأخير متقنة البناء، ما يحول دون أي تسرب لمحتوياتها. يقول محمد لمام، من المتضررين، وهو يحمل تربة محيط الحوض: «هل هذا إسمنت مسلح ؟ إنه مجرد «جير»، وهو ما يجعل النفايات سهلة التسرب، إننا نحمل المسؤولية للشركة، لأنها لم تتقن بناء الصهاريج»، يلوح لمام بيده وهو يرينا صهريجا للمعمل المحاذي للمعمل المشتكى به، حيث الإتقان والجودة. وحسب محضر معاينة لمفوض قضائي، فإن الأحواض الخاصة بالنفايات التابعة للمعمل المتخصص في صناعة الكحول شبه ممتلئة بماء عكر وجنباتها مكونة من تراب خفيف قابل للذوبان، إلى جانب ظهور عملية انجراف التربة، وأضاف التقرير أن آثار المياه العكرة تصل إلى الجهة المحاذية للأحواض والتي توجد بها الحقول البلاستيكية والأرض المنبسطة. وقارن المحضر، الذي تتوفر «المساء» على نسخة منه، بين حوض معمل «سوتراميك» وبين حوض المعمل المجاور له، حيث أفاد المفوض القضائي بأنه «عاين الحوض الخاص بمعمل السكر المجاور لهذه الأحواض (الخاصة بمعمل الكحول)، وهو مبني بأحجار صلبة مانعة من خروج المياه من خارجه». مياه عكرة ونفوق مواشي لم تتضرر الأرض فقط من مخلفات المعمل المذكور، بل تعدى الأمر ذلك إلى مياه الآبار التي أصبح لونها بنيا داكنا، ولم يعد السكان يستعملونها منذ حوالي أربع سنوات خوفا من المضاعفات الصحية التي يمكن أن تنشأ عن ذلك. آثار الخراب ما زالت بادية على منتجاتهم الفلاحية، حيث يعتبرون أنفسهم ضحايا معمل لا يأبه لمصيرهم، يقول محمد لمام: «أغلقت كل الأبواب في وجوهنا وما زلنا ننتظر إصدار الأحكام القضائية، لقد ضاعت غلة الموز والتي تقدر بحوالي 90 مليون سنتيم، ولا ننسى ضرر تأخر البت في الملف من أجل استئناف استغلال أراضينا»، ليضيف باستنكار شديد «إنني مثقل بالديون، وأعيل عائلة مكونة من سبعة أفراد، لقد ضاع رزقي، اللهم إن هذا منكر، هل ننتحر؟ لقد كان من الأولى أن يتم تعويضنا بشكل استعجالي حفاظا على أرزاقنا وحماية لنا من أضرار معمل لم نجد منه إلا البلاء، علاوة على التأثير على البيئة». وحسب شهادات عدد من السكان، فإنهم يعانون من الربو والحساسية بفعل الروائح الكريهة التي تنبعث من المعمل، إضافة إلى تأثير ذلك على الماشية، يقول محمد النايع: «لم نجن من السكن بجوار هذا المعمل إلا الخراب والدمار، فمواشينا تنفق، و جل السكان مصابون بأمراض السل، علاوة على أن مياه الشرب أصبحت ملوثة، إلى جانب النوم في رعب، خصوصا في فضل الشتاء لأننا نخشى من تسرب مياه المعمل من جديد لتغمر بيوتنا». تقاطعه منصورة لمام، هذه المرأة التي ما زالت تتذكر يوم حصول الفيضانات، كان المنظر أشبه بمأتم، حسب قولها، رجال بكوا تأثرا على ما حصل لهم، سيما الذين لديهم قروض وديون، لتؤكد أنها عانت هي وأسرتها، وما تزال، من جراء تسرب مياه المعمل، «كما أن منزلنا تعرض لتشققات وتصدعات بعدما غمرته المياه». أجراء لدى زملائهم تحول أصحاب الحقول الفلاحية المتضررون إلى مجرد مياومين وأجراء في ضيعات يملكها فلاحون بالمنطقة، بعدما كانوا يشغلون عددا من العمال من أبناء المنطقة، لتعكس الآية، يقول أحد المتضررين ل»المساء» بانفعال شديد: «بعدما كنا مشغلين أصبحنا مأجورين لدى زملاء لنا كنا ننافسهم في عرض منتوجاتنا في الأسواق، هذه هي قمة الذل والإهانة التي سببها لنا معمل كبدنا خسائر جمة وشرد أسرا كثيرة، وما زلنا نجتر آلام المعاناة في انتظار صدور الحكم القضائي ليعيد لنا الاعتبار ويحفظ كرامتنا وقوت أبنائنا». لم تطل الخسارة الفلاحين المجاورين للمعمل فقط، بل تعداهم الأمر إلى العمال الذين كانوا يشتغلون لديهم، أحمد العمراني من بين المتضررين، الذي كان يشغل حوالي 25 عاملا رسميا و35 عاملا موسميا، توقفت أرزاقهم بعد حدوث الواقعة، وفق تصريحاته لدى الدرك الملكي، حيث قال إنه أقام مشروعا فلاحيا على أرض مساحتها 77 هكتارا ونصف من الأراضي الفلاحية التي اكتراها من وزارة الداخلية، غرس بها 35 هكتارا من شجر الأفوكا و10 هكتارات من شجر النخيل، فخصص هكتارين لتربية الأبقار ومساكن للعمال، وحفر 16 بئرا عصريا، يشغل حوالي 25 عاملا رسميا إلى جانب 35 عاملا موسميا». ويضيف العمراني أن كل ما بناه ذهب سدى وكبده خسارة قدرها ب400 مليون سنتيم، بعد أن قام المعمل المتخصص في صناعة الكحول بإفراغ نفاياته السائلة السامة في دوار أولاد عطية، بما فيه الأرض الفلاحية وملحقاتها التي استغلها، فتضررت جميع المحصولات والغلات التي أنتجها ويبست الأشجار كاملة وتلوثت الآبار والفرشة المائية، ويرجع سبب ذلك إلى عدم وفاء المعمل بوعوده ببناء صهاريج من الإسمنت المسلح. لا جواب للطرف الآخر حاولنا أخذ رأي المسؤولين عن المصنع، طلبنا لقاء مديرته، فكان جواب المكلف بالاستقبال أنها في اجتماع وطلب منا ترك بياناتنا على أن يتم الاتصال بنا، كما زرنا مقر الشركة الإداري لطلب رأي المسؤول عن الشركة فتلقينا الجواب نفسه، لكن لم نتلق أي اتصال لحدود الآن. وبالرجوع إلى محضر بحث تمهيدي للدرك الملكي خاص بالملف، كان جواب مديرة المصنع نادية لحلو، أن حملت مسؤولية ما حدث لوكالة الحوض المائي سبو، حيث قالت: «إن شركة سوتراميك تتوفر على محطة لمعالجة نفاياتها السائلة، وإلى حدود هذه الساعة هذه المحطة تعالج ما يقارب 90 في المائة من نفاياتها السائلة ولا تتوفر على رخصة كي تقوم بإفراغ المياه المعالجة أو غير المعالجة بمياه وادي سبو»، لتضيف أن السبب الرئيسي في مشكل فيضان المياه خلال فترة التساقطات «هو عدم تمكيننا من طرف وكالة الحوض المائي سبو من رخصة إفراغ المياه المعالجة في وادي سبو». وأكدت مديرة المصنع، وفق ما هو مدون في محضر الدرك الملكي، أن كلفة المحطة التي يتوفر عليها المصنع، والتي أنشئت بشراكة مع المؤسسات الحكومية المختصة، تبلغ ما يناهز ثلاثة مليارات سنتيم». ثلاث سنوات مضت والمتضررون ينتظرون إصدار الحكم في ملف ما زال رائجا أمام المحكمة الابتدائية بالقنيطرة، لأن مشاريعهم الفلاحية متوقفة، فمنذ أن غمرت مياه المعمل أراضيهم تركوا الوضع كما كان في انتظار تعيين المحكمة لخبير يقيم حجم الأضرار التي لحقتهم، لذلك فهم يخشون أن كل استغلال جديد للأرض من شأنه أن يخفي معالم الخسارة التي تكبدوها بفعل المياه الملوثة التي تسربت من صهاريج المعمل المذكور.