حومة راس الدرب كانت تغلي ذلك المساء.. الناس حائرون، يتجادلون، يتكلمون كلهم في وقت واحد، ولا أحد منهم يستمع إلى ما يقوله الآخرون. أما مفجر الجدل فكان هو بوالركابي الذي يأتيهم بالأخبار الطرية بعد مطالعة الجرائد المطروحة في محلبة الحي. فقد عاد ذلك المساء ليخبر أهل الحومة بأن الحكومة قررت تخصيص رواتب شهرية للفقراء. توزع القوم بين الاستغراب وعدم التصديق.. منهم من حسب الأمر مزحة، ومنهم من ظن أن الأمر يتعلق بحكومة غير هذه التي لا تحسن فعل شيء آخر غير الزيادة في الأسعار، ومنهم من تساءل عن السر في رواج خبر مثل هذا قبل فاتح أبريل. وعندما أقسم لهم بأن الخبر منشور في صحافة ذلك اليوم، حاصره القوم بالاستفسارات التي لم يكن يملك لها أجوبة.. بعضها يقصد به أصحابه تبين صحة الخبر، والبعض الآخر يسأل عمن هم المقصودون ب«الفقراء» الذين سيستفيدون من تلك الرواتب الموعودة، بينما بدأ المقربون من «مقدم الحومة» يفركون أكفهم، فلن يكون عليهم دفع «تدويرة» للحصول على شهادة فقير، أو هكذا خيل إليهم. من المسلَّم به أن تأتي خالتي يزة على رأس المستفيدين من هذا القرار الحكومي الحكيم، فمن يزاحمها في «قاع الحزة»؟ لكن الجدل انصب حول هل المقصود ب«الفقراء»: دار دار؟ أم راس راس؟ لأنه إذا كان الأمر الأخير هو المقصود فستحصل العجوز المعدمة على راتب، وابنتها المطلقة على راتب آخر، مما سيجعل منهما الأسرة الأكثر دخلا في راس الدرب؛ أما إذا كان المقصود هو «دار دار» فإن العجوز وابنتها ستتقاسمان راتبا واحدا. «به ولا بلاش». بوعزة، جار خالتي يزة، يتساءل عن مصيره.. هو معدم مثل كل أهل الحومة، لكنه على خلاف أزلي مع مقدم الحومة الذي يعتبره مزاولا لمهنة التجارة، باعتباره من الفراشة الذين يعرضون «الحلوى والمسكة» جوار زوجته التي تعرض «الحنة والحركوس». كريمو لا يمكن استثناؤه من لائحة الفقراء، لكن اشتغاله ببيع «سكيمو» ينقله إلى خانة الممارسين لنشاط تجاري، وهو ما لا تستسيغه زوجته رحيمو التي تحاول أن تضغط على ابنها البكر بوالركابي ليقبل لقب عاطل بينما هو يصر على أنه معطل، وفي الحالتين معا لن يستفيد من القرار الآخر الذي يقال إن الحكومة تطبخه لتخصيص رواتب لفاقدي الشغل، لأن ابنها لم يشتغل أصلا، وبالتالي فلن تطوله صدقة الحكومة، إذا صح ما يقال. لم يتوقف الجدل ذلك المساء، بل استمر عدة أسابيع، قضاها سكان راس الدرب يحلمون بالراتب الشهري المخصص للفقراء، بل منهم من راح يقترض لسد حاجيات ملحة على أن يرد الدين فور تسلم الراتب الموعود. فشلت كل محاولات بوالركابي في إقناعهم بأن تلك الرواتب ليست صدقة لوجه الله، وإنما هي وسيلة لرفع الدعم عن مجموعة من السلع الاستهلاكية، وأن ما يمكن أن تسلمه الحكومة لبعض الفقراء بيمناها على شكل رواتب، ستسحبه مضاعفا بيسراها على شكل ضرائب. توالت الأيام دون جديد يذكر، حتى بدأ القوم ينسون حلم راتب الفقراء، كما نسوا غيره من الوعود الانتخابية؛ لكن الحومة عادت إلى غليانها قبل أيام، وعاد الجدل أقوى وأكثر إلحاحا.. فبينما تم طي الصفحة الخاصة برواتب الفقراء، تواصل الحديث عن سحب الدعم على بعض السلع الاستهلاكية، وخاصة منها المحروقات والسكر. وتضاربت تصريحات المسؤولين الحكوميين، بين من قال إن دعم صندوق المقاصة لن يرفع عن المواد الأساسية، مثل غاز البوتان والسكر والدقيق الذي يعجن منه خبز درهم فاصلة عشرين سنتيما الذي قال عنه «وزير الملاوي» إنه مضر بالصحة؛ ومن قال إن الدعم سيرفع عن بعض المواد بما فيها السكر، باستثناء القالب، وهو ما أكده بعض «الخبراء» بقولهم نعم، لن يرفع الدعم عن القالب، الذي يتوقع اختفاؤه، فلا يبقى عند «باكّا مول الصاكّا» غير سنيدة والسكر المقرط. «واللي فرط يقرط» مادام «التكراط» لم يعد مجديا. وها هو بوالركابي سيعود مساء اليوم من محلبة الحي بخبر صادم: «لجنة تحديد الأولويات تتراجع عن قرار توزيع الدعم على الفقراء». «قالب ولا ماشي قالب؟!»