بين أسوار وحدائق قصر الحمراء، غير عابئ بوقع حبات المطر على رأسي، تذكرت قصيدة أبي البقاء الرندي في رثاء الأندلس. آه كم هو الشعر قادر على اختصار الكتب والنظريات المعقدة؛ فما قاله ابن خلدون، وبعده ماركس.. في مئات الصفحات، اختصره الرندي في صدرٍ شعري جميل وعميق: «لكل شيء إذا ما تم نقصان». نفشل، حيث نحن، في التسامح فنبحث عنه في الأندلس.. أليس هذا ما يفسر رغبة يهود سفرديين، ومغاربة موريسكيين في «استعادة» الجنسية الإسبانية بمبرر طرد أجدادهم من الأندلس قبل أزيد من 500 سنة؟ وننجح، حيث نحن، في العنف فنفكر في تصديره إلى الأندلس، أليس هذا ما يبرر ظهور تنظيمات «جهادية» تدعو إلى استرجاع الأندلس؟ مرة، وقف شيخ متسول بباحة مقهى سنطرال، الفقيدة، بالعرائش، وعندما لم يمن عليه أحد بصدقة نظر إلى السماء وصرخ: «يا ربي عطينا شي كيرا». لماذا تشتهي الحرب؟ سألته، فأجاب: «أيام «لاكيرا سيفيل» (الحرب الأهلية الإسبانية) كاع ما كنت مذلول بحال دابا». في الحرب يفر السائل من فقره وعجزه إلى شبابه المستحيل؛ ويفر الجهادي من شبابه إلى شيوخه الذين يبررون له رغبته العنيفة ومستحيلة التحقق؛ ويفر الموريسكي منهما معا، من الشيخ الفقير والشاب العنيف، مستجيرا بواقع مستحيل، لا وجود له سوى في القصائد. هل هناك فونتازم أكبر من هذا؟ (الفونتازم هو الاستيهام الخادع الذي يوصل صاحبه إلى قمة اللذة، الرعشة، قبل أن يفتح عينيه على واقعه المر). عندما أراد الديكتاتور الإسباني، فرانسيسكو فرانكو، أن يعبئ المغاربة للقتال إلى جانبه خلال الحرب الأهلية لسنة 1936، أرسل خوان لويس بيغبيدير، الذي سيصبح لاحقا وزير خارجيته، إلى زعماء القبائل الجبلية والريفية وشيوخ الطرق الصوفية، يقول لهم: إن فرانكو قد دخل الإسلام وسوف يعيد الأندلس إلى المسلمين. وحسب ما سبق أن أكده لي الباحث محمد المرابطي، فمازالت بعض القبائل الريفية إلى الآن تردد في أفراحها أغنية معناها: «مساجد الأندلس مملوءة بالكتب.. ها قد جاء فرانكو ليخرجها.. أبواب الأندلس مغلقة فرانكو سيفتحها». لقد استطاع الديكتاتور الإسباني، بواسطة تنشيط الفونتازم الأندلسي الخامد منذ سقوط غرناطة في 1492، أن يكسب إلى جانبه الريفيين الذين كان بالأمس يقصفهم بأخطر الأسلحة المحظورة. لعل أحسن معركة لاستعادة الأندلس، هي معركة فتحَ كتبَها لا أسوارَها، وقد قال الشاعر الأندلسي المجهول، متحدثا عن عظمة مدينة قرطبة: «بأربع فاقتِ الأمصارَ قرطبة.. منهن قنطرةُ الوادي وجامعها.. هاتان اثنتان والزهراء ثالثة.. والعلمُ أعظم شيء وهو رابعها». أليس العلم هو الذي أخضع اليهودي ابن ميمون للشيخ ابن رشد، وعرّف القس النصراني والحبر اليهودي على أرسطو الوثني عن طريق ابن رشد المسلم؟ أليس العلم من جمع بين الراهب الموسيقي الغريغوري، والشاعرين ابن زيدون وابن سهل الإسرائيلي، في نوبات أندلسية تفيض فنا وحكمة ومرحا؟ عندما كان الشاعر الإسباني الكبير، فيدركو غارسيا لوركا، يوقع أولى قصائده باسم أبو عبد الله، آخر ملوك غرناطة، ويطلق على واحد من أعماله الشعرية «ديوان التماريت» (Diván del Tamarit) وعلى الواحد من أشعاره «Casida»، فإنه كان ينحاز بعمق إلى هذا الإرث والمصير العربي الإيبيري، الإسلامي المسيحي، المشترك، دون فونتازم قد يأتي وقد لا يأتي. نتعلم من الأندلس كيف نبني معمارنا من أحجارنا، ونبني اقتصادنا من مواردنا وحاجاتنا بإنساننا؛ نتعلم من الأندلس كيف نبني مجتمعنا على أساس أن الآخر ليس جحيما في ذاته، بل في ما يقدم عليه من إجرام في حقنا وفي حق النص المقدس أو الواقعة التاريخية التي يمططها على هواه لخدمة مصالحه الآنية والأنانية؛ ونتعلم من الأندلس أنه «أينما كانت المصلحة فثمة شرع الله»... هذه هي روح الأندلس التي يجب أن نستلهمها ونتمثلها لبناء علاقات محلية ودولية لا تبعية فيها ولا إركاع ولا دروشة ولا استكبار. أطرح هذه الأسئلة وأنا منساق تحت مطر غرناطة في خدر تمارسه علي هاته الأسوار التي تنبئني بفائض الحب والجمال والعلم.. هذا الذي كان لها إسمنتا ورافعة. ومن حين إلى آخر، يظهر أمامي «الأصولي» الحالم المتشنج يقاتل الليبرالي الواقعي المخادع.. فأتمنى أن ينهزما معا.