لم يكن أبو عبد الله الصغير آخر ملوك غرناطة يدرك وهو يسلم مفاتيح المدينة الحمراء للملكين الكاثوليكيين فرناندو وايزابيلا، أن عهدا جديدا ستشهده الأندلس، ولم يكن يعي أن العهود والمواثيق التي وقعها مع الملكين، والتي تنازل بموجبها عن جميع حقوقه مقابل انتزاع بعض الامتيازات لرعاياه، سرعان ما ستصبح حبرا على ورق وتنقلب الأندلس من دولة يتعايش فيها أتباع كل الديانات إلى مسرح لعمليات طرد وإبادة جماعية في حق كل من لم يعتنق الكاثوليكية. وبعد مرور أربعة قرون على هذه المأساة، ما زال التمييز يطال مسلمي الأندلس، فرغم مطالبة عدد من الجمعيات في إسبانياوتونس والمغرب الحكومة الإسبانية بمراجعة تاريخها والاعتذار لأحفاد الموريسكيين، إلا أن هذه الأصوات قوبلت بآذان صماء، ورغم أن إسبانيا اعترفت بخطئها التاريخي الذي ارتكبته إزاء اليهود عندما طردتهم إبان نفس المرحلة التاريخية وقدم الملك خوان كارلوس اعتذاره لإسرائيل مرتين إلا أن إسبانيا الرسمية ما تزال تتجاهل مأساة المسلمين الأندلسيين الذين شردوا في قارات العالم. عصر التعذيب والطرد انطلقت عملية طرد الموريسكيين في سنة ,1609 عندما وقع الملك فيليبي الثالث يوم تاسع أبريل من نفس السنة، مرسوما لنفي مسلمي الأندلس. وانتهت عمليات الطرد في سنة 1614 مع رحيل آخر الموريسكيين من مملكة قشتالة. لكن عمليات مغادرة مسلمي الأندلس لإسبانيا، انطلقت قبل هذا التاريخ، وذلك بعد سقوط مختلف الممالك المسلمة سنة .1492 وتمت عمليات الطرد بشكل ممنهج ومنظم في عهد الملكة إيزابيلا والملك فيرناندو، مع التوقيع يوم 14 فبراير 1502 على مرسوم، يقضي بطرد المسلمين من غرناطة. هذه القرارات جاءت ختاما لعمليات التعذيب والترويع التي مارسها حكام إسبانيا ضد المسلمين وذلك بعدما إطلاق أياد محاكم التفتيش لإجبار كل مسلم على تغيير دينه أو التعرض لأصناف التعذيب والتنكيل وفي النهاية الطرد والتشريد. المصالحة التي لم تتم لقد صمت التاريخ طويلا على هذه المأساة والبشاعات ولم يلتفت إليها الباحثون والأكاديميون ومراكز الدراسات إلا بعد سقوط نظام فرانكو وانبعاث الشخصية الأندلسية من جديد، وبعد الإفراج عن الوثائق من دهاليز الكنيسة لينطلق البحث العلمي والكشف عن حقائق هذه الحقبة التي ظلت طي التجاهل. ''المصالحة مع الذاكرة التاريخية'' كان عنوان النظام الجديد في إسبانيا بعد سقوط ديكتاتورية الجنرال فرانكو، لكنه ما زال موقوف التنفيذ حينما يتعلق الأمر بمأساة الموريسكين، وعلى العكس من ذلك كان تعاطي الحكومة الإسبانية مع اليهود الذين طردوا خلال نفس المرحلة التاريخية من الأندلس وتعرضوا بدورهم للتضييق والتهجير والتعذيب، مختلفا، وهكذا استجابت الحكومة الاسبانية منذ 17 عاما (1992) للضغوط التي مارسها اللوبي اليهودي وقدمت لهم اعتذارا رسميا على كل الفظاعات التي ارتكبت ضدهم خلال تلك الفترة، وإلى جانبه أقر القانون الإسباني منح الجنسية الإسبانية للمتحدرين من أصول أندلسية من بين اليهود السفارديم الذين كانوا يعيشون في الأندلس الإسلامية، والذين طردوا بدورهم منها عقب سقوط آخر قلاع الأندلس وتسليم مفاتيح غرناطة للملوك الكاثوليك عام .1492 تجاهل الحكومة الإسبانية لهذا الملف يعزوه الدكتور محمد رزوق أستاذ التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالدار البيضاء، في حديثه مع ''التجديد'' إلى اختلاف وجهات النظر داخل إسبانيا نفسها حول هذا الموضوع، مشيرا إلى أن الهاجس الأمني كان حاضرا دائما، ''فإسبانيا كانت دائما متخوفة من الأندلسيين المسلمين داخلها، أو خارجها'' حسب تعبير الدكتور رزوق. من جانبه يرى الدكتور أحمد الريسوني الخبير في مجمع الفقه الإسلامي، أن قضية مسلمي الأندلس لا تجد من يدافع عنها ويروج لها في المحافل الدولية والأكاديمية والإعلامية، كما هو الشأن بالنسبة لليهود الذين اعتذرت لهم إسبانيا والذين يدافعون بقوة وشراسة عن قضاياهم ''الحقيقية والوهمية''، مشيرا في تصريح سابق ل''التجديد'' إلى أصوات بعض المؤرخين والنشطاء الحقوقيين المدافعين عن ملف الموريسكيين، لكنها كما يقول أصوات ضعيفة ومبحوحة لايمكن أن تفرض على الدولة الإسبانية ولا على حكومة الأندلس ولا على البابا الاعتذار والاعتراف بهذا الخطأ التاريخي، بحكم ضلوع البابا في ذلك الوقت في الجرائم والفظاعات التي ارتكبت في حق مسلمي الاندلس. هذا الصمت والتجاهل انتقده الكاتب الإسباني المعروف خوان غويتصلو والذي يعيش في مراكش في مقال نشره في جريدة ''إلباييس'' بالتزامن مع إحياء المئوية الرابعة لطرد الموريسكيين حيث أشار إلى أن إسبانيا الرسمية والأكاديمية تتجنب تناول المئوية الرابعة و تلوذ إلى الحذر والصمت إزاء هذه الأحداث لأنها ''جزء من تاريخنا المشؤوم: ففي 1609 تم طرد الآلاف من المواطنين المسلمين'' من إسبانيا. وشدد على أن طرد الموريسكيين في عهد فيليب الثالث هي واحدة من الحلقات المحرجة للشعور الوطني. وقال غويتصلو في مقاله المعنون ب''المحاكمة: الموريسكيون.. القصة غير المريحة'' أن الأحداث التي شهدتها السنوات من 1609 إلى 1614 شكلت سابقة على مستوى التطهير العرقي في أوربا، حتى ''تظهر الملكية الإسبانية بأنها بطل العالم المسيحي في أوربا''، بحسب ما كتبه برنارد فانسنت واحد من أكبر المتخصصين في هذا الموضوع ، ومؤلف عدة كتب عن هذا النزوح الجماعي. هل يكفي الاعتذار؟ في السنة الماضية أحيا الجانب المغربي حيث يعيش قرابة 4 ملايين من أحفاد الموريسكين، مرور الذكرى 400 لطرد المسلمين من الاندلس، وأصدر المؤرخ في التراث الأندلسي علي الريسوني بيانا اعتبر فيه أن انقضاء 400 سنة (9 أبريل 1609 - 9 أبريل 2009) على مأساة طرد الموريسكيين '' مناسبة للتذكير بتلك الجرائم التي تشيب لها الولدان، ومناسبة كذلك لمخاطبة الرأي العام الوطني والدولي لاستحضار مشاهد البطش والإرهاب والهمجية والبربرية ضد تلك الفئة من الموريسكيين الذين طردوا من أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم ظلما وعدوانا''. وشدد البيان على أن إسبانيا ''ملزمة حاليا بإعادة الاعتبار لكل أحفاد الأندلسيين، وتعويضهم معنويا وأدبيا عما لحق أسلافهم''. وكان أحفاد الأندلسيين في المغرب قد عقدوا أول مؤتمر لهم في شفشاون عام ,2002 طالبوا فيه إسبانيا بالاعتذار عما لاقاه أجدادهم. الدكتور محمد رزوق يرى في حواره مع ''التجديد'' أن الاعتذار أو التعويض لن يفيد الموريسكيين من الناحية العملية، و لكن سيفيدهم معنويا بإبراز الحقائق التاريخية المرتبطة بهذا الحدث التاريخي الهام. وهو الرأي الذي ذهبت إليه الدكتورة فدوى الهزيتي الأستاذة بجامعة الحسن الثاني، خلال ندوة دولية بالرباط حول ''الموريسكيون وتراثهم: بين الأمس واليوم''، حين قالت إن التعويض الذي يستحقه الموريسكيون هو التعويض العلمي، وذلك عبر البحث والكشف عن الحقائق والملابسات، وتوثيق الوقائع والأحداث التي عانى منها المطرودون. في الوقت الذي رأى فيه برنار فانسان، من معهد الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية بفرنسا، خلال نفس الندوة، أن الاعتراف أو الاعتذار عن طرد الموريسكيين من طرف البابا أو الحكومة الإسبانية هو حق، ووصف المطالبة بأي شيء فوق هذا بأنه ''مثالي''، معتبرا أن المطالبة بعودة الموريسكيين أو تعويضهم ماديا أمرا ''سرياليا''. خطوة مبتورة قدم الحزب الاشتراكي الحاكم أمام لجنة الخارجية في البرلمان الإسباني مشروع قانون ينص على رد الاعتبار لأحفاد الموريسكيين الذين طردوا بشكل جماعي من الأندلس'' ولقي المشروع دعما من ''تجمع اليسار المتحد '' ومعارضة الحزب الشعبي المعارض، الذي دعا رئيس الحكومة إلى الانشغال بشؤون إسبانيا الداخلية بدل البحث في بطون التاريخ وأحداث وقعت قبل أربعة قرون فيما اعتبر الناطق باسم لحزب الاشتراكي في البرلمان خوسيه أنتونيو آلونسو إن الهدف من هذا القرار +هو تعزيز العلاقات بمختلف الطرق، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مع الشعوب التي تنحدر من الموريسكيين الذين طردوا من إسبانيا في القرن السابع عشر، ويسكنون حاليا في المغرب العربي وأفريقيا.. وهو اعتراف رسمي بالظلم الذي تعرض له الموريسكيون المطرودون؛. كما رأى ممثل تجمع اليسار المتحد غاسبار ياماثاريس أن مشروع قرار الاعتذار +يعد تعويضا رمزيا للموريسكيين؛. وطالب الفريق الاشتراكي باعتراف مؤسساتي بالموريسكيين مماثل للاعترافات المؤسساتية التي تمت المصادقة عليها بخصوص اليهود السفارديم، الذين طردوا من إسبانيا في عام .1492 وهذا المشروع هو جزء من مبادرات قامت بها حكومة ثاباتيرو منذ توليها مقاليد الحكم في إسبانيا سنة ,2004 ومن هذه المبادرات ''قانون الذاكرة'' الذي أعاد فتح ملف الحرب الأهلية الإسبانية التي جرت في ثلاثينيات القرن الماضي، والقانون المتعلق بالرموز السياسية في مرحلة الجنرال فرانسيسكو فرانكو، والذي تم بموجبه إلغاء العديد من تماثيل الجنرال السابق في ساحات بعض المدن الإسبانية. هذا وينص مشروع القانون إلى '' رد الاعتبار لأحفاد الموريسكيين، الموجودين في المغرب، وفي بعض البلدان المغاربية (تونس والجزائر)، و في بلدان المشرق''. كما يوصي بتقوية العلاقات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية مع الموريسكيين المغاربة، وأشار نص المقترح إلى أن الموريسكيين اضطهدوا بسبب دينهم وثقافتهم، وحرموا من ممتلكاتهم، وطردوا من أراضيهم، لكنهم حافظوا مع ذلك على جذورهم الثقافية وتقاليدهم وعاداتهم وتراثهم الفني إلى حد اليوم. وأكد معدو هذا المقترح أن استعادة الذاكرة التاريخية تشكل عملية نقد للماضي، لتحسيس المواطنين الاسبان وتوعيتهم بحجم المخاطر التي يمكن أن تنجم عن عدم التسامح والتعصب والعنصرية والافكار المسبقة، داعين إلى العمل من أجل عالم أفضل، وتعزيز المثل العليا التي اعتمدها تحالف الحضارات، لكنه لا يطالب الدولة بالاعتذار الرسمي عن تلك المأساة، أو تعويض أحفاد المطرودين اليوم مقابل ممتلكات أجدادهم التي سلبت منهم، أو تمكينهم من الحصول على الجنسية الإسبانية إسوة باليهود السفارديم الذين طردوا من الأندلس قبل خمسة قرون، وصدر بشأنهم قانون عام ,1992 يعتذر لليهود الأسبان.