على شاشة التلفزيون العمومي، يخرج وزير الداخلية محمد حصاد ليعلن عن التدابير التي اتخذتها الحكومة لفك عزلة مئات الدواوير المحاصرة بالثلوج. ترد المعارضة بخطاب انتقادي، لتؤكد بأن عددا كبيرا من الدواوير انقطعت بها الأوصال وسط الجبال. يغلق موحا جهاز التلفاز، ويخرج من منزله في اتجاه السوق الأسبوعي، ثم يعود بخفي حنين. الثلوج أغلقت الطرقات حتى إشعار آخر. هنا أزيلال..أو "معتقلات" جبال "الموت" بالأطلس الكبير. تقول الخريطة الجغرافية إن جماعة «آيت ماجطن» تقع تحت النفوذ الترابي لإقليمأزيلال، أما خريطة التنمية المحلية فلا تعترف بدواوير هذه المنطقة، وكأنها استسلمت للحصار الصخري المفروض عليها من وراء جبال الأطلس الكبير. سكان المنطقة لا يطالبون بأكثر من «أضبيب» و»أبريد»، أما بعض مثقفي دواوير الجماعة فلا يرون في التهميش الذي عانته منذ عشرات السنين غير نتيجة مباشرة لماض كان فيه لأبناء المنطقة الكلمة في الصراع السياسي مع الدولة.. لفقيه البصري أحد أشرس هؤلاء المعارضين. واقع التهميش الذي تعانيه دواوير إقليمأزيلال استنفر المجتمع المدني لإنقاذ السكان من براثين الفقر والهشاشة، وتنظيم حملات تضامنية سواء لتقديم الأغطية والأغذية، أو أيضا لتقديم الخدمات الصحية بدعم من وزير الصحة، حسين الوردي. «الطريق المؤدي إلى أزيلال عبر سد بين الويدان مقطوع بسبب الثلوج، وما علينا إلا أن نتجه نحو مراكش». يقول سعيد عثمان أقداد، الكاتب العام لمنظمة فضاء المواطنة والتضامن في حديث للسائق، دقائق قبل انطلاق قافلة طبية من الرباط. تسير السيارة نحو أزيلال، عبر الطريق السيار المؤدي إلى مراكش. لا يتوقف هاتف الكاتب العام للجمعية عن الرنين، وتتوالى المكالمات للاطمئنان على القافلة، أما بعض الطبيبات المتطوعات فانهمكن في نقاش ذي شجون حول أهمية العمل الميداني في القرى النائية، وما يوفره من خبرة صلبة للأطباء. وصنا إلى المدينة الحمراء في حوالي العاشرة مساء، لنلتحق بمرآب المديرية الجهوية للصحة بجهة مراكش تانسيفت الحوز، حيث سيتم تدعيم القافلة بسيارة ستتكلف بنقل الأدوية، وبعض الأطباء المتطوعين من مدينة مراكش. انطلقت القافلة من جديد نحو جبال أزيلال، لندخل في منعرجات خطيرة تثير الرهبة في النفوس، معلنة للزوار محاصرتها لآلاف السكان في عزلة تامة عن العالم الخارجي. وصلنا إلى المدينة منهكين متعبين في حوالي الثالثة صباحا، وتفرق الجميع في غرف الفندق المخصص للمشاركين، لينطلقوا بعد أربع ساعات في رحلة الشتاء والثلج نحو دوار آيت ماجطن. «أبريد» والبرد تتجه عقارب الساعة إلى الثامنة صباحا. درجة الحرارة نزلت إلى ما دون الصفر بمدينة أزيلال، المحاطة بجبال بيضاء عزلت السكان عن العالم الخارجي، وحولت حياتهم إلى جحيم لا يخفف من وطأته إلا تدخل السلطات الإقليمية والمحلية، أو التفاتة المجتمع المدني إلى المناطق الجبلية المهمشة. تنطلق القافلة في اتجاه دوار «وريد» التابع لجماعة آيت ماجطن. هنا تتغير أحوال الطرق كما تتغير أحوال الطقس. طريق وطنية، فطريق جهوية، فمسلك طيني من 5 كيلومترات. «لم نذهب للسوق خلال الأسبوع الماضي، لأن قوة التساقطات المطرية قطعت عنا المسلك الوحيد الذي يوصلنا إلى السوق»، يقول أحد سكان الدوار. وصلنا القرية بعد ساعة من الزمن. داخل المدرسة حيث سيتم تنظيم الحملة كان أعضاء جمعية «وريد» ومعهم سكان المنطقة ينتظرون بفارغ الصبر وصول القافلة الطبية، لعلهم يتمكنون من تشخيص أمراضهم والحصول على الأدوية مجانا، لرفع ولو جزء بسيط من عزلة طال أمدها لعقود. نصب أبناء القرية خيمتين لاستقبال الزوار، الذين خُصص لهم فطور محلي خفف من الأجواء الباردة التي خيمت على «وريد» في هذا الصباح الشتوي. أما الفريق الطبي المكلف بإجراء الفحوصات فانهمك في وضع آخر الترتيبات قبل بدء العملية. «نحن نعاني من ظلم الإنسان والطبيعة..فهناك قساوة المناخ، لكن أيضا لا مبالاة المسؤولين، إذ تضطر أغلب النساء إلى وضع مواليدهن في المنازل، فيما يتم نقل أخريات في ظروف مزرية إلى المستشفى، وقد تفقد بعضهن الحياة في الطريق»، يقول موحا، شيخ من وريد، في حديث ل»المساء». أما امحمد، المزداد سنة 1936، فيختزل معاناة السكان في «أبريد» أو الطريق. «قد نضطر لنقل النساء الحوامل فوق نعش الأموات، وحتى إذا وصلنا إلى تانانت (10 كلم) فإننا نواجه مشاكل غياب سيارة الإسعاف، وقد نصل إلى أزيلال ويتم توجيهنا إلى بني ملال.. إنه وضع صعب لا تعي قساوته إلى من عايشناه من نساء القرية». أمراض الفقر والثلج داخل حجرة دراسية تآكلت جدرانها، انهمكت الدكتورة و الدغوغي، الأخصائية في علم الأوبئة بمديرية السكان بوزارة الصحة، في تشخيص الأمراض التي تشتكي منها بعض النساء، فيما تكلف باقي الأطباء باستقبال الأطفال والرجال، والنساء اللواتي لا يحتجن للفحص. أغلب الأمراض التي تم تشخيصها ترتبط بالطبيعة القاسية للمنطقة. تقول الدكتورة نوزهة في حديث ل»المساء»: «وقفت على مجموعة من الحالات المرضية التي تعاني من تعفنات مهبلية، وحالات عقم، وغياب تتبع مراحل الحمل». الدكتورة نوزهة نبهت إلى كون أغلب النساء تلدن داخل بيوتهن، بسبب غياب التحسيس أو البعد الجغرافي للمؤسسات الاستشفائية، وهو ما يؤدي في بعض الحالات إلى وفاة الجنين أو ظهور إعاقات لدى المواليد. ورصدت أخصائية علم الأوبئة غياب التحسيس الذي يؤدي إلى إشكالات مرتبطة بتنظيم النسل. أمراض الفقر والبرد لها أيضا النصيب الأوفر بين السكان. الفريق الطبي للحملة سجل مجموعة من حالات الإصابة بالأمراض الصدرية، والعظام، والضغط الدموي، وإصابة بعض الأطفال ب»الجربة»، والأمراض التنفسية احتاجت حصصا من التدليك التنفسي. نبيلة الودغيري، أستاذة التعليم شبه الطبي بمديرية السكان بوزارة الصحة، تكلفت بعلاج بعض الأطفال الذين يعانون إشكالات في التنفس. تقول نبيلة في حديث ل»المساء»: «قدمت حصصا للتدليك التنفسي لاستخراج الرغام، وهناك ثلاث حالات تحتاج للمتابعة بمستشفى أزيلال». عمل نبيلة لم يقتصر هذا الصباح على التكفل بالأطفال الذين توافدوا على القسم المخصص لطب الأطفال، بل بادرت إلى تقديم حصة للتربية الصحية لتلاميذ المدرسة (حوالي 80 طفلا)، منها ما يتعلق بالنظافة والتغذية الجيدة والتحسيس بمخاطر التدخين، وأخرى ذات طبيعة خاصة تتعلق بالبلوغ عند الفتيات والحماية من التعفنات التناسلية. فك العزلة تحرك الأطباء والطبيبات المتطوعين، في إطار القافلة التضامنية التي نظمتها منظمة فضاء المواطنة والتضامن، رافقه دعم مهم من طرف وزير الصحة حسين الوردي، الذي قدم مختلف التسهيلات والدعم اللوجيستيكي وكميات مهمة من الأدوية لفك عزلة الأسر في المناطق المستهدفة. بالنسبة لسعيد عثمان أقداد، الكاتب العام لمنظمة فضاء المواطنة والتضامن، فهذه المناطق وغيرها تحتاج لتنظيم القوافل الطبية، «فهناك عدد كبير من السكان الذين لا يستطيعون الانتقال إلى المستشفى «لضعف حالهم» أو لبعد المنطقة عن مؤسسة استشفائية قادرة على تقديم العلاجات الضرورية». ويوضح سعيد أن «هذه القافلة جاءت بعد تسع عمليات مماثلة سنة 2013، وتم بدء سنة 2014 بقافلة طبية في منطقة نائية وجبلية معزولة»، ومشيرا إلى أن «بعدها عن المستشفيات يتطلب في إطار القرب الصحي أن تخصص لها مثل هذه القوافل الطبية». القافلة تضمنت مجموعة من التخصصات، منها طب النساء والتوليد، وطب الأطفال والترويض، وطب العظام، والأمراض الصدرية، إضافة إلى كميات مهمة من الأدوية التي تم توزيعها على المستفيدين بشكل مجاني. حصيلة المستفيدين من العملية وصلت حسب الكاتب العام للمنظمة إلى 877 مستفيد من الخدمات الطبية، إذ أكد أن اختيار مثل هذه المناطق يتم حسب حاجة الجهات المستهدفة إلى مثل هذه التدخلات، إضافة إلى التكفل ببعض الحالات المرضية، إذ ستقوم المنظمة بالتكفل بطفلة تحتاج إلى عملية جراحية بمدينة الرباط. واقع التهميش الذي تعانيه المنطقة دفع أبناءها إلى التفكير في حلول بديلة والتكتل للدفاع عن مصالح السكان. عمر بو الظهر، رئيس جمعية «وريد» للتنمية والتعاون، قال ل»المساء» إن «المشاكل الأساسية التي تعاني منها المنطقة هي غياب طريق معبد، وبالتالي فالجمعية تشتغل على فك العزلة عن 13 دوار، التي يقدر عدد سكانها ب20 ألف نسمة، بتشييد طريق معبد، لأن المسلك الترابي الذي يستعمله السكان يعود إلى حقبة الاستقلال، وأصبح اليوم في وضع يرثى له». ويلخص رئيس الجمعية أبرز التحديات التي تشتغل عليها الجمعية في ورش الطريق، ومحاربة الهذر المدرسي، وتوفير الخدمات الصحية للسكان، إذ قال في هذا الإطار: «»لقد كان الدوار يتوفر على ممرض، كان يشتغل في مقر شيدته الجمعية، لكننا تفاجئنا بمغادرته للدوار، وهو ما ترك السكان في وضع حرج». لكن المفارقة الغريبة التي صادفناها ونحن نتحدث للسكان هي أن الجماعة القروية لآيت ماجطن تعد من أغنى الجماعات القروية بالمنطقة، إذ تستفيد من مداخيل مالية تقدر ب500 مليون سنتيم، في إطار استفادتها من مداخيل إنتاج الطاقة الكهربائية بسد بين الويدان. علم تحت المطر داخل حجرات تآكلت جدرانها، تكدس تلاميذ مدرسة دوار «وريد» إلى جانب بعضهم، فيما انهمكت المدرسة في تقديم الدرس الصباحي. المؤسسة التعليمية لهذا الدوار تم تشييدها في سنة 1956، وتخرج منها عدد كبير من الأطر العليا في البلاد، وبعض «أشرس» المعارضين في المراحل السابقة. تركنا الحجرات المخصصة لتقديم العلاجات، لنقوم بزيارة لمختلف أركان هذه المؤسسة التعليمية. أغلب الأقسام ومرافق المؤسسة أصبحت مهددة بالانهيار، بعدما برزت قضبانها الحديدية، وانهارت أجزاء من سقوفها، محذرة المسؤولين من كارثة إنسانية قد تعصف في أي لحظة بالتلاميذ والهيأة التربوية. كلما تساقطت الأمطار إلا وتحولت سقوف المدرسة إلى غرابيل تتسرب منها المياه. وكلما سألنا أطفال المدرسة عن أبرز مشاكلهم داخل فصولهم الدراسية، إلا وكان جوابهم: «القطرة»، في إشارة إلى المياه التي تتسرب إلى أقسام الدراسة، كلما حل فصل الشتاء. لكن بعض أطفال الدوار لا يتمكنون حتى من الوصول إلى المؤسسة بسبب الظروف المناخية السيئة. «أقطن في منطقة تبعد عن المدرسة بحوالي 5 كيلومترات، وعندما تتهاطل الأمطار بكثافة أصل متأخرا، وقد لا أصل في كثير من الأحيان»، يقول أمين، تلميذ بالمدرسة. خلال حديثنا لمجموعة من التلاميذ، ألح أبناء «وريد» على «المساء» أن تنقل صرختهم بغية إيجاد حل لإشكالية النقل المدرسي، وبشكل خاص لوضعية المطعم المدرسي الذي يعاني من مشكل حقيقي في الجانب المتعلق بالنظافة، وهو ما دفع إحدى الطبيبات إلى طرح الإشكال على أحد المسؤولين، بعدما أسر إليها التلاميذ بالحالة المتردية لهذا المطعم. لم تنته الكلمات، ولا خفت صوت الأطفال الذين ظلوا يهمسون في آذان ضيوف الدوار آمالهم في غد أفضل، لعلهم يحملون رسائل السكان إلى كل من يهمه الأمر. أرخى الليل سدوله على «وريد» وانصرف الجميع نحو ديارهم، ليعود أعضاء القافلة الطبية إلى الرباط، بعدما رسموا البسمة على سكان دوار رمت به الأقدار في معتقلات جبال «الموت» بقرى إقليمأزيلال.