حجج ساركوزي لم تقنع زعماء بارزين في الموالاة والمعارضة عندما انسحب الجنرال شارل ديغول من الحلف الأطلسي في عام 1966 ما كان يتخيل أن نيكولا ساركوزي، خليفته الأبعد في التيار الديغولي، سيعيد فرنسا إلى الحلف بشروط لا تسمح حتى بإنقاذ ماء الوجه، ذلك أن الجنرال الراحل لم يكن مناهضا للحلف، كما يشاع، فهو من الموقعين على إنشائه قبل ستين عاما، وقد بارك تمركز القواعد العسكرية الأمريكية على الأراضي الفرنسية ضمن مشروع مارشال الذي قضى ليس فقط بإنقاذ الاقتصاد الأوربي بعد الحرب العالمية الثانية وإنما أيضا بتوفير الحماية الأطلسية لأوربا في مواجهة التهديد السوفياتي. كما وافق ديغول على أن تتمركز هيئة أركان الحلف في «فرساي» و«فونتان بلو»، بيد أنه سيكتشف، أثناء خروجه من الحكم، أن الولاياتالمتحدة ومعها وبريطانيا وهولندا لا تريد شراكة فرنسية في قيادة الأطلسي وأن كلمة بلاده غير مسموعة في هيئات الحلف العليا، لذا قرر، فور عودته إلى السلطة (1958)، أن يضغط على القيادة الأمريكية لتغيير المعادلة من الداخل، فوجه مذكرة إلى الرئيس إيزنهاور طالب فيها بأن تكون فرنسا شريكة في قيادة الأطلسي شأنها شأن بريطانيا، فجوبه برفض شديد رد عليه بسحب الأسطول الفرنسي المتوسطي من التشكيلات الأطلسية وبوجوب الحصول على إذن سنوي بالطيران فوق الأراضي الفرنسية واستعادة وسائل الدفاع الجوي الوطنية وتظاهر ببرنامجه النووي المستقل، بيد أن هذه الضغوط ظلت بلا صدى يذكر، فكان أن طرد القواعد العسكرية الأمريكية من الأراضي الفرنسية عام 1966 وأعلن انسحاب بلاده من جناح الحلف العسكري مع الحفاظ على عضويتها في الهيئات السياسية الأطلسية، وذلك بعد أن فجر القنبلة النووية الأولى في الصحراء الجزائرية، محذرا من أن الاعتداء على فرنسا سيكلف المعتدي نتائج نووية مروعة. وعلى الرغم من أن الترحيب العالمي بطرد القواعد العسكرية الأمريكية رفع ديغول إلى مرتبة كبار الزعماء في العالم، ولاسيما في المعسكر الاشتراكي، إلا أنه ظل حليفا مخلصا لواشنطن بمواجهة التهديدات السوفياتية. وقد برهن عن إخلاصه الأطلسي المطلق في أزمتي برلين عام 1961 وكوبا عام 1962. الثابت أن انسحاب ديغول من الأطلسي وإصراره على القرار المستقل لبلاده ارتسم كسقف ما كان بوسع أي من خلفائه في الإليزيه اختراقه رغم حساسياتهم السياسية المختلفة ابتداء من جورج بومبيدو وفاليري جيسكار ديستان حتى فرانسوا ميتران وجاك شيراك. هؤلاء جميعا دافعوا عن الدور الفرنسي المستقل في العالم ورددوا الشرط الديغولي نفسه للعودة إلى الأطلسي دون أن يؤدي ذلك إلى تغيير جدي في الموقف الأمريكي أو الأنكلوساكسوني عموما. وإذا كان صحيحا أن العالم تغير منذ انهيار الحرب الباردة وأن الاتحاد السوفياتي اختفى من الخارطة العالمية، ناهيك عن انهيار جدار برلين ونشوب أحداث 11 سبتمبر 2001، إذا كان ذلك كله صحيحا فالصحيح أيضا أن الولاياتالمتحدة تغيرت بدورها ولم تعد تلك القوة الحصرية في العالم، بل هي اليوم أضعف وأقل تأثيرا مما كانت عليه خلال العقود الماضية، فما الذي دفع رئيس فرنسا الشاب إلى اختراق السقف الديغولي الأسطوري، وبالتالي العودة إلى الحلف بنفس الشروط الأمريكية المستمرة منذ ستين عاما؟ حجج ساركوزي لم تقنع زعماء بارزين في الموالاة والمعارضة اليسارية (ألان جوبيه ودومنييك دوفليبان وفرانسوا بايرو وهوبير فيدرين وليونيل جوسبان). فهؤلاء يعتبرون أن هذه الخطوة ستضعف الصوت الفرنسي المستقل في العالم دون أن تتيح التأثير في استراتيجية الحلف الرامية إلى توسيع نطاق عملياته ليشمل إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط. أما حديثه عن تولي باريس قيادتين أساسيتين في الأطلسي، الأولى في فيرجينيا والثانية في لشبونة، فإن بعض الخبراء العسكريين الفرنسيين يعتبرون أن المنصب الأول شكلي ويتصل بأبحاث «استراتيجية وفلسفية» تحت إشراف أمريكي، والثاني ينطوي على تشكيل قوة تدخل سريع من 25 ألف جندي لم تشكل بعد وهي خاضعة لقيادة الأطلسي في أوربا، وبالتالي من الصعب أن تؤثر باريس جوهريا في سياسة الحلف عبر هذين الموقعين. تبقى الأسباب غير المعلنة للعودة الفرنسية إلى الأطلسي، ومن بينها أن 21 دولة من أصل 27 في الاتحاد الأوربي باتت تنتمي إلى الحلف، الأمر الذي يمنحه موقعا حاسما في الاتحاد لمسنا أثره في حرب العراق حين عمدت واشنطن إلى شق صفوف الأوربيين وتهميش المعارضة الفرنسية الألمانية للحرب، فضلا عن كون باريس باتت تدرك أن رهانها على تشكيل سياسة دفاعية أوربية جدية أمر متعذر، أقله في الأفق المنظور، في حين تتضاءل وسائلها العسكرية الخاصة، وبالتالي يتعذر عليها رفد طموحاتها السياسية العالمية بقوة عسكرية متناسبة. هذا إذا أردنا إهمال المكاسب التي يطمح ساركوزي إلى تحقيقها، وليس أقلها شأنا الإفادة من سوق خرافي يتمثل في إعادة إعمار العراق والحاجة الماسة إلى الأطلسي من أجل الدفاع عن المصالح الفرنسية في العالم بعدما أن تكشفت محدودية القوة العسكرية العظمى في العالم في العراق وأفغانستان، أولا، وفي الحربين الإسرائيليتين في لبنان وغزة، من بعد، حيث التيار الإسلامي المسلح يواجه الأطلسي والغرب منفردا في كل تلك الجبهات. قد لا يكون نيكولا ساركوزي مغرما، في قرارة نفسه، بالغطرسة الأمريكية شأنه شأن معظم الفرنسيين، لكنه بالمقابل يدرك أن عودة بلاده إلى الأطلسي شرط لا بد منه للتضامن الغربي على الطريقة «الديغولية»، إن جاز التعبير، وكي تتمكن باريس من اللعب في الملعب الأمريكي دون صعوبات، فتدافع عن مصالحها الخاصة وتحافظ على موقعها في مجلس الأمن الدولي.. أما الصوت الفرنسي المستقل فلن يتردد صداه بعد اليوم إلا في قرية «كولومباي لو دو زيغليز» حيث يرقد شارل ديغول في مثواه الأخير.