سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الزوايا في المغرب.. من مصدر مشروعية في الداخل إلى أداة للصراع الإقليمي لعبت أدوارا مختلفة على المستوى السياسي، الديني، الاجتماعي، الاقتصادي أو الديبلوماسي
ادريس الكنبوري لعبت الزوايا في تاريخ المغرب أدوارا مختلفة، سواء على المستوى السياسي أو الديني أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الديبلوماسي. ويعود ذلك بشكل أساسي إلى التداخل الذي كان قائما بين الانتماء الديني والانتماء الصوفي في المغرب، الذي عرف في تقاليد الدراسات الإثنوغرافية الأوروبية بأنه «أرض الأولياء»، بالنظر إلى أن التصوف شكل جزءا من الهوية الجماعية بالمغرب الأقصى وبمنطقة الغرب الإسلامي بشكل عام. وقد صاغ الفقيه والصوفي الأندلسي الفاسي عبد الواحد بن عاشر، دفين سلا، في كتابه الشهير»الحبل المتين على نظم المرشد المعين» مكونات الهوية المغربية في البيت التالي: في عقد الأشعري وفقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك وقد تأتى للزوايا الصوفية أن تلعب تلك الأدوار مجتمعة لكونها كانت تعتبر «الوحدة السياسية» الوحيدة في مجتمع تلك الفترة، الذي كان يخلو من الأطر الاجتماعية التي يمكنها تأطير أفراد المجتمع والمساهمة في الضبط الاجتماعي، إلى جانب الدولة المركزية. وبحكم الطبيعة القبلية التي كانت سائدة، كانت الزعامة القبلية تندمج أحيانا في الزعامة الصوفية لتشكل زعامة واحدة، كما كان الانتماء إلى القبيلة يمر عبر الانتماء إلى الزاوية، بحيث كانت مجموعة من القبائل تتبع لزاوية معينة، فيما تتبع قبائل أخرى إلى زاوية ثانية، الأمر الذي كان يجعل من الطبيعي أن تكون الخصومات بين الزوايا خصومات قبلية، وبالعكس. وهكذا أمكن للمخزن في المغرب أن ينسج تحالفات دائمة أو مؤقتة مع زوايا بعينها في فترات مختلفة، بهدف ضمان ولاء القبائل التي تتبع لها، وهو ما جعل النزاعات التي كانت تقوم بين بعض القبائل وبين المخزن نزاعات موازية مع الزوايا التي تنتمي إليها تلك القبائل. وفي نفس الوقت كان المخزن يعتمد على الزاوية الأكثر انتشارا في صفوف أوسع نطاق من القبائل، بحيث كان يختار جيشه من أبنائها لضمان الولاء. وكان ذلك التحالف يوفر للطرفين المكاسب التي يسعى إليها، فالدولة تجد فيه سندا لمشروعيتها ووسيلة لفرض شوكتها، والزاوية تجد فيه وسيلة لبسط نفوذها على القبائل الأخرى والاستقواء عليها بالمخزن، وإطلاق يدها في الغصب. بيد أن الدولة، على الرغم من ارتكاز مشروعيتها على الدين، لم تكن تأبه لأشكال الانحرافات السلوكية والبدع الدينية التي كانت منتشرة في بعض الزوايا، لأن البحث عن التوازنات السياسية والقبلية كان أسبق لديها من مهمة النهي عن تلك الانحرافات، ولأن مثل تلك المحاولة كان من شأنها أن يخلق مواجهات مع النظام المركزي ويؤدي إلى الاضطرابات القبلية. ويلاحظ أن الفقهاء جلهم كانوا يلتزمون بالصمت تجاه تلك الانزلاقات البدعية، صونا للوحدة الاجتماعية وخوفا من الفتنة. وقد أدرك الاستعمار الغربي لمنطقة شمال إفريقيا، ومنها المغرب، هذه الأهمية التي كانت تلعبها الزوايا في النسيج الاجتماعي القبلي، وفهم أنها كانت دائما مفتاح الاستقرار أو الفوضى بالنظر إلى ذلك التداخل بين الزاوية والقبيلة. لذلك سعى منذ دخوله المنطقة إلى نسج تحالفات معها بوصفها الأداة الأكثر نجاعة لضمان استقرار الوضع لصالحه، وهو ما أدى إلى الانقسام داخل خريطة الزوايا بين الموالين للاحتلال وبين المدافعين عن حوزة البلدان في مواجهته. غير أن مرحلة ما بعد الاستعمار في المغرب حملت معها مفهوم الحزب كإطار جديد للانتماء، مع نشأة الحركة الوطنية التي ارتكزت في عملها على معايير غير تلك التي كانت ترتكز عليها الزاوية. فقد ظهرت النزعة الوطنية مكان النزعة القبلية، بعد أن عملت الحماية على توحيد القبائل تحت سلطة المخزن والحسم مع ظاهرة السيبة القبلية التي كانت منتشرة من قبل. كما أن المضمون الديني السلفي الذي جاءت به الحركة الوطنية في بداية عهدها كان يتناقض مع المضمون الديني الطرقي الذي كان سائدا لدى الزوايا، بسبب انتشار البدع والانحرافات السلوكية والأخلاقية التي انتشرت بشكل كبير وأصبحت جزءا لا يتجزأ من ثقافة الزاوية. ومع أن الصراع بين الحركة الوطنية والزوايا كان يدور في قسم منه على الجانب الديني، في إطار الدعوة إلى الإصلاح وتجاوز الخرافة، إلا أنه في قسم آخر منه كان يدور حول مصدر المشروعية السياسية في البلاد، لأن الزوايا كانت تعتبر أيضا عائقا أمام انتشار الحركة الوطنية في صفوف المجتمع ومنافسا لها على مستوى سلطة الانتماء. وقد لعبت الحركة الوطنية هذا الدور أيضا لصالح الدولة المركزية، لأن هذه الأخيرة ما كان لها أن تسمح بعودة نفوذ الزوايا كما كان بالأمس، حينما كانت تشكل مصدر تهديد دائم. ويمكن القول بأن هذه السياسة، في الوقت الذي ساهمت في تقزيم بعض الزوايا التي كانت ذات نفوذ قوي في الماضي وإشعاع ديني على مستوى المنطقة، ساهمت أيضا بالمقابل في تضخيم مكانة زوايا أخرى لم يكن لها دور، في إطار خلق توازنات جديدة على مستوى خريطة الزوايا في المغرب. وتعد الزاوية التيجانية أكثر الزوايا من حيث النفوذ السياسي، بيد أن حضورها الذي صار باهتا في المغرب بقي مجرد جسر لتقوية العلاقات المغربية الإفريقية، لأن الزاوية التيجانية لديها نفوذ أوسع في القارة السمراء، وخاصة في السينغال. ويعود الاهتمام بالزاوية التيجانية من طرف الدولة المغربية إلى القرن التاسع عشر، الذي شهد أهم محطات انتشار الطريقة في كل من المغرب والسينغال، بفضل حركة التنقل التي كان يقوم بها علماء ومريدو الطريقة وشيوخها بين السينغال والمغرب، حيث أصبحت زاوية فاس محجا للتيجانيين من كل أقطار العالم. وفي العام 1963 شارك الملك الراحل الحسن الثاني في تدشين مسجد داكار الكبير، الذي يرمز إلى إشعاع التيجانية في القارة الإفريقية. وقد شكلت هذه الزاوية محط رهان سياسي بين كل من المغرب والجزائر خلال العقد الماضي، وظهرت الخلافات على السطح بشكل خاص في سنة 2006، ففي نوفمبر من تلك السنة نظمت الجزائر أول ملتقى دولي للطريقة التيجانية بمنطقة الأغواط القريبة من عين ماضي، التي تعد مسقط رأس أحمد التيجاني، مؤسس الطريقة، في محاولة لمزاحمة المغرب في المجال الديني بالمنطقة، ضمن إطار الصراع حول النفوذ في القارة الإفريقية، على خلفية النزاع الترابي حول الصحراء. فقد كانت الجزائر تعتبر أن خروج المغرب من منظمة الوحدة الأفريقية(الاتحاد الإفريقي اليوم) عام 1982 بسبب قبول المنظمة عضوية جبهة البوليساريو يعني خروجه نهائيا من مناطق النفوذ، بينما ظل المغرب يعتمد في إدامة وجوده في القارة على نوع من «الديبلوماسية الروحية» أو«الدينية». وفي هذا السياق جرى تنظيم أول مؤتمر للتيجانيين، وكان بالمغرب، سنة 1985. كان الموقف الجزائري يستند على الاعتبار الجغرافي التاريخي، فأحمد التيجاني من مواليد عين ماضي الجزائرية، ولذلك فإن موطن الإشعاع التيجاني يجب أن يكون في تلك المنطقة. وفي المقابل كان المغرب يستند على العنصر الرمزي، لأن أحمد التيجاني دفين مدينة فاس، حيث يعتبر ضريحه قبلة التيجانيين سنويا، والذين تقدر أعدادهم حسب مصادر غير موثقة بنحو 400 مليون نسمة. الطريقة البودشيشية.. زاوية دينية أم كائن سياسي في «دربالة» الدولة؟ ضريف: البودشيشية تسعى باستمرار لإضفاء المشروعية على إمارة المؤمنين والملكية المهدي السجاري كثيرة هي الانتقادات الموجهة للزوايا الدينية بالمغرب، في طبيعة علاقتها مع الدولة وموقعها في خلق التوازنات على مستوى الخريطة السياسية للمغرب، خاصة تجاه باقي جماعات الإسلام السياسي. الزاوية القادرية البودشيشية لشيخها حمزة بن العباس واحدة من الطرق التي توجه لها انتقادات مختلفة، في مزجها بين الجانب الديني والسياسي أيضا، رغم نفي شيخها وحاشيته بشكل مطلق «شبهة» التورط فيما هو سياسي. لكن عددا من المواقف التي عبرت عنها الزاوية أعادت النقاش إلى نواته الأولى، في تفسير الأدوار السياسية لهذه الزاوية الدينية، والتي كان أبرز معالمها في السنوات الأخيرة خروج مريدي الطريقة القادرية البودشيشية لإعلان مساندتهم لدستور 2011، ودعوتهم إلى التصويت عليه بنعم. وعملت الطريقة آنذاك على دفع أي تفسير سياسي لموقفها من الدستور، عندما قالت بأن «الطريقة من خلال هذا التصويت، تعبر عن موقفها، باعتبارها زاوية صوفية تؤمن بضرورة قيامها بواجبها الديني والوطني، متكاملة في ذلك مع مختلف مكونات المجتمع المغربي، دون قصد إعطاء هذا الموقف حمولة سياسية أو توجيهية ضد أي حزب أو جماعة، سواء تعلق الأمر بالعدل والإحسان أو غيرها.. وسوف تعود الزاوية مباشرة بعد القيام بهذا الواجب الديني والوطني، إلى أورادها وأذكارها ووظيفتها التربوية الروحية الصرفة.» ويرى محمد ظريف، المختص في الجماعات الإسلامية، أن كل «الزوايا الفاعلة على غرار البودشيشية لها بعد سياسي واضح، بغض النظر عن العمل السياسي الضيق المرتبط بالتعبير عن مواقف حزبية أو سياسية ضيقة». وأوضح في هذا السياق أن «الطريقة البودشيشية تسعى باستمرار إلى إضفاء المشروعية على إمارة المؤمنين والمؤسسة الملكية، وتجعل من مهامها الأساسية الحفاظ على النظام العام والاستقرار ومواجهة كل التيارات التي تروم المساس بهذا الاستقرار، ومن هذا المنطلق فالبودشيشية في مواقفها الأساسية هي جد واضحة». واعتبر ضريف أن «العديد من الندوات التي نظمتها الطريقة هي ندوات تناقش قضايا ذات ارتباط بالشأن السياسي العام، مثل مناقشة علاقة التصوف بالحداثة»، إضافة إلى «المواقف المعبر عنها من طرف هذه الطريقة من قبيل البيان الذي أصدره الشيخ حمزة في صيف 2005، عندما كان هناك حديث حول دور الملكية بعد الحوار الذي أجرته نادية ياسين، وتحدثت فيه عن دور الملكية في الإسلام بشكل عام، وآنذاك كرد فعل أصدر الشيخ بيانا يتحدث فيه عن دور الملكية في المغرب، التي حافظت على وحدة الأمة». ومن المواقف المعروفة أيضا «مشاركة البودشيشيين في تظاهرات مناوئة للمطالب التي رفعتها حركة 20 فبراير، وهو ما يمكن من الإشارة كذلك إلى كون البودشيشية فتحت أبوابها لاستقطاب المئات من الشباب المغاربة الذين كانوا يعملون داخل التيار السلفي، حيث حاولت أن تبرز لهم محاسن التصوف وكان هذا العمل في حد ذاته عملا ذا طبيعة سياسية، باعتبار أنه ينخرط في التوجه العام للدولة بتشجيع التيار الصوفي». وأضاف أن «البودشيشية حتى في هيكلتها ابتعدت عن الهيكلة التقليدية للطرق والزوايا، فهي تتوفر الآن على منابر للتواصل ومواقع إلكترونية، وكانت تنشر قبل ذلك مجلة باسمها، ولها ناطق رسمي باسم الطريقة، وشكلت قطاعا شبيبيا تابعا لها». واعتبر المحلل السياسي المختص في الجماعات الإسلامية أنه: «بشكل عام فالطريقة البودشيشية تلعب دورا سياسيا، إلى جانب الطرق الأخرى كالطريقة التيجانية، وعند الحديث عن الدور السياسي لهذه الطريقة، فلا يجب أن ننسى أنه منذ 2001 هنا في المغرب، كانت هناك مراهنة في إطار الاستراتيجية الدينية الجديدة على الطرق الصوفية من أجل احتواء التيار السلفي، وهي مراهنة تتضمن أبعادا سياسية واضحة». وحول ما إذا كانت الطريقة البودشيشية تلعب دورا في خلق التوازن مع جماعة العدل والإحسان، أوضح ضريف أن الاستراتيجية العامة للدولة هي البحث عن إحداث توازنات، سواء داخل المشهد الديني أو السياسي، والتوازنات أحيانا تتم بشكل أفقي أو بشكل عمودي. ويوضح في هذا السياق أنه «عندما نتحدث عن التوازنات بشكل عمودي فهنا نتحدث عن الدور الذي تلعبه حركة التوحيد والإصلاح لمواجهة جماعة العدل والإحسان. وعندما نتحدث عن إحداث التوازنات على المستوى الأفقي، فإننا نتحدث عن الدور الذي يمكن أن تلعبه الطرق الصوفية لمواجهة جماعات الإسلام السياسي، وكذلك التيار السلفي. ومن هذا المنظور، يوضح ضريف، فإنه «يمكن القول بأن البودشيشية، إضافة إلى طرق أخرى، تلعب هذا الدور في إحداث التوازنات في مواجهة تيارات الإسلام السياسي». هو إذن مزيج بين العمل الديني المحض والتوظيف السياسي للزوايا، في مراحل محددة كان آخرها التصويت على دستور 2011. ورغم نفي مريدي الطريقة القادرية البودشيشية لشبهة العمل السياسي، فإن بعض مواقفها، في محطات مختلفة، تطرح أكثر من سؤال حول تحييد الوظيفة الدينية للزوايا، عن مجال التنافس والصراع السياسي. جرموني: الزوايا الصوفية في المغرب أصبحت لها مصالح ورهانات سياسية أكد أنها قد تكون بديلا لحركات الإسلام السياسي في يد السلطة في هذا الحوار، يشرح رشيد جرموني، المتخصص في سوسيولوجيا التدين، الأسباب التي عجلت بتحول الزوايا الدينية من مراكز لنشر الدين الإسلامي وتحفيظ القرآن إلى مراكز تأثير سياسي وخزانات انتخابية مهمة، مع تقديم تفسيرات لتراجع مكانة هذه الزوايا في المجتمع المغربي، بين ما هو ذاتي مرتبط بها، وما هو موضوعي مرتبط بالمستوى الثقافي للمغاربة، وانتشار وسائل الاتصال الحديثة. ويؤكد جرموني أن السلطة في المغرب تعمل جاهدة على استغلال هذه الزوايا من أجل تثبيت سلطتها الدينية، بناء على توصيات من مراكز بحث دولية، غير مستبعد أن يشكل الإسلام الطرقي المتمثل في هذه الزوايا بديلا عن الإسلام الحركي، الذي تقود الجماعات المنتسبة إليه الحكومات في مجموعة من البلدان العربية، في حال ما فشلت في إنجاح هذه التجارب. حاوره: محمد الرسمي - كيف تحولت الزوايا من أماكن لتعليم الدين وتحفيظ القرآن إلى مراكز تأثير سياسية وخزانات انتخابية اليوم؟ أعتقد أن ذلك راجع إلى أسباب سوسيو- تاريخية ممتدة، وجميعنا يعلم أن الزوايا والطرق الصوفية قامت بأدوار جد طلائعية في تاريخ المغرب، إلى حد أن الراحل محمد عابد الجابري تحدث عن أن المغرب عرف تنظيمين أساسيين حافظا على تماسكه، هما الزوايا والقبيلة، إلى حدود سنة 1930، تاريخ بروز الحركة الوطنية المغربية، وبالتالي كانت الدولة/ المخزن جهازا فوقيا وسطحيا، ولا يستطيع النفاذ إلى أعماق المجتمع، الذي كان تؤطره الزوايا والقبيلة، كما ذكر الراحل الجابري. وبالفعل عندما نتأمل تاريخ المغرب، نجد أن الزوايا قامت بأدوار جبارة، كمواجهة الاحتلال والتهديدات الأجنبية التي كانت تتربص بالمغرب. وفي هذا السياق نذكر الدور الحيوي، الذي اضطلعت به الزوايا: الفاضلية بقيادة الشيخ ماء العينين (1910) بالصحراء لمواجهة المحتل الاسباني، وأيضا جهود الزاوية الوزانية في إمداد المجاهدين المتوجهين إلى تحرير مدنية سبتة، وغيرهما من الزوايا، التي قامت بجهود على المستوى السياسي النضالي، والمستوى التربوي والروحي كالزاوية البودشيشية. لا يمكن أن نتغاضى عن الدور السلبي الذي قام به الاستعمار في ضرب الطرق الصوفية، عن طريق استغلالها لقضاء أغراضه المقيتة، فقد كان في حربه على المغرب يلتجئ إلى بعض الطرق الصوفية للتحالف معها في وجه الحركة الوطنية، كما وقع مع تجربة الزاوية الوزانية. ومع هذه المعطيات التاريخية، هناك تحولات موضوعية حدت من دور الزوايا والطرق، كارتفاع الرأسمال الثقافي عند شرائح مهمة من المجتمع المغربي، بفعل ارتفاع أعداد المتمدرسين، وظهور وسائط جديدة لإشاعة التدين كالإعلام الجديد والدعاة الجدد، وشبكات التواصل الاجتماعي، مما حد من ارتباط الأجيال الجديدة من الشباب بالطرق الصوفية، ولتقديم الدليل على ذلك، فإن الدراسات السوسيولوجية، التي صدرت مؤخرا، تبين هذا الانحسار. فعلى سبيل المثال، وفي آخر دراسة أنجزها معهد «بيو ريسيرش» لسنة 2012 حول واقع التدين في المجتمع الإسلامي، تبين أن نسبة المغاربة الذين سبق لهم زيارة أحد الأضرحة بلغ فقط 26 بالمائة، وقد تأكد أن المغرب من بين الدول المستقصاة، التي تقل فيها هذه العادة. وإذا أضفنا إلى كل ما سبق وجود استغلال ذكي للفاعل الرسمي للزوايا والطرق الصوفية اليوم، فإن كل العوامل السابقة ساهمت في قلب صورة هذه الزوايا من وجهها المثالي والنموذجي إلى وجه براغماتي ونفعي، يتقلب مع الظروف والحيثيات، ويبحث لنفسه عن مصالح ورهانات سياسية ونفعية ورمزية أيضا. ولا شك أن هذا الواقع يرخي بظلاله الكثيفة على مخيال ووجدان المجتمع، مما يجعله يتخذ مواقف سلبية ومشوشة من هذا الفاعل الصوفي. - كيف تستغل السلطة هذا التحول من أجل تثبيت شرعيتها الدينية والسياسية؟ بالتزامن مع وقوع الأحداث الإرهابية في 16 ماي 2003، طرح الفاعل الرسمي مبادرة سميت بسياسة «إصلاح الحقل الديني»، والتي رأت النور مع مستهل سنة 2004، وقد كان الفاعل الرسمي مستحضرا للتهديدات التي يمكن أن يشكلها الفاعل السلفي والفكر الوهابي الحديث، والمختلف عن السابق، مما جعله يستعين –هذه المرة- برصيد الفاعل الصوفي، معتقدا أن هذا الفاعل يمكنه أن يقدم نموذجا للتدين ينسجم مع التوجهات الإيديولوجية للسلطة، وهو ما يقودنا للوقوف عند أهمها على الإطلاق، حيث تجلى في تجديد دماء الفاعل الصوفي، بتجميع الزوايا وتسهيل عملية إدماجها، وإعادة إحياء الأدوار التربوية والروحية، التي يمكن أن تقوم بها هذه الزوايا والطرق، خصوصا في ظرفية تتميز بمظاهر القلق النفسي والفراغ الروحي واختلال المعايير. ولهذا فقد جسد لقاء سيدي شيكر سنة 2008 المحطة الرئيسة في هذه المبادرات. وقد أريد لهذا الملتقى ألا يكون محليا، بل توسع ليضم كل متصوفي العالم، وهي مناسبة تمكننا من أن نفهم الدعوة التي أطلقها وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية إلى تأسيس قطب صوفي أو تجمع عالمي للمنتسبين للتصوف. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد كان الرهان على الفاعل الصوفي يذهب في اتجاهين: الأول تقديم خدمة سياسية كبيرة للفاعل الرسمي، بإعادة ربط جسور التواصل مع العمق الإفريقي للمغرب، والثاني يتمثل في إشاعة نفس من التزكية والروحانيات على تدين المغاربة، لئلا ينساق وراء كل الدعوات السلفية أو «الإخوانية». ويمكن أن نستدعي في هذا السياق الدروس الافتتاحية، التي كان يلقيها منظر التصوف بالمغرب، والفاعل الحكومي وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، السيد أحمد التوفيق، في سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية، والتي تذهب في اتجاه تثمين وتعزيز قيم التصوف باعتبارها المخرج من مأزق الحداثة وما بعد الحداثة. ولا غرابة في أن يراهن حتى الفاعل الخارجي، ممثلا في الولاياتالمتحدةالأمريكية، على هذا النوع من التدين، القائم على فلسفة في التغيير، لا تتدخل في السياسة بمعناها الضيق، وتقدم رؤية تقترب كثيرا من النظرة العلمانية لفصل الدين عن الدولة، ولهذا نفهم لماذا ركزت العديد من التقارير والأبحاث وكذا توصياتهما على دعم هذا النموذج التديني المتسم بطابعه «الستاتيكي». وحتى نفهم جيدا الجهود الحثيثة التي يبذلها الفاعل الرسمي لإشاعة التصوف وضمان «مقبولية اجتماعية»،أي أن يصبح مقبولا اجتماعيا بين الناس، فقد سعى هذا الفاعل عبر بوابة الإعلام، سواء السمعي أو البصري، إلى تقديم نماذج من التصوف السني الوسطي المعتدل «الناعم» وغير المسيس، والذي لا يزعج أحدا، فهو تصوف ينحو نحو الروحانيات وتزكية النفوس والقلوب، وتطهيرها من كل العلل النفسية والاجتماعية التي علقت بها. - بماذا يفسر هذا التقارب بين السلطة في المغرب والزوايا الصوفية عموما، عكس التوتر الذي يجمعها بالحركات الإسلامية الأخرى؟ هناك توصيات للعديد من الأبحاث الدولية والمحلية، وكذلك الضغط الديبلوماسي، الذي تمارسه بمرونة عالية الولاياتالمتحدةالأمريكية لدعم التوجه الصوفي في المملكة المغربية، ضدا على كل التوجهات الإسلامية، كالسلفية أو «الاخوانية»، وحتى نعطي لتحليلنا مصداقية، نشير إلى دراسة كان قد أنجزتها مؤسسة «راند» للأبحاث، تحدثت في إحدى توصياتها عن ضرورة إدماج الفاعل الصوفي في الحياة السياسية، وأيضا إدخال تعديل في المناهج الدراسية، حتى تتعرف الأجيال المتعاقبة على أهمية الفكرة الصوفية. - هل يمثل الإسلام الطرقي بديلا اليوم للأنظمة عن الإسلام الحركي الذي يتولى السلطة في العديد من البلدان اليوم؟ يمكن القول إن الرهان الحالي اليوم منصب على إيجاد صيغة ذكية لإقحام الفاعل الصوفي، وتقديمه كفاعل حقيقي للحركات الدعوية والتسويق له، سواء إعلاميا أو حتى علميا وأكاديميا كصيغة «إنقاذية» للوضع المتأزم الذي آلت إليه الأوضاع في العالم العربي، بين الحركات الاسلامية والمتنفذين في السلطة. لكن في المغرب هناك ملاحظة جديرة بالتوقف، وهي أن دخول الإسلاميين للحكم، ومدى نجاحهم أو فشلهم، هو الذي سيرجح الكفة لصالح هذا الخيار أو ذاك، بمعنى آخر في حالة النجاح، سيكون على الفاعل الرسمي إعادة النظر في استراتيجيات جديدة لتموقع جديد للفاعل الصوفي. أما في حالة الفشل، فإن النموذج الذي يمكنه أن يستقطب اهتمام المغاربة هو الفاعل الصوفي، باعتباره ينأى بنفسه عن الدخول في الرهانات السياسية شديدة التعقيد، والمحفوفة بالعديد من الرهانات والرهانات المضادة، خصوصا أننا نشهد تراجعا في القيم الروحية وطغيان القيم المادية وغياب المرجعيات، وحتى حالة اللامعيارية التي أصبحت واقعا قائم الذات. - نلاحظ أن تأثير بعض الزوايا تجاوز المغرب. كيف يمكن استغلال ذلك لخدمة مصالح المغرب العليا وقضاياه الوطنية؟ صحيح أن تأثير الزوايا في المغرب لم يتوقف عند حدوده، بل تجاوزه إلى العالمية، ويمكن أن نتحدث عن الدور الذي تقومه به الزواية البودشيشية في تأطير نسبة هامة من أفراد الجالية المغربية في أوربا وأمريكا، وأيضا من خلال الملتقيات والندوات الكبرى التي يسهر عليها الفاعل الديني الرسمي، عبر غطاء الزاوية البودشيشية، ويستغلها في استقطاب النخب والمفكرين والمثقفين العالميين، لتقديم تصوف مغربي نموذجي. تنضاف إلى ذلك الأدوار التي تقوم بها الزاوية التيجانية، التي تربط المغرب بعمقه الإفريقي عبر بوابة السينغال، حيث نلاحظ أن هناك تقاطبا حادا بين المغرب والجزائر في كسب تأييد الزوايا الإفريقية، وقد كانت سابقة في تاريخ هذه الزوايا أن سلم العاهل المغربي ظهيرا شريفا للزاوية التيجانية يؤرخ لمغربيتها. ولهذا ففي ظل التوجه المغربي الاستراتيجي نحو إفريقيا، والذي سيتعزز ليس فقط على المستوى الروحي أو السياسي، من خلال قضية الصحراء، بل حتى على المستوى الاقتصادي والتكنولوجي والتقني، مما يعني أننا سنشهد طورا جديدا في علاقة المغرب بإفريقيا، وستلعب الزوايا، بدون شك، دورا محوريا في هذا الخضم. -كيف ترى مستقبل هذه الزوايا في المغرب، وهل يمكن أن تهدد نموذج الدولة الديمقراطية التي يطالب بها الكثيرون اليوم؟ لا أعتقد أن الزوايا والطرق الصوفية ستهدد الديمقراطية المغربية الوليدة والناشئة، بقدر ما ستساهم في رفد جانب مهم منها، وهو الحفاظ على القيم الروحية حية متوهجة في نفوس المجتمع، خصوصا إذا علمنا أن المراحل الانتقالية تكون جد صعبة، وتكون جد متقلبة، وأن العديد من المجتمعات، حينما تعيش تحولات نوعية - كالتي نعيشها اليوم- تتراجع، بل تموت فيها بعض القيم، وقد لا تستطيع تعويضها بسرعة، ولهذا أعتقد أن من بين هذه القيم، التي بدأت تبهت في المجتمع المغربي حاليا، قيم التراحم والمحبة والزهد والتجرد والإخلاص وحسن الطوية، وبالتالي فالفاعل الصوفي إذا ما استشعر قيمة هذا التحول، ووعى حجم هذه التحديات -ولا شك أنه يعيها- فإنه يمكنه أن يقدم نموذجا فريدا في العالم العربي والمنطقة المغاربية. قد نتوفق في تنزيل مقتضيات الدستور الجديد، وقد ندشن مؤسسات جديدة وقد ننجز انتخابات نزيهة، إلخ، لكننا نحتاج مع ذلك إلى بناء الإنسان، الذي هو لب وجوهر العملية التنموية، ونحن نعتقد أن القيم الأصيلة التي قامت عليها، وتقوم عليها بعض الطرق الصوفية، يمكنها أن تشكل سندا حقيقيا في ربح معركة بناء الحضارة وتأسيس صرح التنمية المغربية المنشود. الطريقة التيجانية امتداد المغرب في عمق إفريقيا المساء استطاعت الطريقة التيجانية، التي أسسها القطب سيدي أحمد التيجاني الذي يوجد ضريحه بمدينة فاس، أن تتجذر في إفريقيا، وخصوصا في السينغال، حيث لعبت دورا أساسيا في تمتين العلاقات بين المغرب وإفريقيا وأضحت مدينة فاس قبلة لمريدي الطريقة على اختلاف جنسياتهم. وتعتبر الطريقة التيجانية رمزا للتقارب الروحي بين المغرب والسينغال، وهو ما عكسه كتاب الباحث السينغالي، باكاري سامبي، صاحب مؤلف «الإسلام والدبلوماسية... سياسة المغرب الإفريقية»، بإشارته، في حوار صحافي لأحد المواقع الإلكترونية، عندما قال إن «الطريقة التيجانية طريق الرابط الروحي لمجموعتين سياسيتين اشتركتا في الميراث الديني والتاريخ الطويل، ستستمر في تبوؤ هذه المكانة العالية في العلاقات الثنائية بين المغرب والسنغال. أما مكانتها في السنغال ووضعها كوسيط ضروري في العلاقات مع المغرب فأمر مكتسب ودائم. وأما دورها في المغرب فقد أخذ طابعه الرسمي والشكلي عندما جرى تعيين خليفة رسمي للتيجانيين السنغاليين في الزاوية الأم بمدينة فاس». وعبر التاريخ ظل مرقد شيخ الطريقة بالعاصمة العلمية محجا لعدد من الشخصيات القادمة من عدد من الدول خصوصا السينغال، ومنهم رؤساء دول، حيث يأتون من أجل التبرك بضريح قطب الطريقة، التي يقدر عدد أتباعها ب400 مليون موجودون في مختلف بقاع العالم. ارتباط التيجانيين الوثيق بالزاوية، التي تأسست بالمغرب من لدن الشيخ سيد أحمد التيجاني (1150/1230 ه)، دفعهم إلى اعتبار «فاس» الوجهة الأولى لهم خلال رحلتهم إلى الحج، وهذا ما سبق أن عبر عنه السينغالي امادو مختار امبو، المدير السابق لمنظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة «الإسيسكو»، بالقول إن العلاقات بين المغرب وإفريقيا قديمة جدا وتعززت عبر الطريقة التيجانية، إذ أن ملايين الأفارقة يعتبرون الحج إلى فاس واجبا دينيا لاستكمال حجهم إلى مكة، وهو ما تحدث عنه أيضا الباحث سامبي في كاتبه «الإسلام والدبلوماسية» سياسة المغرب الإفريقية»، حيث تطرق إلى أن «وفود الحجاج والعمار السنغاليين صاروا يمرون أولا بفاس حيث ضريح مؤسس الطريقة التيجانية فيقيمون بها أياما قبل التوجه إلى المشرق لأداء مناسك الحج والعمرة»، معتبرا أن «السفر إلى فاس ليس مصدر إشباع وجداني روحي داخلي فحسب، بل هو حظوة ومنزلة رفيعة في سلم الطريقة». وتحظى الطريقة التيجانية باهتمام رسمي من قبل المغرب، سواء تعلق الأمر بالاستقبال الملكي لشيوخ الطريقة بعدد من الدول الإفريقية أو منح هبات ملكية لترميم زواياه أو الرعاية الملكية لعدد من أنشطتها سواء، بالمغرب أو بالسينغال، ومنها تنظيم الزيارة السنوية بدكار والتي حضرها عدد من أعضاء الحكومة السينغالية، إلى جانب وفد يرأسه وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربي، كما أن الزيارة الملكية الأخيرة بإفريقيا كانت مناسبة استقبل فيها الملك ممثل الطريقة التيجانية بمالي خلال شهر شتنبر المنصرم، كما استقبل خلال زيارته للسينغال شهر مارس شيخ الأسرة التيجانية العمرية بدكار. رعاية الملك محمد السادس للطريقة التيجانية، نتيجة طبيعية لاهتمام ملوك المغاربة بها على مر الأزمان، وهو ما تدل عليه تصريحات شيوخ الطريقة بالسينغال، حيث قال أحدهم عقب استقبال ملكي « إن طريقتنا فخورة بعناية جلالة الملك، عناية تحظى بتقدير طريقتنا منذ عهد جلالة المغفور له محمد الخامس٬ وبعده جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني ولا تزال مستمرة مع جلالة الملك محمد السادس».، كما أشار إلى ذلك أيضا الكاتب سامبي بقوله «عندما تولى الحكم بالمغرب محمد السادس حرص أشد الحرص على مواصلة العلاقات مع التيجانية السنغالية بتنظيم اللقاءات الثنائية وتوجيه الرسائل إلى ملتقياتها واحتضان شيوخها وزعمائها، كما أن شيوخ ومقدمي الزوايا التيجانية السنغالية ظلوا يعدون ملك المغرب شريفا وأميرا للمؤمنين». ولم يفتأ الملك محمد السادس أن يذكر في رسائله بالعناية التي كان يوليها الملك الراحل الحسن الثاني للطريقة، حيث جاء في الرسالة الملكية الموجهة إلى المشاركين في الدورة ال 19 للأيام الثقافية التيجانية أن الراحل الحسن الثاني كان «يولي اهتماما كبيرا وعناية بالغة ورعاية تامة للطرق الصوفية بصفة عامة والطريقة التيجانية بصفة خاصة وذلك بالتمكين لها ودعمها ماديا ومعنويا»، ومن بين ما ساقه كمثال على ذلك تنظيم ندوة الطرق الصوفية «دورة الطريقة التيجانية» بفاس خلال شهر دجنبر 1985 تحت الرعاية الملكية، وتنظيم الأيام الثقافية للرابطة التيجانية بالسينغال في أواخر كل سنة ميلادية منذ سنة 1986. هذه الرابطة أسسها الراحل الحسن الثاني شهر يونيو من سنة 1985، تحت الرعاية المباشرة بحضور ممثل للرئيس السنغالي عبدو ضيوف. ولعل من مظاهر ولاء السينغاليين التيجانيين للمغرب هو المشاركة المكثفة لرموز التيجانيين السينغال في الوفد التيجاني، الذي شارك في استقبال الملك الراحل محمد الخامس في مطار دكار وهو عائد من منفى مدغشقر إلى بلاده. وعندما قام الملك محمد السادس بأول جولة إفريقية له، حرص شيوخ الطائفة التيجانية على دعوة الأتباع لتخصيص استقبال يليق بمقام «أمير المؤمنين»، كما فعلوا من قبل مع أبيه الحسن الثاني وجده محمد الخامس عندما زارا السنغال، كما يؤكد الباحث سامبي، الذي أكد أن جميع التيجانيين السنغاليين يرون أن الملوك المغاربة هم رواد وحماة الطريقة حسب استطلاع قام به، مضيفا أن معظم السنغاليين يعتقدون أن مؤسس الطريقة التيجانية والملوك العلويين من أسرة واحدة. شقير: توظيف الدولة للزوايا موجه إلى إقصاء جماعة العدل والإحسان عادل نجدي شكلت الزوايا والإسلام الصوفي، على امتداد السنوات الماضية، حجر الزاوية في إستراتيجية الدولة لمواجهة الحركة الإسلامية والإسلام السياسي، ومزاحمتها وعدم ترك الساحة الدينية فارغة أمامها للاستقطاب وتوظيف ورقة الدين. وتبدو رعاية الدولة في أعلى مستوياتها للزوايا والتصوف لافتة من خلال تقديم الدعم المادي والمعنوي، ومظاهر ومبادرات رسمية عدة، لعل من أبرزها تقديم هبات ملكية خاصة إلى العديد من الزوايا إما لتمثيليتها وقوتها داخل المشهد الصوفي والديني للبلاد كما هو الحال بالنسبة للزاوية البودشيشية، وإما لدعم أنشطتها ومساعدتها في القيام بوظائفها الدينية المتنوعة من خلال مواسم دينية، والاحتفاء بمريديها ومساعدة القائمين عليها وتكريم رموزها، والعمل على نشر طقوسها. فضلا عن تنظيم لقاءات عالمية للمنتسبين للتصوف، كما هو الحال في اللقاء الصوفي ب«سيدي شيكر»، وإحياء الزوايا والطرق الصوفية وتشجيعها وتقديم كافة أشكال الدعم لها مثل التيجانية والبودشيشية والكتانية. كما تظهر الرعاية الرسمية للزوايا من خلال إسناد وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية لمريد من مريدي الزاوية البودشيشية هو أحمد التوفيق. وإذا كان الدعم الرسمي للزوايا جليا، ويروم مساعدتها على الاضطلاع بأدوارها الحيوية في تهذيب نفوس مريديها وغرس سلوك التصوف، إلا أن ذلك لا ينفي أن السلطة راهنت عليها لإيجاد نوع من التوازن داخل الحقل الديني بين الإسلام الصوفي المبتعد عن السياسة وبين الحركة الإسلامية التي تحولت إلى قوة دينية وسياسية في المشهدين الديني والسياسي. فالسلطة أدركت مبكرا، أمام تنامي نفوذ الجماعات الإسلامية خاصة جماعة العدل والإحسان، والتيار السلفي بعد أحداث الدارالبيضاء الإرهابية في ماي 2003، أن طريق محاصرة تلك التيارات الإسلامية، التي باتت تشكل خطرا ومنافسا، يكمن في تقوية دور الفاعل الصوفي، بكونه نموذجا لإسلام منفتح وغير مسيّس وقريب من عامة الناس وخاصتها. ومن أجل تحقيق تلك المحاصرة شهدنا عودة للفاعل السياسي إلى المكون الديني والثقافي والأيديولوجي لأجل استثماره في صراعه مع الإسلاميين، ولعب ورقة الصوفية لكونها تسهم في ضمان التحكم بشكل كبير في الخريطة الدينية للبلاد والحفاظ على مقوماته المتمثلة في العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي، وتصوف الجنيد، فضلا عن ضمان عدم ترك الساحة فارغة أمام التيارات الإسلامية، خاصة منها السلفية، لاستقطاب المزيد من الأتباع في الأحياء الهامشية للمدن والقرى، المنتمين إلى الطبقات الفقيرة والمتوسطة. فسياسة الدولة قامت في أحد تجلياتها على ما قاله أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، ذات مرة من كون الطرق الصوفية بمثابة «معامل ومدارس» لتخريج الأفراد، يتعين على جميع الهيئات المجتمعية والسياسية الحالية الغرف من معينها وثمرة تربيتها. وبالنسبة لمحمد شقير، أستاذ العلوم السياسية، فإن الزوايا تعتبر أحد المكونات الرئيسة في مشروع السلطة حاليا لمواجهة الحركة الإسلامية وتحجيمها وتقزيمها بالاعتماد على خصوم أقوياء ولهم حضور في الساحة الدينية، مشيرا في حديثه ل«المساء» إلى أن الدولة حاولت ملء تلك الساحة بمنافسين من طينة أخرى لمواجهة التيارات الإسلامية وإيقاف تمددها في المجتمع. ويرى أستاذ العلوم السياسية أنه بعد أن اتبعت الدولة بعد استقلال المغرب سياسة جديدة في مواجهة الزوايا، التي لعبت في تاريخ البلاد دورا سياسيا إما بمواجهة السلطة أو دعمها لها، قائمة على التهميش ومحاولة إبقائها في إطار ديني محدود، اتجهت مع تنامي المد الإسلامي وتقويه إلى توظيف ورقة الصوفية من أجل مواجهة الوضع الجديد. ويرى شقير أن توظيف الدولة للزوايا في مواجهة الحركة الإسلامية موجه بالدرجة الأولى إلى إقصاء جماعة العدل والإحسان، من خلال دعم الزاوية البودشيشية، التي كان الشيخ عبد السلام ياسين منتميا إليها قبل تأسيسه للجماعة، معتبرا أن السلطة حاولت مواجهة جماعة الشيخ ياسين وتحجيم دورها عن طريق دعم الزاوية البودشيشية، التي تمتاز بخصوصية تأطير مجموعة من الأطر ذات التكوين العالي، حيث أتاحت لها المجال والدعم لتحقيق الإشعاع، بل انتقلت إلى لعب دور سياسي من خلال إخراج مريديها إلى الشارع في محطات عدة، بل تم استوزار أحد أعضائها ممثلا في وزير الأوقاف. وحسب المتحدث ذاته، فإن الزاوية البودشيشية بزعامة الشيخ تلعب حاليا دورا محوريا في إستراتجية ومشروع الدولة في مواجهة التيارات الإسلامية باعتبارها خصما قويا لتلك التيارات، مشيرا إلى أنه إذا كانت جماعة العدل والإحسان على وجه الخصوص تمارس دورا سياسيا وآخر تأطيريا وتربويا، فإن السلطة توظف الزاوية البودشيشية لتظهر للشارع أن الجماعة ليست الوحيدة، وأن هناك خيارات أخرى في هذا الصدد غير خيار العدل والإحسان، خيار يبتعد عن السياسة ويقوم بتأطير تربوي وإشباع الجانب الروحي، بل له القدرة على تأطير مجموعة من الفعاليات واستقطاب الأطر والكفاءات لتوظيفها ليس فقط في المناصب الوزارية وإنما أيضا في المناصب الإدارية. ورغم أن رهان مواجهة الحركات الإسلامية بتوظيف الزوايا، خاصة الزاوية البودشيشية، شكَّل واحدا من أهم مكونات السياسة الدينية للدولة، فإن الباحث في العلوم السياسية يرى أن ذلك التوظيف ومحاولة ملء الساحة الدينية وعدم تركها فارغة أمام جماعة الشيخ ياسين لم يؤد إلى إقصائها أو إضعافها. الأكيد أن الدولة في توظيفها للإسلام الصوفي في مواجهة التيارات الإسلامية تعمل بمقولة أن الطبيعة لا تحب الفراغ، بيد أن الحسم في توفقها أو عدم توفقها في مبتغاها يبقى صعبا في ظل غياب دراسات سوسيولوجية.