بعد اعتداءات 11 شتنبر 2001 التي استهدفت الولاياتالمتحدةالأمريكية، انتبهت النخبة الحاكمة في دول المغرب العربي إلى «محورية» الدور الذي يمكن أن يلعبه التصوف، سواء في إعادة صياغة المعادلة السياسية على المستوى الداخلي، حيث أصبح التيار الصوفي مطالبا بتأمين العديد من الحاجيات السياسية، كمواجهة التطرف الديني وتحصين الهوية الدينية ومواجهة جماعات الإسلام السياسي واستخدامه كخزان انتخابي، أو على المستوى الخارجي من خلال الرغبة في إعادة ترتيب الأوراق على مستوى تدبير العلاقات مع دول الجوار. لا يقتصر التصوف راهنا على خدمة الحاجيات السياسية الجديدة على مستوى ما يؤديه من أدوار على الصعيد الداخلي فقط، بل أصبح مطالبا بخدمة حاجيات سياسية جديدة على الصعيد «الخارجي» أيضا. وقد أصبح المعجم السياسي مؤثثا بمصطلح جديد يشير إلى هذا الدور، وهو مصطلح «الدبلوماسية الروحية» أو ما تسميه السلطات الموريتانية بالدبلوماسية غير المصنفة. كان المغرب سباقا من بين دول المغرب العربي إلى ممارسة الدبلوماسية الروحية، فهذه الدبلوماسية مورست أساسا من خلال الطريقة التيجانية التي تتوفر على الملايين من الأتباع في مختلف دول العالم، خاصة في إفريقيا... تعتبر الطريقة التيجانية من الطرق الصوفية واسعة الانتشار، وفي دولة مثل نيجيريا يصل عدد مريدي الطريقة إلى أزيد من عشرة ملايين مريد، علاوة على ملايين الأتباع في المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا ومالي والسينغال وبوركينافاصو وساحل العاج وغينيا... إلخ. ويقدر عدد أتباع الطريقة التيجانية في السينغال بأكثر من 5 ملايين نسمة، أما في باقي بلدان الغرب الإفريقي فيقدر عددهم بحوالي مليونين في موريتانيا، وفي غينيا كوناكري بحوالي 400 ألف، وفي ساحل العاج بحوالي مليونين و400 ألف، وفي نيجيريا ب32 مليونا و250 ألفا -من 120 مليون نسمة في البلد كله- ويبلغ عددهم في النيجر 3 ملايين و600 ألف -من 5 ملايين نسمة- وفي مالي حوالي 3 ملايين و600 ألف من أصل 19 مليون مسلم، ويبلغ عدد سكان مالي أكثر من 21 مليون نسمة. وطد المغرب علاقاته ببعض حكومات غرب إفريقيا، كالسينغال بالتحديد، وبعض دول الساحل جنوب الصحراء، كمالي والنيجر، عبر احتضان أتباع الطريقة التيجانية الذين يشكلون قوة ضاغطة على حكوماتهم. وهذا الاحتضان لا يقتصر على كون أبي العباس أحمد التيجاني، مؤسس الطريقة، هو دفين مدينة فاس المغربية، بل يمتد ليشمل تنظيم مؤتمرات عالمية لأتباع الطريقة التيجانية في مدينة فاس كان أولها سنة 1987 وتقديم الدعم بكل أنواعه إلى الزوايا التابعة لهذه الطريقة في دول غرب إفريقيا، إضافة إلى استدعاء ممثلين لهذه الطريقة من السينغال للمشاركة في إلقاء الدروس الحسنية التي يحتضنها القصر الملكي في شهر رمضان من كل سنة. وبوصول عبد العزيز بوتفليقة إلى رئاسة الجمهورية في الجزائر في أبريل 1999، لم تعد السلطات تكتفي بمطالبة التيار الصوفي بتأمين حاجيات سياسية على الصعيد الداخلي، بل انخرطت في عملية تنشيط الدبلوماسية الروحية، وذلك في محاولة منها للاستفادة من قوة الطرق الصوفية ونفوذها، خاصة في غرب إفريقيا. وهكذا انتبهت السلطات الجزائرية إلى التأثير الكبير الذي يمارسه أتباع الطريقة التيجانية هناك، فبادرت إلى تنظيم ملتقيات عالمية لأتباع هذه الطريقة، احتضنتها مدن جزائرية، بل وشرعت في مضايقة المغرب ومنافسته على مستوى توظيف الرأسمال الرمزي لأبي العباس أحمد التيجاني الذي أصبحت تعتبره السلطات الجزائرية جزائريا وليس مغربيا. تجسد موريتانيا نموذجا معبرا لممارسة الدبلوماسية الروحية، ويعود ذلك أساسا إلى كون هذا البلد هو ملتقى كثير من الطرق الصوفية، سواء تلك التي وفدت إليه من المشرق العربي أو من شمال إفريقيا أو غربها. تحتضن موريتانيا ثلاثة أصناف من الطرق الصوفية: 1 - يتمثل الصنف الأول في طرق وفدت إليها من المشرق العربي أو من شمال إفريقيا، ونذكر على سبيل المثال: - التيجانية الحافظية التي توجد في النباغية، وشيخها الحالي في موريتانيا هو اباه ولد عبد الله. - الطريقة القادرية التي كانت لها الصدارة في إفريقيا من حيث عدد الأتباع، والآن تأتي في المركز الثاني بعد الطريقة التيجانية. ويوجد للقادرية فرعان: الفرع الفاضلي والفرع البكائي. وانتشرت في منطقة جنوبالجزائر وجزء من المغرب ومنطقة الصحراء الكبرى ومالي وموريتانيا، وامتدت إلى السينغال، ومن شيوخها الشيخ سيديا الكبير الذي عاش في منطقة بتلميت في موريتانيا. وينسب الفرع الفاضلي إلى الشيخ محمد فاضل ولد مامين. والقادرية الفاضلية لها فرعان، فرع في المغرب وشمال موريتانيا، وهو فرع أهل الشيخ ماء العينين، وأبناء الشيخ محمد فاضل بن مامين وإخوانه. والفرع الآخر في الجنوب على حوض نهر السينغال مشيخة الشيخ سعد بو ولد الشيخ محمد فاضل بن مامين سيدي محمد ولد الشيخ إمام زاوية الكنتي في نواكشوط. ويتولى زمام القادرية الآن أبناء مشايخها التاريخيين الكبار من أمثال الشيخ سعد بيه وسيدي المختار الكنتي، ويتولى أحد أحفاد الشيخ مختار الكنتي، الشيخ سيدي محمد ولد الشيخ، إمامة زاوية سيدي المختار الكنتي في نواكشوط التي تقوم بلعب أدوار مهمة في موريتانيا. - الطريقة الشاذلية، وحضورها في موريتانيا قديم، وربما يعود إلى أربعة قرون، وليست أقدم منها في أرض الصحراء إلا القادرية. والشاذلية تأتي من حيث الانتشار في الغرب الإفريقي بعد التيجانية والقادرية. - الطريقة النقشبندية، وانتشارها محدود جدا في غرب إفريقيا، ولا توجد إلا في موريتانيا والكاميرون. ومن أهم الأسر النقشبندية في الغرب الإفريقي أسرة الشيخ محمد ولد محمد سالم، ومن أبناء هذه الأسرة وزير الشؤون الإسلامية الحالي في موريتانيا. - الطريقة الصديقية، وهي طريقة صغيرة الحجم في موريتانيا قادمة في الأصل من صعيد مصر، ومن رموزها اليوم الشيخ علي الرضا المقرب من النظام الموريتاني الحالي. 2 - يتجسد الصنف الثاني من الطرق الصوفية في طرق محلية لا يتجاوز تأثيرها التراب الموريتاني مثل الطريقة الغظفية، وهي تمثل مزيجا بين الطريقة القادرية والطريقة الشاذلية، ومن أهم مؤسسيها الشيخ محمد الأغظف الداودي. والغظفية طريقة خاصة بموريتانيا لم تستورد من خارجها، وقد انحسرت الآن في موريتانيا ويتركز وجودها بشكل كبير في المناطق الشرقية، ومن أكبر ممثليها ومشايخها الشيخ عبد الله بن بيه نائب رئيس اتحاد علماء المسلمين. 3 - يتجلى الصنف الثالث من الطرق الصوفية في تلك التي وفدت إلى موريتانيا من غرب إفريقيا، وبالتحديد من السينغال، مثل الطريقة المريدية، فهذه الطريقة تأسست أواخر القرن التاسع عشر على يد الشيخ السينغالي أحمدو بمبا، وتعتبر نوعا من الثورة والتجديد داخل التصوف في فترة الاستعمار، وقامت على مواجهة الاستعمار الفرنسي، وتنحصر في السينغال، عدد أتباعها 3 ملايين من الشعب السينغالي، وعاصمة الطريقة المريدية هي مدينة طوبى، ثانية كبريات مدن السينغال، وبها الخلافة العامة للطريقة المريدية وضريح الشيخ بمبا. وتلعب المريدية دورا في الجانب السياسي، ويكفي القول إن الرئيس الحالي للسنغال عبد الله واد من أتباعها، وللمريدية ارتباط كبير بموريتانيا، إذ إن الاستعمار الفرنسي نفى الشيخ أحمدو بمبا إليها. إن هذا التداخل والتعايش بين الطرق الصوفية في غرب إفريقيا يتفاعلان في موريتانيا إلى درجة أصبح معها نظام «محمد عبد العزيز» يراهن عليهما من أجل تقوية علاقاته بدول الجوار، من جهة، ونشر ثقافة التسامح والسلام ومواجهة الإرهاب، من جهة أخرى، وهو ما أضحى يسمى رسميا من قبل السلطات الموريطانية ب«الدبلوماسية التقليدية غير المصنفة».