التحولات الكبيرة التي طرأت على السياسة الجمركية بفعل العولمة الاقتصادية، طرحت على الإدارة الجمركية اختيارات استراتيجية تستجيب للتطورات التي عرفها مجال التنظيم لضمان نجاح الإصلاحات الكبرى في إطار شمولي ونسقي من شأنه أن يحقق، من جهة، تناسقا بين مكونات السياسة الجمركية الحديثة، ومن جهة أخرى تطابقا بين هذه السياسة والهيكلة التنظيمية. إن سياسة التفكيك التدريجي للتعريفة الجمركية، الوحدة الصميمية التي يتمحور حولها النظام الجمركي المغربي في ظل المفهوم الجديد للتجارة الدولية متعددة الأطراف، فرضت على الإدارة الجمركية تأطيرا إداريا جديدا لتدخلاتها بهدف المساهمة في تحسين المحيط الجمركي للمقاولة لتمكينها من مواجهة التنافسية المتزايدة. كما أن التحولات التي طالت وظائف إدارة الجمارك أفضت إلى تغليب المقاربة الوظيفية التحفيزية والاقتصادية على المقاربة الزجرية والجبائية، مما يستلزم إرساء بنيات تسهر على التوفيق بين متطلبات تبدو للوهلة الأولى متناقضة، وضمان موارد مالية للخزينة العامة بطريقة رشيدة، وتعزيز دور المقاولات اقتصاديا لاستقطاب وتشجيع الاستثمارات وضمان مناصب الشغل. وفي ذات السياق، فإن هذه المستلزمات تستدعي التوفيق، من جانب آخر، بين تحرير التجارة الخارجية وإضفاء مزيد من الفعالية على المراقبة الجمركية وفق مقاربة حديثة، قوامها الانتقائية التي يتوقف نجاحها على إحداث بنية إدارية قادرة على تصور ومصاحبة ووضع سياسة جديدة للمراقبة الجمركية حيز التنفيذ، تقوم على أساس استثمار الإمكانيات العلمية التي تتيحها تقنية تقييم وتحليل المخاطر وعنصر التكامل بين مختلف أشكال المراقبة. وهكذا تم إحداث مديرية الوقاية والمنازعات وفق مقاربة منسجمة تسعى إلى التوفيق بين الجانب الوقائي والجانب الزجري، من خلال تقسيمها إلى قطبين متكاملين ومندمجين من حيث الاختصاصات والأهداف في شكل قسمين؛ فبالإضافة إلى قسم المنازعات الذي ينقسم إلى ثلاث مصالح روعي في إحداثها التكفل بمسلسل تسوية المنازعات منذ نشأته إلى نهايته، مع استحضار إقحام منهجية حديثة في تدبير المنازعات عن طريق تثبيت اعتمادها على الصلح كنمط بديل من أنماط تسوية النزاعات، فإن قسم الوقاية قد نظم بشكل يتماشى مع الوظيفة الوقائية والاستباقية التي أصبحت أساسية في ظل المفهوم الجديد للتجارة الخارجية؛ فإعمال مبادئ ليبرالية التجارة الدولية وتبسيط المساطر الجمركية وإضفاء المرونة على طرق المراقبة لا ينبغي فهمه كمرادف لغياب المراقبة الجمركية. وبالرجوع إلى المصالح المركزية الأربع المكونة لهذا القسم، يتضح أن تنظيم هذا القسم روعيت فيه الصبغة التكاملية للوظائف الرقابية؛ فمحاربة الغش والتهريب تقوم على أساس استغلال الاستعلامات، ومراقبة العمليات التجارية لا تستقيم في ظل المقترب الانتقائي إلا باعتماد تحليل للمجازفات، وأن كافة أنماط المراقبة لا يمكن أن تحقق الفعالية والمردودية إلا بتنسيق وتوحيد مناهج تدخل المصالح المختصة، فضلا عن كون مراقبة القيمة التي أفردت لها مصلحة خاصة بها أصبحت، حسب ما أفرزته التجربة، أحد المجالات الرئيسية للغش والتهرب والتملص الجبائي في المادة الجمركية. كما أن إعادة هيكلة تنظيم البنيات المركزية أدمجت ضمن انشغالاتها تفعيل الدور الاقتصادي للإدارة وما حققته من إنجازات في مجال استعمال تكنولوجيا المعلومات والاتصال، حيث تم إحداث مديرية التسهيلات والإعلاميات التي تضم قسمين أنيط بهما القيام بأنشطة ومهام تكميلية في علاقة بالهدف المتوخى والمتمثل في وضع مساطر متكيفة مع توجهات الاقتصاد الوطني، وأيضا أدوات وأنظمة معلوماتية قادرة على استيعاب وظائف جديدة تستلزمها إكراهات تدبير المرفق الجمركي بما يلزم من الفعالية والشفافية ويفرضها مفهوم (العولمة الإدارية) الذي يفيد تداول المعلومات الإدارية في عالم بات قرية كونية صغيرة، وتقتضيها استعمالات كافة المستعملين والمرتفقين من متعاملين اقتصاديين ومعشرين مقبولين ونقالين وعموم المواطنين.. فالإدارة الجمركية الإلكترونية هي نتيجة حتمية لتفاعلات مجالات تكنولوجيا المعلومات والاتصال وتبسيط المساطر وتحسين وتسهيل العلاقة بالمواطن والمقاولة. وتماشيا مع ذلك، فقد أنيطت بمديرية التسهيلات والإعلاميات العديد من المهام، نذكر منها: - توجيه استعمال الأنظمة الاقتصادية في الجمرك في اتجاه يروم مصاحبة المقاولة المغربية المصدرة من خلال إرساء أنشطة جديدة لتشجيع الأنظمة التحفيزية؛ - استقبال المستثمرين والمساهمة في تشجيع الاستثمارات وإحداث المناطق الحرة؛ - تبسيط الإجراءات واحترام القواعد والمعايير وقيادة ورش تقليص آجال الاستخلاص الجمركي؛ - وضع التصميم المديري للإعلاميات بإدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة، المعتبر بمثابة المحور الأساسي في عقلنة وتبسيط إجراءات الاستخلاص الجمركي والانفتاح على شركاء الإدارة، حيز التنفيذ؛ وفي سياق الأخذ بعين الاعتبار للامتدادات الدولية للإدارة الجمركية المستمدة من كون النظام الجمركي وضبط تطبيقه يعتبر من أبرز رموز السيادة في اتجاه العالم الخارجي، بما يفرضه من ضرورة التكيف مع المحيط الدولي، جاء إحداث مديرية الدراسات والتعاون الدولي ليتطابق مع السياسة الجمركية في شقها المتعلق بإعداد ودراسة والمساهمة في إنجاز مشاريع الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تهم المجال الجمركي والسهر على تطبيق المقتضيات الجمركية الوطنية والتعاقدية أو الاتفاقياتية وتتبع علاقات التعاون الدولي الجمركي. وحتى يتسنى لهذه المديرية القيام بتجسيد هذه السياسة الجمركية، فقد أنيط بها القيام على الخصوص بما يلي: - اقتراح رؤية شاملة بالتعاون الدولي واستراتيجية الملاءمة مع تطورات المحيط الدولي؛ - إعداد ووضع إطار جمركي موحد حيز التطبيق، متكيف وملائم للالتزامات الدولية للمغرب ولأهداف ترشيد إيرادات الميزانية ولأولويات الاقتصاد الوطني؛ - إعداد النصوص التشريعية والتنظيمية وضمان تناسق وجود مجموع المنتوج التشريعي في المادة الجمركية من خلال تكييف مدونة الجمارك مع المحيط الاقتصادي والاجتماعي في إطار مقاربة تشاورية مع المتعاملين الاقتصاديين ومجموع الشركاء؛ - وضع قواعد المنشأ وتدابير محاربة الإغراق حيز التطبيق، بيد أن ما يلاحظ على هيكلة هذه المديرية أنها لا تتوفر على امتدادات لها على المستوى الدولي بالشكل الذي يوجد في الأنظمة الإدارية الجمركية المقارنة، ولاسيما في دولة كفرنسا؛ فباستثناء التمثيل المغربي في المنظمة العالمية للجمارك، فإن هذه المديرية لا تتوفر على ملحقين أو ملحقين جمركيين مساعدين بالعواصم الدولية الكبرى للدول التي تربطها علاقات تجارية مهمة بالمغرب، وذلك على عكس ما هو معمول به في التنظيم الإداري الجمركي الفرنسي، إذ تتوفر فرنسا على 14 ملحقا وملحقا جمركيا مساعدا في الدول الأجنبية. إن إعادة هيكلة تنظيم البنيات المركزية لم تغفل هاجس عقلنة وترشيد استعمال الرأسمال البشري والوسائل المادية والاعتمادات المرصودة أو المخصصة للإدارة، كما روعي فيها استحضار البعد الاستراتيجي وتطوير وتنمية الإعلام والتواصل مع الزبناء والشركاء. هذه العوامل المتداخلة كانت وراء إحداث مديرية للموارد والبرمجة. وتتولى هذه المديرية تدبير الموارد البشرية والمادية في انسجام مع باقي مكونات السياسة الجمركية، ويتجسد دورها على الخصوص في الآتي بيانه: - إقرار تدبير توقعي للموارد البشرية وتحسين فعالية التسيير الإداري للموظفين والتكوين وتنسيق السياسة الاجتماعية مع المنظمات الاجتماعية المرتبطة بالإدارة الجمركية؛ - تحسين مرجعيات تنظيم المصالح المركزية وغير الممركزة من خلال استباق تطور تنظيم الإدارة في علاقة بتحليل الاحتياجات للموارد واستعمالها؛ - تشجيع إشاعة ثقافة التخطيط الاستراتيجي وتأمين تتبع المخطط الاستراتيجي لإدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة؛ - تحديد وإرساء مناهج إعداد وتدبير مخططات أهداف ووسائل ومراقبة فعالية ونجاعة الإدارة في تحقيق مهامها وبرامجها؛ - تنمية برامج الاتصال وتدبير المعلومة؛ - تعزيز الكفاءات ومطابقتها لتطورات المهن الجمركية؛ - مراعاة دور العنصر البشري في مسلسل تحديث إدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة. ولمواكبة الإصلاحات المتبعة داخل إدارة الجمارك، فإن الهيكلة التنظيمية تضمنت قسما للتدقيق والتفتيش، إذ إن إحداث هذه البنية ينم عن إرادة لعدم الاقتصار على مراقبة مدى احترام القوانين والتنظيمات والقواعد الإجرائية والاطلاع على المخالفات المرتكبة وعقوباتها كما كان الشأن في ظل المقترب التقليدي الذي تأسست عليه الهيكلة التقليدية التي كانت تضم مفتشية للمصالح الجمركية، بل كذلك مراقبة فعالية وإنتاجية المصالح الإدارية ومدى تحقيق الأهداف المسطرة والاهتمام بمدى وضوح وصلاحية وملاءمة المساطر المتبعة واقتراح إدخال التعديلات الضرورية عليها. وبإقحام التدقيق ضمن فلسفة اشتغال قسم التدقيق والتفتيش، فإن الإدارة الجمركية جعلت من الوظيفة الرقابية أداة مواكبة للمبادرات الإصلاحية، إذ إن اهتمامها لا ينصب على الجانب الزجري فقط، وإن كان واجبا تجاه المخالفات والانحرافات والسلوكات الأخلاقية المشينة، بل كذلك على الجانب الوقائي بالمساهمة في توضيح البرامج وإعداد القواعد الإجرائية وتبسيطها من أجل تأطير العمل الإداري وتقييمه والوقاية من أخطار التعسف والفساد الإداريين. *باحث في القانون الإداري وعلم الإدارة