في إطار الاحتكام إلى مستلزمات مبدإ قابلية المرفق العام للتعديل والتغيير، قامت إدارة الجمارك بإعادة تنظيم بنياتها المركزية للتأقلم مع ما حدث من مستجدات على مستوى وظائف الدولة والتطورات التي عرفها حقل التنظيم. إن إعادة التنظيم تهدف إلى تحسين فعالية الإدارة والاستجابة لمتطلب العقلنة. وهذه الفكرة من مسلمات التفكير الأمريكي، حيث تجب، حسب الفكر الإداري الأمريكي، التضحية بكل شيء من أجل الفعالية حتى في الميدان الإداري؛ وهي فكرة تجذرت في علم الإدارة، ولم تنتشر فقط في القطاع الخاص بل امتدت، أيضا، إلى التدبير العمومي. والتنظيم الداخلي للمرافق الإدارية العامة يندرج ضمن مجال اختصاص السلطة التنظيمية حسب ما استقر عليه الاجتهاد القضائي الفرنسي منذ بداية القرن الماضي والفقه الفرنسي التقليدي. وهذه القاعدة تم استلهامها من طرف القانون العام المغربي؛ فتنظيم القطاعات الوزارية يدخل ضمن المجال التنظيمي الذي تمارسه الحكومة بواسطة مراسيم أو قرارات (الفصل 72 من الدستور المغربي في علاقته بالفصل 71 منه). وهذه القاعدة تسري على تنظيم الإدارة المركزية للجمارك باعتبارها أحد مكونات الإدارة المركزية لوزارة المالية، حيث إن الهيكلة التقليدية لبنياتها المركزية تجد أساسها التشريعي في مرسوم 22 نونبر 1978 المتعلق بتحديد اختصاصات وتنظيم وزارة المالية. وبالرجوع إلى المادة 7 من المرسوم المذكور، نجد أن هيكلة الإدارة المركزية لإدارة الجمارك كانت تتكون من البنيات التالية: أولا، مديرية الشؤون العامة والأبحاث والمنازعات؛ ثانيا: المديرية التقنية؛ ثالثا: مفتشية المصالح الجمركية؛ رابعا: مصلحة الإعلاميات. إن الهيكلة التنظيمية إبان إعدادها كانت مبررة بالنظر إلى طبيعة المهام التقليدية للإدارة؛ فالفصل 7 من مرسوم 1978 المتعلق باختصاصات وتنظيم وزارة المالية عهد إلى إدارة الجمارك بالقيام على الخصوص بإعداد ودراسة النصوص القانونية والتنظيمية ذات الصلة بالجمرك والضرائب الداخلية على الاستهلاك وتنفيذ التشريعات والتنظيمية المتعلقة بها وبمراقبة التجارة الخارجية والصرف والضريبة على القيمة المضافة. فباستقراء هذه الهيكلة في علاقة بالمهام التقليدية للإدارة، يتضح لنا من أول وهلة أن نوعية السياسة الجمركية السائدة منذ الاستقلال إلى حدود ثمانينيات القرن الماضي -والمطبوعة بسمة الحمائية وتغليب الوظيفة الرقابية الزجرية والجبائية- حددت إلى حد كبير حالة التنظيم الإداري للبنيات المركزية للإدارة الجمركية؛ فلا يمكن نكران أن إدارة الجمارك كانت إلى غاية نهاية الثمانينيات من القرن العشرين تعد من بين الإدارات الأحسن تنظيما في المغرب، إلا أنها ظلت خلال عقد التسعينيات من ذات القرن منطوية على طابعها القديم وبذلك افتقدت مواصفات الترشيد والعقلنة ولم تعد ملائمة لمواكبة متغيرات الاقتصاد الوطني والدولي الموسومة بسياسة التحريروالانفتاح التجاري وبظهور التكتلات الاقتصادية الجهوية والقارية القائمة على تفكيك الحواجز الجمركية، تطبيقا لمبادئ الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة والمنظمة العالمية للتجارة، حيث ظلت هيكلتها تتسم بالبدائية وتجاوزها الزمن بفعل عدم قدرتها على التكيف مع الخصوصيات الجديدة للمحيط وطبيعة المهام. يضاف إلى ذلك بقاء بنيات إدارية في مستوى مصالح غير مبررة من الناحية العملية لكون مهامها أسندت إلى مؤسسات عمومية أو إدارات أخرى. ويمكن القول إن ظاهرة عدم الملاءمة كانت شاملة لغالبية الإدارات العامة، وملاحظة وجودها في مجال تأطير تدخلات الدولة في الميدان الجمركي لا تعتبر استثناء لكونها تتماشى والنسق الإداري المخزني لتلك الفترة الذي بقي منتحرا سياقيا، بطيئا في أدائه، منسلخا عن سياقه وغير متفاعل مع انفتاح الاقتصاد الدولي والوطني. ونفس الوصف يمكن أن ينطبق على إدارة الجمارك؛ فلمَ لم تقم بتكييف هيكلتها مع تغيرات المحيطين الوطني والدولي جراء انضمام المغرب إلى الجات سنة 1987 وإصدار قانون التجارة الخارجية سنة 1989 وانضمامه إلى المنظمة العالمية للتجارة سنة 1994 وإبرام اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوربي بتاريخ 1996/02/26، تكون بدورها قد أصبحت منتحرة سياقيا، إذ إنها بقيت منغلقة على نفسها في سياق دولي قوامه الانفتاح ورفع الحواجز وفي ظل تأطير قانوني جديد للتجارة الخارجية أقر تحرير المبادلات الدولية للمغرب. إن بقاء الهيكلة التقليدية قائمة، في ظل السياق الجديد الذي أفرز سياسة تشجيع القطاع الخاص وإقامة جيل جديد من الاتفاقيات التجارية والتعريفية، أفضى إلى تناقض بين إدارة جمركية غير مواكبة للعصرنة وقطاع خاص حيوي يشهد نموا متزايدا ويتطلع إلى المكاتفة للصمود أمام المنافسة جراء تداعيات التفكيك المتبادل للرسوم الجمركية. فالتدفق الكبير للمهام الجديدة للإدارة، التي تظل محكومة بمنطق التناسل والتفاعل انسجاما مع تحولات المحيط، يتطلب تنظيما هيكليا جديدا بدل الانطواء على الهيكلة التقليدية؛ فالإدارة الجمركية مطالبة بإقرار مفاهيم جديدة لتلبية حاجيات المواطنين والمتعاملين الاقتصاديين وشركائها المؤسساتيين بالفعالية والشفافية والنزاهة والجودة، ومدعوة، في انسجام مع تطوير وظيفتها الاقتصادية، إلى خلق الفضاء التشجيعي والتحفيزي لإنعاش الاستثمار وتأهيل الاقتصاد والمقاولة، وملزمة بالبحث عن آليات للتوفيق بين متطلبات تعبئة الموارد الجبائية وتسهيل المبادلات التجارية، ومطالبة بوقاية وحماية المجتمع. إن هذا التدفق الكبير للمهام يجعل إدارة الجمارك مطالبة بإعادة هيكلة تنظيمها على أساس مقاربة جديدة تروم إرساء تنظيم إداري عقلاني يعيد التوازنات الرئيسية إلى الجهاز الإداري والانسجام بين مكوناته، ويؤهله ليكون قادرا على تدبير الوظائف الجديدة. وسنرى إلى أي حد توفقت إدارة الجمارك من خلال تبنيها للمنظور الجديد للتنظيم في تحقيق الأهداف المذكورة. إن عملية إعادة هيكلة البنيات المركزية للإدارة الجمركية تندرج في إطار دراسة أنجزتها حكومة التناوب على ضوء ميثاق حسن التدبير المعتمد بتاريخ 28 أكتوبر 1999، همت ست وزارات نموذجية، من بينها وزارة الاقتصاد والمالية. وسعت هذه الدراسة إلى تحليل وتشخيص الاختلالات الهيكلية ذات التأثير السلبي على فعالية الجهاز الإداري، كما رمت إلى تحسين جودة الخدمات والدفع بدينامية التدابير العملية التي من شأنها ترشيد وعقلنة الهياكل وملاءمتها لمتطلبات المحيط السوسيو اقتصادي. انطلاقا من ذلك وتطبيقا للمنطلقات التي جاء بها ميثاق حسن التدبير وبناء على التوصيات العديدة التي صدرت عن هذه الدراسة، فإن هيكلة البنيات المركزية لإدارة الجمارك استدعت إعادة النظر في التنظيم الإداري على ضوء المبادئ العامة التالية: - تركيز الإدارة على الوظائف الأساسية ذات الأولوية؛ - وضع المرتفق، مواطنا كان أو متعاملا اقتصاديا، في قلب مقاربة التغيير، الشيء الذي يقتضي اعتماد منظور جديد لتنظيم البنيات المركزية وغير الممركزة حتى تكون منفتحة ومنصتة لحاجاته في عصر يطبعه استعمال التقنيات الحديثة للتواصل؛ - تموضع الإدارة في سياق المقاربة الاستراتيجية المنبثقة عن منطلقات ميثاق حسن التدبير والرامية إلى ترسيخ إدارة مواطنة وحديثة تطمح إلى بعث الحيوية في هياكلها وإلى تجديد دواليب اشتغالها وإشاعة ثقافة المرفق العام؛ - إجراء الإدارة لعمليات التدقيق التنظيمي والتحليل المؤسساتي وإعادة النظر في تنظيم المصالح الإدارية وهيكلتها بتجميع بعض منها أو بحذفها عند الاقتضاء. وبالموازاة مع هذه المحددات العامة، فإن إعادة الهيكلة التنظيمية بإدارة الجمارك يمكن تفسيرها بالاستناد إلى عوامل متعددة خاصة، إذ إن الهيكل التنظيمي للإدارة المركزية الجمركية سيعرف تغيرات مهمة في سياق مواكبة التحولات الاقتصادية العالمية والوطنية وفي إطار التغيرات التي يشهدها العالم منذ بداية القرن الواحد والعشرين والتي انعكست على دور الجمارك كفاعل أساسي في السلسلة اللوجستية، وذلك من خلال إيجاد الآليات المناسبة للتوفيق بين تأمين التجارة الدولية وإضفاء المرونة عليها. ولعل أهم تساؤل آني طرح نفسه بقوة مع بداية الألفية الثالثة هو ذاك المتصل بأن المنظور الجديد لإعادة تنظيم الإدارة المركزية الجمركية يتعين أن ينبني على أساس تطابق استراتيجية وسياسة القطاع الجمركي مع الهيكلة الجديدة. كذلك، يبقى التساؤل مطروحا حول ما إذا كان التنظيم الجديد لهياكل الإدارة المركزية قد أستطاع أن يتجاوز الإكراهات التي خلفتها، وعلى مدى عقود، الهيكلة التقليدية؟ وهل تفوق في تمكين الإدارة من تولي مهمة تطبيق السياسة الجمركية الوطنية الجديدة؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة تقتضي منا تقديم الهيكلة الجديدة ومساءلة مدى استجابتها للحاجيات المتجددة للإدارة والمرتفقين على حد سواء، وهل اعتمدت أشكالا جديدة للتنظيم الإداري تأخذ بعين الاعتبار المهام الجديدة للمرفق الجمركي وتمنحه مجالا أوسع ومرونة أكبر في التنظيم على أساس معايير العقلنة والفعالية؟