نفس القاعدة تنطبق على اللجوء إلى تكليف الغير Externalisation بتدبير بعض المهن الجمركية؛ فإذا كانت أساليب الاستعانة بالعناصر الخارجية Externalisation تقدم، حسب تعبير Philippe Cossalter، أكثر من غيرها من النماذج ظاهرة قوية للمثاقفة بالنسبة إلى الأنظمة القانونية، حيث تتم عمليات تنقيل Transposition واستنبات Transplantation غير مسبوقة من نظام إلى آخر، فإن إدارة الجمارك المغربية ولئن كانت تتجه حاليا إلى الاستعانة بالعناصر الخارجية Externalisation في تدبير بعض المهن الجمركية -كما هو الشأن بالنسبة إلى تفويض تدبير وضع العلامة الجبائية Marquage fiscal على المنتجات الجبائية لشركة سيكبا، القابضة السويسرية- فإنها، ولاعتبارات إما عائدة إلى الطبيعة الأساسية والراديكالية لبعض المهام والأنشطة الجمركية أو لعدم سماح إرادة المشرع بذلك، لم تلجأ إلى مجاراة بعض الممارسات التي تجذرت في النظام الجمركي الفرنسي، فعلى خلاف ما هو قائم في فرنسا في شأن تكليف الغير Externalisation بتدبير عملية قياس الأحواض والخزانات المستعملة لحفظ وتخزين المنتجات البترولية Le jaugeage des contenants servant au logement des produits pétroliers، ذلك أن النصوص التشريعية الجمركية لا تسمح إلى حد الآن بإسناد تدبير هذا النشاط إلى الخواص. وإذا كانت إدارة الجمارك المغربية تميل منذ مدة إلى التفكير جديا في التخلي عن تدبير وضع دمغة الضمانة على المصوغات من المعادن النفيسة إلى المهنيين أو إلى قطاع الصناعة التقليدية على غرار ما ذهبت إليه إدارة الجمارك الفرنسية لما لجأت إلى الاستعانة بالعناصر الخارجية للقيام بهذا النشاط، فإن ذلك يتطلب إدخال تعديلات على النصوص القانونية والتنظيمية الجمركية السارية، بحيث تصبح صياغتها تتيح إسناد تفويض إدارة الجمارك للأغيار للقيام بوضع دمغة الضمانة على المصوغات من البلاتين أو الذهب أو الفضة. ويبقى تبويب هندسة مدونة الجمارك في صيغتها القديمة أو الجديدة من أبرز أوجه المحاكاة الكبيرة كما سماها جورج لانكرود G.Langrod، إذ جاءت متطابقة بشكل كبير مع تبويب مدونة الجمارك الفرنسية. وعنصر التقليد يمكن رصده، أيضا، على مستوى تنظيم الموظفين، حيث إن إدارة الجمارك المغربية، وعلى منوال ما هو معتمد في المديرية العامة للجمارك والحقوق غير المباشرة في فرنسا، تعتمد نظام ازدواجية توصيف الأعوان العاملين بها، إذ يوجد بها صنفان من الأعوان: الأعوان القارون أو أعوان المكاتب Agents sédentaires وأعوان الفيالق أو الحراسة Agents de brigades ou de surveillance. وعلى الرغم من رغبة الإدارة الجمركية في الانسلاخ عن المرجعية الفرنسية التي لازالت تحتكر التأثير في أنماط الملاءمة، من خلال اعتماد إدارة الجمارك حاليا على المقايسة Benchmarking التي تفيد الاطلاع على التجارب المقارنة واستنبات أفضل الممارسات الدولية، إلا أنها لم تفلح في التخلص من المرجعية الفرنسية. لقد قام بعض مسؤولي إدارة الجمارك المغربية مؤخرا، بمناسبة إعداد استراتيجيتها في أفق 2015، بزيارات ميدانية خارج المغرب قصد الاطلاع على تجارب العديد من الإدارات الجمركية الأكثر نجاعة في العالم، كالولايات المتحدة وتركيا وجنوب إفريقيا وفرنسا، إلا أن رأيهم استقر مع ذلك على ممارسة تعتمدها إدارة الجمارك الفرنسية كأداة لتحسين علاقتها بمستعملي خدماتها وزبائنها. وهكذا قامت إدارة الجمارك باستنبات ميثاق الزبون Charte Marianne كتجربة تعمل بها إدارة الجمارك الفرنسية. غير أن هذا لا يرجع، في اعتقادنا، إلى استلاب ثقافي وإنما إلى نجاعة هذه الممارسة وتناغمها مع خطوة الزبون ومقاربة الجودة التي ترتكز عليها استراتيجية إدارة الجمارك في علاقاتها بزبنائها وشركائها الاستراتيجيين، وأيضا لتناغمها مع أحكام الدستور المغربي الجديد الذي يحث على سن مواثيق للمرفق العام ضمن أحكامه المتعلقة بإرساء الحكامة. ومن ذات المنطلق، قامت إدارة الجمارك التي يرجع إليها، تبعا لأحكام مرسوم 2008 في شأن تنظيم وتحديد اختصاصات وزارة الاقتصاد والمالية، اختصاص اقتراح تعديلات على مدونة الجمارك، باقتراح مقتضى في إطار قانون المالية لسنة 2014 يقضي بالتجريم الجمركي لقرصنة البضائع المستوردة أو عندما تكون موضوع حيازة غير مبررة أو نقل وحركة بدون رخصة داخل الدائرة، مستلهمة ذلك من أحكام الفصل 419 من مدونة الجمارك الفرنسية الذي يحيل على مقتضيات الفصول 2 مكرر، 215، 215 مكرر، و215 مكرر مرتين من نفس المدونة. هذا، ويجب الاعتراف بأنه ولئن كان من المسلم به، تاريخيا ومنطقيا، أن التثاقف الجمركي هو نتيجة لمرحلة الحماية، فإنه لا ينطوي دائما على سلبيات، بل ساهم ولازال يساهم في تلاقي وتقاطع النماذج الإدارية والقانونية والتقنية واقتراض بعضها عن بعض لسد الضرورات والحاجات باستخدام واغتراس بعض أدواتها في تحسين النماذج الجمركية الذاتية. ومن الأدوات والآليات التي تتيح هذا الاقتراض المتبادل، نذكر الاتفاقية الثنائية للمساعدة الإدارية المتبادلة المبرمة بين الإدارتين، والتنسيق بين الإدارتين بمناسبة المشاركة في المحافل والمؤتمرات الدولية المتخصصة، كالمؤتمرات السنوية للمنظمة العالمية للجمارك والمؤتمرات الدورية للإدارات الجمركية للدول الناطقة، جزئيا أو كليا، بالفرنسية، فضلا عن تبادل الزيارات الدورية بين القيادات الإدارية المسؤولة في الإدارتين للتشاور وتبادل الخبرات. وإذا كان من اللازم لمرفق الجمارك المغربي أن يتكيف مع المعايير الدولية وأفضل الممارسات الدولية، ولاسيما تلك المعمول بها في فرنسا وهي الدولة الأقرب إلى النخبة الجمركية المغربية لاعتبارات متعددة ومعروفة، وإذا كان من الضروري أيضا الإقرار بأن بعض جوانب تحديث إدارة الجمارك المغربية فرضتها العوامل المرتبطة بالمثاقفة الناتجة عن تأثيرات هيمنة النظام الجمركي الفرنسي الذي لا يزال يمارس قدرا من التأثير على اختيارات الإدارة الجمركية المغربية، فإن هناك قيودا وضوابط لا بد من مراعاتها عند تحديث إدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة، فالتحديث يجب ألا يخضع لمنطق تنقيل ومحاكاة النظام الجمركي الفرنسي على نحو انتظامي ومطلق، بل يجب في هذا المجال إعمال مقاربة انتقائية تتيح انتقاء وتصنيف التدابير التحديثية بالنظر إلى قدرتها على المساهمة في تحسين فعالية ونجاعة الإدارة الجمركية المغربية. وعليه، فالاختيار يجب أن يكون على أساس تبيئة واستنبات المناهج والتقنيات والمعايير والممارسات التي أبانت عن نجاعتها والتي تنسجم مع خصوصيات النسق الجمركي المغربي، وليس على أساس أصل نشأة المعايير والمناهج وسمو وأفضلية النظام الجمركي الذي جربت فيه أو بفعل التبعية للنظام الجمركي للدولة المهيمنة. يحيى الهامل *باحث في القانون الإداري وعلم الإدارة