إذا كان صحيحا أن المغرب عرف بعض ملامح النظام الجمركي منذ القدم، فإنه لم يكتشف المبادئ العصرية لتنظيم الجمارك إلا بعد اتصاله بالثقافة الغربية من خلال اتفاقية الجزيرة الخضراء في مرحلة أولى، ولاحقا بتزامن مع الحماية الفرنسية وقيامها باغتراس وازدراع الأنظمة والقواعد والتنظيمات والتشريعات الجمركية فيه. ومن المعلوم تاريخيا، كذلك، أن سلطات الحماية أحدثت لأول مرة مصلحة للجمارك ضمتها إلى المديرية العامة للمالية المحدثة بموجب ظهير 24 يوليوز 1920. وقد عملت فرنسا خلال فترة الحماية على تسخير الجمارك لخدمة مصالحها، حيث قامت بتنظيمها وظيفيا وبنيويا وعملت على وضع مجموعة من القوانين والتنظيمات المنقولة، في أغلبها، من القانون الفرنسي؛ ولم يقتصر استنبات مبادئ الإصلاح الجمركي على القوانين والرسوم الجمركية، بل تعداه إلى الإدارة والتسيير. حسب ما ورد في مؤلف جماعي للأستاذ عبد الكريم غريب وآخرين حول موضوع التواصل والتثاقف، فإن التثاقف الذي قد ينعت أيضا بالمثاقفة L'acculturation قد عرف داخل الأنثربولوجيا الثقافية الأمريكية بكونه مجموعة من الظواهر الناتجة عن دخول مجموعة أفرادٍ من ثقافات مختلفة في احتكاك مستمر ومباشر مع التغيرات التي ترافق النماذج الأصلية لمجموعة واحدة أو مجموعات. والتثاقف لا يحدد خارج السياق الذي يتميز بظروف خاصة بنمط تاريخي (الاستعمار) أو اقتصادي (الهجرة) أو سياسي (التبعية)، وهو يختلف باختلاف السياق وعلاقات الهيمنة الواقعية أو الرمزية، وكذلك بطبيعة العلاقات وأشكال التواصل. والتثاقف في حالة إدارة الجمارك المغربية، على علاقة بإدارة الجمارك الفرنسية في عهد الحماية، كان خاضعا لنمط الاتجاه الأحادي المتسم بهيمنة النموذج الفرنسي، حيث كانت فرنسا، ولازالت، هي المصدر الرئيسي؛ وعلى خلاف ذلك، كانت الإدارة الجمركية المغربية تشكل المتلقي. وفي عهد الاستقلال، استمرت هذه العلاقة الأحادية، الأمر الذي قاد حتما إلى استمرارية قيام إدارة الجمارك بدور المتلقي. والتثاقف لا يكون بالضرورة مفروضا وإنما قد يكون طوعيا، وهو صيرورة متعددة الأشكال يتداخل ويختلط مع الاستيعاب والتنشئة الثقافية للنخب، علما بأن التثاقف يعتمد على صيرورة الاكتساب والتحويل. ولذلك، فإن التثاقف المرتبط بموضوعنا قد يتخذ شكل مظاهر ومعدات متعددة تستعمل لإدخال أعضاء الجسم الفرنسي الغريب إلى الواقع المغربي. والتثاقف يعتبر وازعا قويا لتجسيد أنماط الملاءمة المتعارف عليها في أدبيات تقييم السياسات العمومية، كالتنقيل والاستنبات والاصطفاف والتقريب والتنميط والمحاكاة أو التقليد. إن القوانين والتنظيمات الجمركية المغربية لا تعدو أن تكون أكثر من مجرد منتوج فرعي للتقنية القانونية الفرنسية؛ فالمجهودات التي بذلت في هذا الإطار منذ الاستقلال بقيت، في غالبيتها، مجرد محاولة لملاءمة القوانين والتنظيمات المستوردة من فرنسا مع الحقائق والمعطيات والخصوصيات المغربية. لقد استلهم المغرب نظامه الجمركي، هيكليا وتقنيا وتشريعيا، وبشكل كبير، من النظام الجمركي الفرنسي، فتسمية الإدارة شبيهة إلى حد كبير بتسمية الإدارة الجمركية الفرنسية؛ كما أن اختصاصاتها هي، إلى حد كبير، نفس الاختصاصات الموكولة إلى المديرية العامة للجمارك والحقوق غير المباشرة في فرنسا. إن أول تعريفة جمركية تم تبنيها في 1957 وهندسة مدونة الجمارك تحملان أوجه شبه كثيرة مع تلك المعمول بها في فرنسا؛ كما أن إحداث الأنظمة الاقتصادية الخاصة بالجمرك يجد أصوله في فترة الحماية، وأن التحسينات التي أدخلت عليها تباعا مستلهمة من التجربة الفرنسية. لقد ظل تكوين مفتشي الجمارك وضباطها يتم، إلى حدود بداية السبعينيات من القرن الماضي، بمراكز التكوين الجمركي في فرنسا. وكان لهذا العامل أثره الكبير في تكريس محاكاة Emulation النظام الجمركي المغربي للنظام الفرنسيp فتعددية نقل التقنيات الفرنسية هي أحد أوجه التقليدانية التشريعية والإدارية والتقنية في المغرب الجمركي. إن إعمال المصالحة كنمط بديل عن المتابعة القضائية لفض المنازعات الجمركية يجد أصوله في الظهير الصادر في 16 دجنبر 1918، وتم تثبيته في مدونة 1977 وفي مدونة الجمارك الحالية. ومصدر هذه الأحكام هو التشريع الفرنسي. غير أننا نلاحظ أن المشرع الجمركي في هذا المجال لم يقم في إطار إعادة ترتيب القانون الجمركي وتحديثه بتنقيل ممارسة فضلى يعتمدها حاليا النظام الجمركي الفرنسي الذي قام بإحداث لجنة المنازعات الجبائية والجمركية ومنازعات الصرف بمقتضى الفصل 460 من مدونة الجمارك الفرنسية، حيث أضفى عليها الصبغة القضائية لما أوكل رئاستها إلى قاض مستشار للدولة. كما أن المشرع الجمركي المغربي قد أحدث لجانا استشارية مختصة، جهويا ووطنيا، ذات تشكيلة إدارية أوكلت رئاستها إلى المسؤولين الإداريين، وذلك لتسوية بعض المنازعات المتعلقة بأسس الجباية الجمركية المصرح بها من قبل المتعاملين الاقتصاديين بمناسبة إنجاز التصاريح الجمركية المفصلة دون أن يضفي على تشكيلتها ورئاستها الطابع القضائي كما هو الشأن في فرنسا، حيث تم إحداث لجنة للمصالحة والخبرة الجمركية بموجب الفصل 443 من مدونة الجمارك الفرنسية، وهي تكتسي طابعا قضائيا بحكم طبيعة تشكيلتها وترؤسها من طرف قاض. وبذلك، يبدو لنا أن النظام الجمركي المغربي لم يقم بتنقيل كامل للتقنيات والممارسات المعمول بها بالجمارك الفرنسية، وإنما قام بازدراع التقنيات التي لا تتناقض مع الخصوصيات الكبرى للنظام الجمركي المغربي الذي لم يرق بعد إلى مستوى التنازل عن بعض من اختصاصاته الأساسية المتسمة بالطابع الاحتكاري، في الوقت الذي تتجه فيه بعض الأنظمة الجمركية إلى إعمال آليات الوساطة والتحكيم لتسوية المنازعات كأشكال بديلة في هذا المجال. وبالركون دائما إلى عامل الخصوصية الذي تستقيه من طبيعة النسق العام للمملكة، فإن إدارة الجمارك المغربية وإن كانت قد استلهمت، في مبادرة تحديثها لفيالق الحراسة، بعض الخطوط العريضة التي جاء بها المشروع الفرنسي المسمى "الجمارك في أفق 2005" الذي تمحور، من بين مبادرات أخرى، حول تحديث جهاز الحراسة بالجمارك الفرنسية بهدف تكييف تنظيم مصالح الحراسة الجمركية مع التطورات التي ما فتئت تعرفها حركة السلع وتعزيز فعالية فيالق الحراسة في تأدية مهامها الخاصة لمحاربة التهريب وحماية الاقتصاد الوطني الفرنسي وفضاء الاتحاد الأوربي، إلا أنها وعلى الرغم من التدابير التحديثية الكثيرة التي اتخذتها ابتغاء تحديث فيالقها وتقوية قدراتها، كمكننة سجلات الفيالق وتحديد مهام الأعوان عن طريق الآلية المعلوماتية، فإنها لم ترق إلى مستوى جرأة ما أقدمت عليه الجمارك الفرنسية من قبيل إحداث وحدات جمركية جوية-بحرية Unités aéronavales تتكون من أعوان متخصصين بحارة وطيارين موكولة إليهم مهام مراقبة المياه الإقليمية باستقلالية عن باقي المتدخلين أو إحداث وحدات تدبير تدخلات الكلاب المدربة على رصد الشحنات شديدة الخطورة (مخدرات وأسلحة...). يحيى الهامل *باحث في القانون الإداري وعلم الإدارة