مداغ.. أو حج "فقراء" البودشيشية في ذكرى المولد النبوي. أزقة الزاوية، حيث يوجد الشيخ سيدي حمزة بن العباس، تحولت ساعات قبيل الليلة الكبرى إلى مقصد لآلاف الأتباع، الذين جاؤوا من مختلف أنحاء العالم للقاء الشيخ، وإحياء ذكرى المولد النبوي. "المساء" تنقلكم في هذا الربورتاج إلى كواليس الإعداد لليلة الكبرى، وحقيقة ما يروج بشأن الحالة الصحية للشيخ المزداد سنة 1922. «ولدت في أحضان عائلة ملحدة، لكنني اعتنقت الإسلام وأصبحت مريدا للطريقة البودشيشية القادرية بعدما تعرفت على أحد زملائي المغاربة في العمل»... هكذا لخص مواطن أمريكي حكايته مع «الطريقة البودشيشية»، وكيف أصبح أحد مريدي الزاوية في قرية مداغ، قرب مدينة بركان، حيث يحج سنويا آلاف «الفقراء» لإحياء ذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. بركان.. أولى محطاتنا في اتجاه الزاوية البودشيشية، حيث يوجد الشيخ سيدي حمزة بن العباس. حركة دؤوبة في محطات الطاكسيات، وصوت السائقين لا يكاد يتوقف من ترديد لازمة: «الزاوية..مداغ، مداغ». وكلما وصل أحد المريدين الأجانب إلا وسادت حالة استنفار بين السائقين لتمكينه من سيارة خاصة. استقلينا سيارة الطاكسي رفقة عائلة مغربية قادمة من مدينة مكناس، قطعت مئات الكيلومترات للقيام ب«الزيارة»، وإحياء ليلة المولد النبوي في عاصمة فقراء البودشيشية. «نحن من أتباع الزاوية منذ سنوات، ولا تمضي سنة إلا ونأتي لنصل الرحم مع شيخنا وشرفاء هذه الزاوية العظيمة»..يقول محمد، أحد أفراد العائلة المكناسية. تنطلق السيارة في اتجاه مداغ، البعيدة عن بركان بحوالي 15 كلم. على طول الطريق المؤدي إلى هذه القرية «المقدسة» في نفوس المريدين، لم يتوقف أفراد العائلة البودشيشية من السؤال عن أحوال السكان والمنطقة، فيما كان يردد السائق بابتسامة خفيفة: «الحمد لله..خاص غير الشتاء». وصلنا المكان بعد رحلة قاربت ال20 دقيقة. في مدخل الزاوية ترابط عناصر الأمن الوطني والدرك الملكي والقوات المساعدة لتأمين فعاليات الاحتفال بذكرى المولد النبوي، أما نطاق نفوذها فينظمه عدد كبير من الأتباع المجهزين بوسائل الاتصال اللاسلكية «تولكي وولكي»، التي تؤمن لهم التنسيق بشكل جيد. من كل فج عميق دخلنا الزاوية عبر بوابة يحرسها بعض الشباب، الذين يدققون في سحنات الزوار، وهم يردون على أجهزة «التولكي وولكي». بين أزقة الزاوية البودشيشية، تحول المكان إلى ملتقى يجمع مختلف الجنسيات من القارات الخمس. مريدون يحملون السبحات، وكلما أقبل أحدهم للسلام إلا ورد عليه المريد بلازمة «سيدي». «جئت من فرنسا، وهذه هي المرة الثانية التي أحضر فيها مراسيم إحياء ذكرى المولد النبوي»، يقول يوسف (فرانسوا سابقا)، في حديث ل»المساء». في ثياب تقليدية مغربية، ولحية خفيفة، وسبحة لا تفارق أنامله، يجول يوسف بين أركان الزاوية، مقدما المساعدة لباقي المريدين، ومرشدا الزوار الجدد إلى أماكن الاستقبال. «المسلمون من جنسية فرنسية موجودون بكثرة في هذا المكان الطاهر، ولاحظت أن الانتساب إلى الطريقة البودشيشية مرتفع بشكل ملحوظ»، يوضح يوسف، وقد ارتسمت على وجهه علامات الارتياح لزيارة الزاوية. يتوقف ليساعد أحد أصدقائه من الأتباع في حمل صندوق بلاستيكي، ثم يضيف مبتسما: «لقد وجدت ما أريد، بعدما كنت أعيش حياة بلا تدين». من بين الوافدين على الزاوية القادرية البودشيشية عدد من المواطنين من جنسيات بلجيكية وإنجليزية وهولاندية وأمريكية، وجنسيات آسوية وإفريقية، إضافة إلى عدد من العرب المنتسبين لطريقة الشيخ سيدي حمزة بن العباس. أما من المغرب فالقادمون جاؤوا من مختلف المدن المغربية، ليعمروا المكان تأهبا لليلة الكبرى التي تتزامن مع ذكرى المولد النبوي، حيث ستكون للمريدين زيارة للشيخ حمزة، الذي يخرج إلى المنتسبين للطريقة كل سنة لإلقاء التحية، ويدحض ما يتم ترويجه بين الفينة والأخرى من أخبار بشأن تدهور صحته. استنفار أمني في مدخل الزاوية البودشيشية تمركزت عناصر القوات العمومية، في حالة يقظة دائمة، لتأمين إحياء أتباع الطريقة لليلة الكبرى لذكرى مولد النبوي. عيون عناصر الأمن والدرك والقوات المساعدة تراقب أي صغيرة أو كبيرة في المكان، «لأن طبيعة الحدث استثنائية»، حسب بعض المنظمين. الحضور الأمني الذي يرافق هذه الاحتفالات مرده إلى حضور عدد كبير من المواطنين الأجانب من أتباع الطريقة، وشخصيات رفيعة المستوى، سواء من داخل المغرب أو خارجه، حيث يأتي رجال أعمال ووجوه من عالم السياسة والرياضة والفن لإحياء الليلة الكبرى، وهو ما يفرض اتخاذ الاحتياطات اللازمة لتمر الاحتفالات في أحسن الظروف. «المسألة عادية، فنحن نتوقع أكثر من 150 ألف مريد، ومن الطبيعي أن يكون هناك وجود أمني لضمان السير العادي للطقوس، إلى جانب الشباب المنتمين للجنة التنظيمية...فالجميع هدفه هو أن تمر هذه المناسبة في ظروف جيدة». داخل الزاوية حالة اليقظة والتأهب هي نفسها التي تسيطر على عناصر إحدى شركات الأمن الخاص، الذين قدموا من فرنسا لتأمين فعاليات الملتقى العالمي للتصوف في دورته الثامنة، والليلة الكبرى اليوم الثلاثاء، والتي ينتظر أن تستقطب آلاف المريدين. عناصر الأمن الخاص هم أيضا من المنتسبين للطريقة البودشيشية، «فكل من له خبرة معينة يقدم المساعدة»، يقول أحدهم متحدثا إلى «المساء». وإلى جانب عناصر الأمن العمومي المرابطة عند مدخل الزاوية، لم تخلف فرق الوقاية المدنية موعدها مع الحدث، حيث تم توفير مجموعة من سيارات الإسعاف وشاحنة إطفاء تحسبا لأي طارئ، «فالحيطة والحذر مسألتان ضروريتان، لأن هناك شيوخا ونساء وأطفالا يأتون إلى الزاوية، وقد يصاب بعضهم باختناق أو يغمى عليه بفعل التعب، وبالتالي فلا بد من وجود الإسعاف إلى جانبنا»، يوضح أحد المنظمين. مبيت وإطعام الفقراء توقعات المنظمين تشير إلى إمكانية استقبال ما يناهز ال150 ألف مريد من المغرب وخارجه، مما يشكل تحديا حقيقا على مستوى التنظيم، وتوفير مستلزمات الراحة، سواء لمبيت الوافدين على مداغ، أو توفير الطعام والشراب للأتباع. في إحدى الأزقة حيث توجد مجموعة من المنازل التي تحتضن الزوار، وضع بعض مموني الحفلات خيمات مختصة في تقديم مختلف أنواع الأطعمة، وبأثمنة تتفاوت تبعا للجودة، وذوق الزبون. «الأهم بالنسبة إلينا هو أن نوفر للمريد ما يسد به رمق الجوع، وفي ظروف صحية جيدة»، يقول أحد المنظمين في حديث ل»المساء»، ثم يزيد موضحا: «هناك عدد مهم من الضيوف الذين نقوم بإطعامهم، من مال الزاوية الذي هو عبارة عن مساهمات المريدين أنفسهم، ونحن في تطور مستمر على مستوى التنظيم». «لا يهمني ما سآكله، فقد أخذت منذ الصباح بعض الخبز والجبن..الأهم هو الغذاء الروحي، وذكر الله في هذا المقام الطاهر»، يقول أمين، شاب قادم من مدينة مكناس، وقد ارتدى «قندورة» يميل لونها إلى الأزرق الداكن، وهو يحمل سبحة على غرار باقي المريدين. اللجنة التنظيمية للزاوية البودشيشية، وتفاديا للمشاكل المتعلقة بالمبيت، قامت أياما قبيل انطلاق فعاليات الملتقى العالمي للتصوف، بحجز عدد من المنازل والغرف في مداغ ومدينة السعيدية حتى يتمكن ضيوف الملتقى من الإقامة فيها، خاصة أن هذه الفترة تعرف ارتفاع الطلب على حجز الغرف في الفنادق والمنازل المخصصة للكراء. «الحمد لله الأمور تسير على ما يرام، وقد قمنا بجميع الإجراءات لضمان راحة الضيوف والمريدين»، يوضح عضو في اللجنة التنظيمية، وهو يهم بوضع ملصق على إحدى البنايات، وقد كتب عليه: «الملتقى الثامن للتصوف». الخلافة وصحة الشيخ على خلاف السنوات السابقة، فإن الزاوية هذه المرة لا تعرف نقاش الكواليس الذي شهدته مرات سابقة، بشأن من سيخلف الشيخ سيدي حمزة، المزداد سنة 1922، بعدما خرج السنة الماضية للإعلان وبشكل حاسم عن الابن الذي سيخلفه على رأس الطريقة. يقول عبد الصمد الغازي، عضو الهيئة العلمية للطريقة البودشيشية ل»المساء»: «مسألة الخلافة أصبحت محسومة، إذ أن الذي سيتولى التربية، بعد عمر طويل للشيخ سيدي حمزة، هو ابنه سيدي جمال..وهذا أمر حسم فيه الشيخ». وعن الحالة الصحية للشيخ يرد الغازي قائلا: «هو في صحة جيدة، ويستقبل الزوار، ويتحدث معهم بشكل عادي ويوجههم... وستنظم اليوم الثلاثاء، الذي يوازي الليلة الروحية زيارة لجميع المريدين للقاء الشيخ، بل إنه منذ بداية أسبوع المولد النبوي الشريف وهو يستقبل ضيوف الزاوية، ويتمتع بصحة عالية». يقول محدثنا إن «الطريقة البودشيشية أخذت منحى العالمية، وأصبح لها بعد كوني استطاعت معه أن تفرض ذاتها في مختلف القارات، وهو معطى يؤكد أن هذه الطريقة أصبح لها إشعاع كوني ووطني وإقليمي، بفضل راجع لجهود شيخها أطال الله عمره». عمل الشيخ في إعطاء هذا البعد الكوني للطريقة البودشيشية لخصه الغازي في تطوير وسائل تربية الطريقة وتواصلها وخطابها، «بحيث يكون مناسبا وموافقا لمقتضيات العصر ومجيبا عن انتظارات كل من يبحث عن تربية روحية وقلبية، وكل من له عطش روحي، ولذلك فالطريقة ولله الحمد في اتساع دائم، وفي طلب متزايد وهي متواجدة في القارات الخمس». على هامش الملتقى العالمي للتصوف التقينا عبد الصمد الغازي، وهناك جاء أكثر من 1000 مريد لحضور الفعاليات العلمية للملتقى، قبل أن يلتحق بهم اليوم آلاف الأتباع لإحياء الليلة الكبرى. يرتفع أذان المغرب في مداغ، ويهرول الجميع لأداء الصلاة. وفي طريق العودة من المسجد، يدخل بعضهم في لحظة روحانية وهو يردد بصوت عال: « الله..الله». هنا مداغ..مهد الزاوية القادرية البودشيشية. رسائل سياسية تحت شعار «التصوف وبناء الإنسان: نحو إصلاح متوازن»، انطلقت مساء أول أمس الأحد بمداغ، فعاليات الدورة الثامنة للملتقى العالمي للتصوف، بمشاركة باحثين من المغرب ومصر وفلسطين والجزائر والنيجر والولايات المتحدةالأمريكية وعدد من الدول. أولى الرسائل التي بعث بها الملتقى في نسخته الثامنة جاءت على لسان مدير الدورة، منير القادري بودشيش، الذي أكد أن «البعد الأخلاقي والروحي للإصلاح يجعل المصالح والإصلاح في منأى عن الجشع والسيطرة والظلم، ويحقق بذلك مصالح العباد الاجتماعية». وأوضح منير بودشيش أن «الهدف من المحاور المسطرة في هذا الملتقى هو إظهار العلاقة التفاعلية بين إصلاح الفرد وإصلاح المجتمع، أي أن كل إصلاح تنموي بشري لا بد أن يقوم على إصلاح الإنسان، مادام الأخير يلعب فيه الدور الإنساني، وبالتالي لا بد من بعد أخلاقي وروحي لهذا الإصلاح». أما عبد الصمد الغازي، عضو الهيئة العلمية للطريقة، فأكد ل»المساء» أن «الملتقى راكم تجربة على مستوى مناقشة إشكالات مرتبطة بالتصوف وعلاقته بالمجتمع». وأشار إلى أن اختيار موضوع «التصوف وبناء الإنسان..نحو إصلاح متوازن» جاء في سياق هيمنة القيم الاستهلاكية والفردانية التي باتت تهدد هوية الإنسان الروحية والأخلاقية من تفكك أسري واجتماعي، وإدمان الشباب لما يخرب عقولهم. واعتبر الغازي أن الإصلاح مطلب حياتي ضروري للرقي بالمجتمع، وهو الأمر الذي يجعله متلازما مع بناء الإنسان، الذي يتعرض في كل زمان وعصر ومرحلة لعوامل تهدد كيانه الوجودي والأخلاقي والروحي، «والملتقى يريد أن يتطارح ما يمكن أن تسهم به التربية الروحية والصوفية في البناء والإصلاح». وسيعكف ثلة من العلماء والباحثين الجامعيين من المغرب وخارجه على دراسة مجموعة من المحاور ذات صلة بالتصوف وبناء الإنسان، حيث ستتم مناقشة مواضيع من قبيل «التربية الصوفية وقضايا السلوكيات الخطرة»، و»الأزمة الأخلاقية في المجتمعات..تشخيص وعلاج»، و»القيم الروحية وقضايا المواطنة والحكامة والتنمية. الورقة التأطيرية للملتقى اعتبرت أن «ارتفاع إيقاع الحياة المعاصرة زاد من حدة التوترات والضغوط، وبدا إنسان اليوم وكأنه يستيقظ من حلم تحقيق الرفاه الكامل، والسعادة الأبدية متيقنا من نسبيته في هذا الوجود، ومسؤوليته في الحاضر والمستقبل، مما جعله يواجه أسئلة حارقة تمس سلامة حياته في كوكب الأرض». وعلى هامش الملتقى العالمي الثامن للتصوف، تشهد مداغ تنظيم دورة تكوينية لفائدة جمعيات المجتمع المدني حول الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، بتنسيق مع عمالة بركان، تحت عنوان: «من أجل اقتصاد اجتماعي وتضامني وأخلاقي في خدمة الإنسان»، من تنشيط مختصين في الاقتصاد الاجتماعي والتضامني من المغرب وفرنسا وبلجيكا، وعدد من المهنيين.