«البلطجية» مصطلح قديم/حديث يطلق على أشخاص يصنفون أنفسهم فوق القانون، دافعهم في ذلك أنهم يتمتعون بقوة عضلية «استثنائية» أو بملامح «إجرامية مخيفة»، يمارسون عن طريقها «الترهيب» و«الابتزاز» أحيانا على ضعاف القوم، لإشباع رغبتهم في تحقيق «السيطرة المرضية» أو لجعلها وسيلة لتأمين مدخولهم اليومي. ولفظة «البلطجية» تم تداولها بشكل كبير مع بداية الثورات العربية أو ما يعرف ب«الربيع العربي» إذ اعتمدت السلطات في مجموعة من البلدان على أشخاص «أقوياء» يعتبرون أنفسهم فوق القانون لمواجهة «غضب الشارع». في المغرب تكتسي «البلطجة» طابعا آخر، فهي ليست مصطلحا وليد اللحظة، بل هي سلوك اعتاده المغاربة وتعايشوا معه لفترة طويلة في مجموعة من الأحياء خاصة الشعبية منها، التي أفرزت لنا هذا النوع من الأشخاص بسبب مجموعة من العوامل أهمها الوضع الاجتماعي والاقتصادي للفئات التي تقطن هذه الأحياء، والتي في الغالب أبناؤها يكونون «ساخطين» على أوضاعهم الاجتماعية والمادية لهذا نجدهم يفرغون طاقتهم الجسدية من أجل فرض «قانونهم» الخاص وجعله يسري على المستضعفين منهم، لهذا نجد في بعض الأحياء بأن أحد «البلطجية» مثلا معروف وسط الحي الذي يقطن به، والجميع يضرب له «ألف حساب» لأن هؤلاء في نظرهم لا يهابون أحدا و«عندهم كالرباح كالخطية». وبعيدا عن الأحياء ف«البلطجية» يمارسون «ساديتهم» في «الأسواق العشوائية»، حيث نجدهم يفرضون على الطبقة الكادحة أداء مبالغ يومية باستعمال العنف، وأحيانا «بتخريب الممتلكات البسيطة أو حجزها مثل الميزان» من أجل الضغط عليهم وترويعهم بغية أداء مبالغ تتراوح ما بين 3 و5 دراهم يوميا، وهي مبالغ قد تصل إلى 10 دراهم أو أكثر حسب طبيعة الأسواق، وكذا ببعض «الأحياء» حتى أن منهم من يقطع الطرق على المواطنين ويرغمونهم على دفع أموال لهم أو الاعتداء عليهم، بل إن من هؤلاء من «يتحكم» في بعض الأحياء دون غيرها، ومن هؤلاء من انتهت مسيرته «السلطوية» ب«مراكمة ثروات مهمة ويعيش اليوم في حياة باذخة». كلمة «البلطجية» أيضا تأخذ المعنى نفسه بعالم السجون الذي يسود به الكثير من العنف و«التسلط»، خاصة في حقبة معينة من الماضي، حين كان بعض السجناء يتفنون في الاعتداء على الضعفاء منهم ويتحكمون في زمام الأمور، بل وأحيانا في كل مساطير المؤسسة السجنية ولا يستطيع حتى بعض المدراء- حينها- اتخاذ القرارات إلا بعد مشاورات معهم. منهم من كان -سجينا- في الأوراق فقط، كان يقيم ليالي ملاح داخل زنزانته، وكلما أفرط في الشرب عنف المعتقلين وتباهى بجبروته أمامهم. منهم من انتهت حياتهم على أيادي آخرين، ومنهم من بلغ الأمر بهم إلى حد قتل أحدهم بداخل السجن، وآخرون تسببوا في إعفاء أو طرد مدراء بعض السجون الذين كانوا يقفون عاجزين عن تحديهم.. أصحاب «عضلات مفتولة» أو «منحرفون» قسمات وجوههم تثير «الرعب».. هؤلاء فقط هم من يملكون-في الغالب- مفاتيح «قيادة» محطات «عشوائية» إما لسيارت الأجرة الكبيرة أو مواقف للسيارات العادية. والجامع بينهم القوة الجسدية أو القدرة على فرض «قانونهم» الخاص، بل منهم من يعاني من اضطرابات نفسية ويبدو أنه «شخص غير سوي».. وحاجتهم في ذلك «إيدبرو على الصريف»، حسب لغتهم. بعض المهنيين طرحوا مشكل «غياب التقنين»، خاصة مع وجود بعض المواقف غير القانونية التي «يسطو» عليها أقوياء عنوة ويتصرفون في مداخيلها كاملة دون أن تتدخل أي جهة لمنعهم، علما أن الكثيرين منهم «يتبجحون» بقوتهم الجسمانية ويبرعون في التخويف والترهيب حتى ترى أن أغلب السائقين والسائقات يدفعون «ما يؤمرون به» من طرف هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم أحيانا «فوق القانون». «بلطجة» في محطات «الطاكسيات» هناك من وصفهم ب«بلطجية» محطات سيارات الأجرة التي «نبتت» فجأة بمجموعة من شوارع الدارالبيضاء وبشكل «غير قانوني»، في حين يعتبرهم بعض السائقين «مساعدون لتنظيم عملية نقل الزبناء» وسائقون آخرون يتفادون التوقف في هذه المحطات، والسبب أنهم يجبرون على دفع درهم أو درهمين مع كل «رحلة»، وهم يرفضون الطريقة التي تتم بها العملية ويقولون إن هؤلاء «الكورتية» لا يؤدون أي عمل واضح ولا يستندون على أي شرعية للقيام بذلك، وهم يتلفظون بكلام نابي في الكثير من الأحيان ولا يحترمون لا السائقين ولا الزبناء، يقول أحد السائقين ل»المساء» وأن السلطة المسؤولة هي المطالبة بمنع انتشار هذه الظاهرة أو على الأقل تنظيمهم بشكل يجعلهم يلتزمون بمبادئ معينة، لأن «الكثير من هؤلاء الأشخاص هم منحرفون ومستهلكو مخدرات» رغم وجود بعض الاستثناءات. يقول السائق نفسه. سعيد (اسم مستعار)-حاله حال الكثيرين- اعتاد التنقل عبر سيارة أجرة كبيرة من حي التشارك إلى محطة «الحوزية» بمنطقة سيدي عثمان- ليجد أمامه طابورا طويلا من المواطنين الذين ينتظرون دورهم في ركوب سيارة الأجرة – ليقل طاكسي آخر يوصله إلى وسط المدينة. يلتزم سعيد كغيره ب»القانون» الذي يفرضه «صاحب المحطة» والذي «قد يجامل أحيانا بعض الزبناء الذين يحسنون معاملته معنويا وماديا»، وهنا تثور ثائرة الكثيرين ممن ينتظرون لمدة قد تتجاوز الساعة، خاصة مع بداية الأسبوع، غير أن أغلبهم «يكمم» فاه خوفا من أن يدخل في مشادة أو مواجهة مع «المشرف» على سير هذه المحطة، الذي يقول سعيد»إنه لا يتوانى في السب والشتم بكلام نابي يندى له الجبين»، وأحيانا تنشب بينه وبين أحد زبناء المحطة خلاف ينتهي بتدخل بعض المواطنين. سعيد وبعض من التقتهم «المساء» بهذه المحطة عبروا عن استيائهم الشديد ليس فقط من «المشرف»، بل بجميع المحطات العشوائية التي تم خلقها بشكل «غير قانوني» والتي «فرضت» عليهم تخصيص مبلغ إضافي للوصول إلى بعض المحطات، لأن بعض سائقي سيارات الأجرة الكبيرة أضحوا وكأنهم «يتاجرون» في معاناة ومآسي الطبقات الشعبية الكادحة، وعوض أن يغطوا كافة تراب المنطقة لنقل الزبناء يصطفون في طوابير بمحطة «الحوزية» وينتظرون أن ينتقل إليهم الزبناء من مختلف المناطق، علما أنه كثيرا ما تدخل الأمن لمنع هذه النقطة وإخلائها، غير أنه سرعان ما «تعود حليمة إلى عادتها القديمة».. محطة الحوزية ليست هي الوحيدة، بل هناك محطات أخرى بشارع إدريس الحارثي وبنقط أخرى بمنطقة بورنازيل، وكذا بالقرب من المحطة الطرقية أولاد زيان وبوسط المدينة أيضا.. وما تشترك فيه جميعها هو وجود عناصر «لا صفة» قانونية لها «تجبر» السائقين على دفع مبالغ معينة، وإن لم يدفعوها فلا شك أنهم سيتلقون وابلا من السب والشتم، بل قد يتجاوز ذلك إلى الضرب. كما يتجنب بعض الزبناء أنفسهم التوقف بهذه المحطات بسبب الخوف من هؤلاء الذين يصفهم بعض السائقين بأنهم «منحرفون يستغلون هذه المحطات بالقوة لاستغلال السائقين». بعض المواطنين ممن استفسرتهم «المساء» قالوا إنه بالفعل بعض هؤلاء «الوسطاء» بمحطات الطاكسيات يثيرون في الإنسان الرعب، غير أنهم أيضا مواطنون ولهم الحق في البحث عن سبل لتأمين مداخيلهم اليومية، غير أن هذه المهنة تحتاج إلى تقنين، لأن بعض السائقين تراهم يدفعون لهم على « مضض». «بلطجية» في الأحياء كثيرا ما نسمع عن أشخاص منحرفين «خارجين عن القانون» يبسطون سيطرتهم ببعض الأحياء ويؤمنون مدخولهم اليومي ب»ابتزاز» العموم، ويجبرونهم على دفع مبالغ مالية. تقول ليلى(موظفة):» إنها بالصدفة كانت تسير بأحد أحياء الدارالبيضاء، وفجأة تحسست يدا تجرها بتلابيبها من الخلف. كان وجهه أسمر اللون وكانت به آثار جروح غائرة وبثور وآثار في نفسي الخوف. حسبته في البداية لصا، غير أنه سرعان ما حاول أن يهدئ من روعي وقال لي أنا لن أسرق حقيبتك، لكن أعطيني 50 درهما وعليك أمان الله أنت ما شي بنت الحومة. والله واحد ما يهضر معاك غادي دخلي وتخرجي بسلام ومرحبا بك في أي وقت.. غير تعاوني مع خوك راني ما خدامش وكنت في الحبس وغير ولاد الدرب هما لي كيتعاونو معايا باش نشري البلية..»..قالت ليلى إن ركبتيها فشلتا وما عادت تملك القدرة على الوقوف، غير أنها وجدت نفسها أمام خيارين إما أن تعطيه ال50 درهما وتغادر بسلام أو أنها «لا شك ستنال نصيبا وافرا من السب والقذف وقد يصل الأمر إلى الاعتداء عليها».. أضافت «سلمته ال50 درهما التي هي ما كنت أملك وتوجهت نحو منزل خالتي وأنا أرتجف من الخوف».. عندما وصلت أفصحت لهم عما وقع وقالوا لي إنه «بلطجي الحي» وأن لا أحد يرفض له طلبا وأنه يبتز الجميع وأن ملامحه «لمخسرة» تساعده على ذلك. ويوجد من بين المنحرفين أنفسهم، ومنهم اللصوص، من يتوزعون على الأزقة.. وكلما سجلت سرقة أو اعتداء يكون مصدرها معلوم لدى هؤلاء. عبد الإله(صاحب محلبة) يقول إن أخته تعرضت لابتزاز من طرف أحد المنحرفين الذي عاكسها وأخافها بهيئته التي كانت ضخمة، قبل أن يقرر سرقة حقيبتها، بعد التحري تبين أن الحي الذي تمت فيه سرقة شقيقتي تابع لنفوذ المنحرف، وقد تكلف أحد الأشخاص باسترداد حقيبة أختي التي كانت تحتوي على وثائقها الخاصة. «بلطجية» داخل السجون على عهد الإدارة العامة للسجون لم يكن بوسع أقل من 5000 موظف بدون تكوين أو وسائل عمل ضرورية كبح جماح أزيد من 60 ألف سجين، جلهم لديهم ميول للعنف وبعضهم مجرم ب»الفطرة». كان من الضروري اللجوء إلى خدمات «البلطجية»، وإن كانوا تحت مسمى آخر وهو «الحسرافة». كان يتم انتقاؤهم من بين المعتقلين ذوي البنية الجسمانية القوية والتاريخ الإجرامي والقدرة على المجازفة حتى ولو كلفتهم عقوبات حبسية إضافية، بالمقابل كانت تمنح لهم امتيازات متعددة تشمل المتاجرة في أماكن النوم، بيع المخدرات والخمور التي يتم إدخالها إلى السجن، استغلال القاصرين جنسيا، وإعادة بيع المؤونة الخاصة بالسجناء، كما كان يخول لهم امتياز البقاء خارج الغرف بعد عملية النداء وحتى أوقات متأخرة من الليل. ويزخر تاريخ إدارة السجون بأسماء «بلطجية» كتبوا أسماءهم بمداد «من دم»، أشهرهم على الإطلاق: «سبارتكيس» بسجن العواد بالقنيطرة والذي ختم مشواره الحافل من البلطجة بقتل نزيل فارق الحياة متأثرا بجروح ورضوض أصيب بها على يد «سبارتكيس» الذي عنفه على مرأى ومسمع الجميع لا لشيء إلا لكون السجين رفض قانون الغاب الذي يفرضه «سبارتكيس» و طالب بتنفيذ قانون 23-98 المنظم للحياة داخل السجون. «البقرة» بسجن عكاشة حيث كان «ملك السجن» بامتياز، كشفت محاضر البحث التمهيدي التي أنجزتها عناصر أمنية بالدارالبيضاء عقب هتك عرض قاصر كيف أن البقرة كان يحتفظ بمفاتيح الزنازن ويقوم بإخراج الأحداث الذين يحلو له هتك عرضهم، بل ضبطت بحوزته صورة وهو يرتدي الزي الرسمي لموظف، وهي الصورة التي قدمت ضمن محجوزات قضية عصفت بمسؤولين داخل السجن حينها. «الطوغو» معتقل ذو جنسية مزدوجة مغربية فرنسية كان «الحاكم الفعلي» للسجن الفلاحي عين علي مومن بسطات، بغرفته بالطابق العلوي بالمصحة كان ينظم جلسات للبوكير يحتسي خلالها المشاركون قنينات الويسكي والخمر. قدرته على شراء ذمم بعض المسؤولين مكنته من مغادرة أسوار السجن لقضاء ليالي ملاح بنوادي عين الدياب بالدارالبيضاء، وهي القضية التي عصفت بمدير السجن وأحالته على التقاعد المبكر وأعفت رئيس المعقل من مهامه فيما نقل «الطوغو» إلى سجن بنسليمان لإتمام محكوميته. «ولد الوليدة» سجين ذو عضلات مفتولة لا يعصى لمدير سجن بولمهارز خلال فترة التسعينات أمرا، إذ تمت الاستعانة به لتعنيف حقوقيين اعتقلوا وحاولوا فضح ما يجري وراء أسوار السجن، كان يتاجر في كل شيء ويستبيح أجساد الأحداث، كما يرد اسمه في محاضر ملفقة لسجناء مشاكسين. الامتيازات التي كان يحظى بها داخل السجن دفعته إلى اقتراف جريمة قتل فور معانقته الحرية، أمنيته الرجوع إلى العالم الذي يسود فيه ويحكم. «تشاش» معتقل في إطار شبكة لتزوير أوراق السيارات، كان يقضي عقوبة حبسية بسجن أيت ملول، بنية جسمانية قوية وثراء فاحش، كانت له الكلمة الفصل في كل صغيرة وكبيرة بالسجن، بلغ به الحد إلى صفع الموظفين ونقل من يعترضون على سطوته نحو مؤسسة سجنية أخرى. «كتيت» معتقل ذو إعاقة جسدية لم تمنعه من بسط نفوذه على السجن الفلاحي بتارودانت، كان يدير متجر السجن ومن داخل محله التجاري هذا كان يتحكم في كل مساطير المؤسسة السجنية، ولا يستطيع مدير السجن أن يتخذ قرارا دون الرجوع إليه، خلال عطلة نهاية الأسبوع كان يقيم ليالي ملاح داخل زنزانته، وكلما أفرط في الشرب عنف المعتقلين وتباهى بجبروته أمامهم. تجاوزاته دفعت الغيورين من الموظفين إلى مراسلة إدارة السجون حيث تم إيفاد لجنة تفتيش وقفت على تجاوزات هذا البلطجي ليتقرر إعفاء المدير من مهامه كإجراء عقابي. عادة ما كانت الإدارة العامة للسجون تتخلص من هؤلاء «البلطجية» إما بترحيلهم نحو مؤسسات أخرى مع التوصية بالتأديب كلما تجاوزوا الخطوط الحمراء، أو يلقوا حتفهم على يد بلطجية جدد أو في حالة وفيات مجهولة السبب، والعديد من القصص يزخر بها السجن المركزي بالقنيطرة. مع تعيين حفيظ بن هاشم، المندوب العام السابق لإدارة السجون، حرص على الرفع من عدد موظفي السجون وبشكل غير مسبوق، كما زود الموظفين بوسائل العمل الأساسية، بما فيها مسدسات كهربائية قادرة على شل حركة كل معتدي، وعلى عكس ما كان يجري به العمل في السالف أصبح موظفو السجون يخضعون لتدريبات جسمانية رفعت من كفاءتهم وقدرتهم على مواجهة كل شغب، حرص المندوب العام السابق على إخضاع جميع المعتقلين لقانون 23-98 ومنع أي شكل من أشكال الامتيازات، وهو ما شكل نقطة قطع نهائية مع عهد البلطجة، فسجن «ستفيلاج» بطنجة والذي كان إلى غاية الأمس القريب يصنف ضمن النقط السوداء في تاريخ المندوبية العامة، حيث كان معتقلون بلطجية من أباطرة المخدرات يحظون بامتيازات تستعصي على التصديق، إذ كانوا يقيمون بغرف مخملية بها كل وسائل العيش والرفاهية ويسمح لهم بإدخال كل الممنوعات بما فيها المشروبات الروحية والأفلام الخليعة، وممارسة الجنس مع خليلاتهم داخل باحة الزيارة، كل هذه الامتيازات وعلى مدار السنتين الأخيرتين أضحت من الماضي، فالجميع يخضع لمقتضيات القانون المنظم للحياة داخل السجون وأي مخالفة يجري التعامل معها على ضوء مقتضيات القانون ودون حاجة إلى خدمات بلطجية جعلوا السجون وعلى مدار أزيد من ستة عقود محكومة بقانون الغاب. بلطجة ب«الباركينات» تزامنا مع حفل الاستقبال الذي خصص أخيرا للنسور الخضر بالمركب الرياضي محمد الخامس بمنطقة المعاريف بالبيضاء قاد القدر هشام(اسم مستعار) في ذلك اليوم إلى هناك، حيث كان يعتاد ركن سيارته لعدة ساعات ودون أن يؤدي عنها أي فلس، غير أنه خلال يوم الاحتفال انقلبت الأمور وتفاجأ وهو يتأهب للخروج من الموقف الذي كان يغص بالسيارات بشاب «سنانو رايبين ولحمو مشرط وتحسينة ديال الشمكارة»، يقول هشام، يطالبه على غير العادة بأداء سعر خدمة حراسة السيارة. قال هشام رفضت في البداية الأمر وطلبت منه تمكيني من وثيقة واحدة تؤكد أنه فعلا حارس بهذا الموقف، لكنه لم يتردد في السب والشتم بكلام جد نابي، وأمام تعنت الشاب هشام حضر رفيقه الثاني ثم الثالث وكلهم من طينة واحدة، يضيف هشام، حاول بكل الطرق أن يفهمهم بأنه ليس غريبا عن المنطقة التي لم يسبق له أن أدى فيها ولو درهما واحدا على سيارته لأن مقر عمله لا يبتعد كثيرا عن هناك. منع هشام بالقوة من المغادرة وقيل له إما أن تدفع أو لن تغادر ولك الخيار، وما كان على الشاب إلا أن أدى لهم الدراهم التي كانوا يفرضونها وغادر وفي قلبه غصة على «الحكرة» التي تعرض لها من طرف شرذمة من المنحرفين الذين يستغلون انحرافهم لترهيب أصحاب السيارات وسلبهم مبالغ مالية بدون وجه حق. هشام أكد أن هؤلاء المنحرفين يحصلون كغيرهم على سترة خاصة بالحراس أو سترة خاصة بأصحاب النظافة، ويوهمون ضحاياهم بأنهم «حراس مواقف قانونيين» وهذا غير صحيح، لكن في الوقت الذي يكون فيه المواطن العادي مضطرا إلى الأداء دون أن ينبس ببنت شفة، فالسلطات المسؤولة هنا مطالبة بتقنين القطاع وتوفير الحماية للسائقين الذين يضطرون إلى الأداء باستمرار.. «بصراحة نعاني هنا في الرباط من كثرة الكارديانات في أي منطقة قمت بالتوقف فيها تجد 'كارديان'، أحيانا تقف بسيارتك لتشتري خبزة بدرهم وعشرين سنتيما، ويأتي 'الكارديان' وتضطر أن تعطيه درهما أو درهمين، يظنون أن من يملك سيارة هو مليونير. والأغرب من ذلك أن بعضهم لا يتردد في تهديدك إن لم تدفع له». ويضيف «أنا طالب وأحيانا آخذ سيارة والدي لأنها تساعدني في التنقل وتعفيني من عناء الطاكسيات والطوبيسات فأذهب إلى الكلية وفي جيبي 5 دراهم فقط. ضريبة الكارديانات أكبر بكثير من ضريبة السيارات. قهرونا». عزيز(صاحب سيارة)، لقد أصبح ركن سيارة بمدينة الدارالبيضاء مشكلا حقيقيا، وكلما اطمأن قلبي لأحد الأماكن التي أجدها صالحة للتوقف، كلما فرض حراس السيارات أثمنة خيالية، إذ تتم عملية التسيير بطريقة عشوائية ويفرض هؤلاء الحراس أسعارا مزاجية على الزبناء، والأكثر من ذلك أن الكثير منهم لا يحسنون معاملة السائقين، ومنهم من لا يتردد في توجيه ضرباته القوية للزبون، علما أن الكثير من المواقف تكون «غير قانونية» ولا تستفيد الخزينة العامة من مداخيلها وكلها تنتهي إلى جيوب هؤلاء الحراس الذين يكون الكثير منهم «منحرفون» يحسنون لغة الشارع و»تخسار الهضرة» مما يضطر معه السائق إلى الأداء عوض الدخول في مشادات معهم قد تنتهي بالاعتداء عليه. وأضاف عزيز أن أغلب هؤلاء يجنون يوميا مبالغ تتراوح ما بين 1500 و2000 درهم، وهي مبالغ قد تتضاعف خلال نهاية الأسبوع وأيام العطل.. شكايات كثيرة هي الشكايات التي يرفعها مواطنون ضد حراس يتهمونهم فيها بالمطالبة بالمبلغ الشهري دون أداء المهمة على أحسن وجه، يقول هشام إنه تفاجأ باختفاء سيارته خلال الأيام القليلة الماضية، وعندما استفسر تبين له أن «ديبناج» نقلتها نحو المحجز البلدي، لأنها كانت في وضع غير صحيح، وأن الحارس الذي ساعده في ركن سيارته تبرأ منه في النهاية وقال له بالحرف «أنت لم تركن سيارتك عندي»، علما أنه في حال لم تنقلها سيارة الجر فإنه آنذاك سيكون العكس وسيحضر ببساطة ليتسلم المبلغ المالي وبالقوة. مجموعة من المواطنين يتهمون بعض الحراس ب»الابتزاز»، خاصة عندما يحرسون مناطق بدون الحصول على أي ترخيص، ومنهم من يعتبر أن الحارس يتنصل من المسؤولية الملقاة على عاتقه بحكم القانون مادام يختار مهنة الحراسة، ومنهم من يعتبر أن الحراسة تناط بأشخاص ليسوا أكفاء.. وفي المقابل يدافع بعض الحراس عن أنفسهم، ويقولون إنه لا يمكن التعميم، وأن من يقومون بالحراسة بشكل «غير قانوني» فالسلطات هي المسؤولة عن ذلك، لأن هذا الأمر يلطخ سمعة النزهاء الممارسين لهذه المهنة. وحمل الحراس المسؤولية لبعض المواطنين الذين قالوا إنهم «لا يحترمون النظام ولا يقدرون العمل الذي نقوم به، فمنهم من لا يؤدي لنا درهما واحدا، وفي حالة تعرضها للسرقة يقيم الدنيا ولا يقعدها»، ومنهم من يتهم بعض المواطنين بالنصب على الحراس لأنهم الحلقة الأضعف، ومنهم من يقوم بالتجول بسيارته بين الحراس وعند نهاية الشهر يختفي، يقول الحراس أنفسهم. أحمد، حارس بجماعة البرنوصي، يتحدث عن متاعب كثيرة في هذه المهنة، أولها التنظيم يقول: « مرة جا عندي واحد قالي مشا لي البورطابل من السيارة فسألته:هل أخبرتني بذلك عندما أوقفت السيارة؟ وآخر أخبرني بأن وثائق منزله سرقت من داخل سيارته ...»، يعترف أحمد بأن حراس النهار يعتبرون أقل ضررا من حراس الليل الذين ولجوا هذا العالم مضطرين لأن «طرف الخبز صعيب» سواء أكان الحارس منحرفا أم لا، فالمنحرف أيضا قد يستعيد صوابه ويلتزم بعمله وليس بالضرورة أنه سيظل منحرفا. عدم هيكلة هذه المهنة عبر جمعيات أو نقابات، عمق معاناة «العساسة»، الذين في حالة ضياع أو إتلاف تجهيزات السيارة يتحملون مسؤولية ذلك، وليست السيارات فحسب، فأي مشكل سرقة أو اعتداء وقع، سواء على الأشخاص أو الممتلكات، يقول أحدهم، « يجرو على العساس»، فهم يهتمون بحراسة السيارات وقد يدخلون في عملهم حتى حراسة المنازل والعمارات، وأي شجار وقع مع السكان أو أصحاب السيارات قد تكون نهايته الطرد من العمل، وأنه يصعب أن نعمم هذا الحكم على جميع الحراس، فمنهم «ولاد الناس» ومنهم «شمكارة» غير أن هؤلاء يضمنون على الأقل تسلم قيمة العمل الذي قاموا به أو لم يقوموا به لأنهم «شداد وأقوياء»، يضيف بعض الحراس. غير أن بعض المواطنين يصرون على كيل الاتهامات لحراس السيارات متهمين بعضهم ب «ابتزاز» أصحاب السيارات في آخر الشهر، وأن منهم من يستحوذ على مساحات فارغة بدون ترخيص، ويقوم بلعب دور حارس للسيارات وهو ينوي فقط كسب المال على حساب مصالح المواطنين، الذين في الغالب يتفادون الشجار مع الحارس لأنهم يخشون الاعتداء عليهم أو على سياراتهم، خاصة إذا كان الحارس صاحب سوابق عدلية، كما أن بعضهم يثير الرعب بسبب التصرفات «المستفزة»، التي قد تصل إلى حد التهديد في حال لم يمنحه صاحب السيارة المال آخر الشهر أو خلال المدة القصيرة التي حرس فيها سيارته. بعض الإحصائيات الرسمية تتحدث عن أكثر من ألف موقف غير قانوني للسيارات بالدارالبيضاء، وهو ما يفسح المجال أمام متطفلين «منحرفين» لا يتوانون في «ابتزاز» السائقين، مما يتسبب في غالب الأحيان في مواجهة قد تتحول إلى اشتباك بالأيدي، مما يحتم على السلطات اتخاذ الإجراءات اللازمة للحد من هذه الظاهرة التي تزداد اتساعا يوما بعد يوم. «رجل مراكش الثامن».. عندما تتحول «البلطجة» إلى سلم نحو المجد و الثراء وسط دروب وأزقة حي سيدي بن سليمان بقلب المدينة العتيقة مراكش نشأ «البركة». تأثر بهذا الوسط الذي يجمع بين الفقر والهشاشة والتلاحم الاجتماعي منذ نعومة أظافره، برزت لديه مميزات الزعامة رغم مستواه التعليمي المحدود، حرص على أن يؤسس لنفسه قاعدة شعبية عريضة وسط شباب الحي ونسائه وتجاره، فإليه يتم اللجوء لحل المشاكل العالقة أو الخلافات، ساعده في ذلك إصغاؤه المتميز وبنيته الجسمانية، مع توالي الأيام تحول البركة إلى «فتوة» لحي سيدي بلعباس، كان يفصل في المظالم ويتقدم في الأفراح وفي المآتم ولا يقوى غريب على أن يمارس نشاطا مشروعا أو غير مشروع دون أخذ إذن مسبق من «زعتوت» كما كان يلقبه الجميع. تجاوزت شهرة فتوة سيدي بلعباس أسوار المدينة العتيقة لتملأ كل أرجاء مدينة النخيل، الشيء الذي حتم على الشرطة القضائية أن تستعين بخدماته سواء لاستتباب الأمن ومحاربة الجريمة بالزاوية العباسية، أو لملاحقة بعض المجرمين في المدينة. أبان الشاب ذو البنية الجسمانية القوية والعضلات المفتولة عن عطاء غير محدود، إذ بمساعدته تم تطهير مجموعة من بؤر الإجرام حتى داخل المجالات القروية التي تخضع لسلطة الدرك، ويباشر فيها الأمن الوطني تدخلات بعد إذن مسبق من النيابة العامة. كان «زعتوت» يتقدم عناصر الأمن في كل تدخل ويتولى شل حركة المبحوث عنهم، قبل أن تتكلف العناصر الأمنية بتقييدهم وتحويلهم إلى مقر الضابطة، وإذا كانت هذه التدخلات من قبل «زعتوت» لا تكتسي أي صبغة رسمية، ويتم الاكتفاء بالإشارة في المحاضر إلى عبارة « بناء على إخبارية من مخبر نتحفظ عن ذكر اسمه» فإن خدمات المخبر لم تكن مجانية، إذ نجح في مراكمة ثروة مالية هائلة بعد أن سمح لأحد تجار المخدرات بحي سيدي بلعباس الآمن بفتح نقطة بيع كانت تستعصي على التدخلات الأمنية، وتحولت على مدار ثلاث سنوات قبلة لتجار ومدمني السموم. وقد تم توقيف زعتوت بتهمة الاتجار في المخدرات من قبل العناصر الأمنية ذاتها التي كان يؤازرها، وأدين بخمس سنوات سجنا قضاها بسجن بولمهارز بمراكش، عاش زعتوت حياة بذخ وثراء في الغرفة 8 بالجناح الأيسر والتي تتسع لخمسين معتقلا، كانت مخصصة لزعتوت ورفاقه السبعة الذين يحرصون على خدمته وتلبية كل رغباته، كل وسائل الرفاهية والبذخ كانت متوفرة بهذه الغرفة بدءا بالهواتف الرقمية، الصحن اللاقط، التدفئة الكهربائية، مرورا بالمشروبات الروحية. كان أشخاص كثيرون يصطفون مساء كل يوم جمعة في شكل طابور طويل لتقبيل يد البركة، وتسلم أعطياته والتي تتنوع ما بين أوراق نقدية أو .. ولم يكن هؤلاء يتورعون على اللجوء إليه من أجل تفادي عقوبة أو نيل مبتغى أو.. حتى وهو داخل السجن ظل زعتوت صاحب سطوة ونفوذ، ماسكا بخيوط تدبير شؤون حي سيدي بنسليمان، بوسعه تأديب أي مشاكس من خلال جيش عرمرم من الأتباع الذين يدينون له بالولاء والطاعة، شهرته الواسعة أغرت منتخبين كثيرين خلال الانتخابات الجماعية والبرلمانية السابقة لنيل دعمه ومساندته. وجوه سياسية كثيرة من مختلف ألوان الطيف السياسي شوهدت داخل مزار السجن تطلب ود الرجل وتطرح إغراءات مادية ومعنوية، فالكتلة الناخبة التي يتحكم فيها بالمدينة العتيقة قادرة على ترجيح كفة أي مرشح. خلال الربيع العربي ومع ظهور الدور البارز للبلطجية في دول ( مصر، اليمن، وتونس) بزغ نجم زعتوت من جديد، إذ تمت الاستعانة بخدماته. بعد مغادرته السجن استثمر الرجل الأرصدة المالية المجمدة وودع البلطجة وأسس شركات استثمارية متعددة وفي مجالات متباينة، وبات يدير مشاريع رائدة في المدينة الحمراء تتوزع ما بين مطاعم وملاهي ليلية راقية، شقق مفروشة، عقارات، شركات لإدارة المعارض واستغلال الأملاك العمومية، لم يفقد الرجل سطوته ونفوذه، فبوسعه إزاحة كل مسؤول يشوش على مشاريعه، بصمته كانت واضحة خلال الإطاحة بمسؤول مكلف بتدبير المعارض، إذ سحب منه تفويت الإشراف على كراء المرافق العمومية، وذلك بعد أن حال المسؤول ما بين زعتوت واستغلال فضاء المسبح البلدي بالحي المحمدي لإقامة معرض تجاري. يقدر رقم معاملات الرجل السنوي بأزيد من ثلاثة مليارات، لم يفقده نمطه في العيش، فهو دائم التردد على حي سيدي بلعباس يجيد الإصغاء لمشاكل سكانه ويحرص على حلها باستغلال شبكة علاقاته، إذ يعتبره سكان الزاوية العباسية بمثابة «رجل مراكش الثامن» خاصة وأن»البصرة «الذين يرابطون بضريح أبي العباس السبتي ويتلون الورد والأذكار يحرصون على الدعاء له بانتظام «شيلاه أثمانية رجال». عبد العلي بنيعيش: المشهد المغربي العام أصبح مسرحا ل«البلطجة والشمكرة والتشبيح» - ماهو تعريف البلطجة بالتفصيل وما هي أنواعها ومن يصنعها وكيف تنتج سياسيا ومجتمعيا ؟ بناء على هذا السؤال ولضبط مصطلح البلطجة بدقة، يقتضي الوقوف عند دلالتين أساسيتين: الدلالة اللغوية والدلالة الاصطلاحية السياسية والاجتماعية، والتي من خلالها سيتبين لنا كيف تتم عملية صناعة البلطجة. أ الدلالة اللغوية والسياق التاريخي: في اللغة العربية، البلطجة» هي فرض الرأي بالقوة والسيطرة على الآخرين، وإرهابهم والتنكيل بهم. وهي لفظ دارج يعود أصله إلى اللغة التركية، ويتكون من مقطعين: «بلطة» و»جي»؛ أي حامل البلطة، و«البلطة» كما هو معروف أداة للقطع والذبح. والمصطلح لاشك قد ظهر تاريخيا نتاج أحداث اتسمت بالفوضي، وبحالات التسيب يقول المؤرخ الفلسطيني سليم المبيض:» تميزت فترات التسيب الإداري والانهيار العسكري في تاريخ فلسطين خاصة في نهاية الحقبة العثمانية بظهور العديد من مثل هذه المصطلحات، مثل الشبيحة والبلطجية والزعلطية والحرامية، نظرا لشيوع الفقر والمجاعات، مما جعل من هذه المصطلحات قوة ترهب الناس، لأن هؤلاء الناس كانوا يسطون على المنازل وقطع الطرق وارتكاب جرائم النصب والنهب، في وقت لم يجدوا فيه أي رادع قوي من قبل السلطات». وأضاف: «كثيرا ما وجد هؤلاء ضالتهم في قيام العديد من الثورات والانتفاضات مندسين بين الناس لكي يرتكبوا العديد من الجرائم، أبسطها كانت السرقة وأفضحها جرائم القتل. فالبلطجه كما يبدو من خلال السياق اللغوي والتاريخي تعبير عن سلوك غير سليم وغير سوي، يتميز بزيادة النشاط البهائمي والشراسة والعنف والفتك والقتل، ويعتبر من أكثر المشاكل السلوكية السيئة المنتشرة في العالم. - كيف تصنع البلطجة سياسيا ومجتمعيا؟ كان المصطلح محدود التداول، ومقتصرا على المنطقة التي تكثر استعماله في تعبيراتها المجتمعية، خاصة في مصر التي نما وكثر تداول المصطلح فيها سياسيا وإعلاميا مع ثورة 25 يناير، وخصوصا مع (موقعة الجمل)، إلا أنه توسع مدلوله في العالم العربي وأصبح ينعت من خلاله أي سلوك مجتمعي مشين وسيئ وعنيف بالسلوك البلطجي، وهو ما يوازي التشبيح في سوريا والشمكرة في المغرب، وعموما كل منطقة لها تعبيراتها الخاصة، إلا أن اصطلاح البلطجة بدأ يطغى على مستوى التداول في باقي الدول العربية. إلا أن الأنظمة العربية الدكتاتورية تفننت في صناعة مدرسة البلطجة حين استخدمت الخارجين عن القانون في مجموعات مأجورة للاعتداء على المتظاهرين السلميين المعارضين لحكمهم، أو للاندساس بين صفوفهم لإثارة الشغب والفوضى. وهكذا ارتبط اسم «البلطجية» بالمجموعات التي أثارت الرعب بين المواطنين المصريين خلال أحداث الربيع المصري، إذ تصدرت أخبارهم عناوين كافة وسائل الإعلام، من هم «البلطجية» ومن يقف وراءهم؟ غير أن لدى المصريين نوع آخر من «البلطجية»، فهم يربطونها بالنظام على حد قول رئيس تحرير جريدة العربي عبدالله السناوي: «عرفت الثورات العربية بعض المصطلحات التي التصقت بها كما يرتبط الاسم بصاحبه، فانطلقت ظاهرة المصطلحات مع أول شرارة للثورات على أرض تونس، فأطلق على الجماعات والعصابات التي تعمل على ترويع المواطنين والسلب والنهب والقتل (بالميليشيات) مرورا بأرض الكنانة مصر فلقبت تلك الجماعات فيها (بالبلطجية ) أما شعب ليبيا الذي لاقى الويلات من رجال القذافي فنعتوهم (بالمرتزقة)، وفي اليمن أسموهم (البلاطجة)، ونادوهم في سوريا (بالشبيحة ) وغيرها العديد من المسميات التي أطلقتها الشعوب المنتفضة لتغيير النظام» . والبلطجية والشبيحة وغيرها من المسميات ليست بالظاهرة الجديدة، لأن هؤلاء نتاج تخطيط من أنظمة معينة وبعض الجهات الخفية بهدف تكوين فروع أمنية لا انتماء لها إلى وطن ولا هدف لها إلا قتل كل إنسان يرفض الظلم والفساد. وفي هذا السياق أكد سليم المبيض بأنه في فترة الثورات في العصر الحديث تم استخدام المصطلحات استخداما سياسيا، من قبل أيدي خفية لتعطيل الثورة، ومحاولة أعداء الثورة استخدام العصابات في سبيل الوصول لأهدافهم السياسية أو الدينية، إلا أن بعضا من الزعماء العرب أطلقوا هذه المصطلحات على الثوار الذين يعارضون نظام حكم الاستبداد . وقال المؤرخ الفلسطيني المبيض في حديثه:»هناك بعض الجهات الخفية ممن يستخدموا البلطجية والشبيحة في تخويف الثوار والمنتفضين ضد ديكتاتورية بعض الزعماء، وكثيرا ما استخدمت المصطلحات مثل البلطجية في العصر الملكي المصري أيام الملك فاروق والسادات كتبرير لقمعهم للمظاهرات وقيام الثورات» . وبين المبيض بأن البلطجية أو اللصوص أو الشبيحة يظهرون في أوقات التسيب لخدمة مصالحهم الشخصية أو لخدمة الأيادي الخفية التي تحركها خارج نطاق الدولة، وربما الاستعمار أو السلطات الحاكمة أو الصهيونية حتى لتفكيك المجتمع. - ماهي الأسباب التي أدت إلى استفحال ظاهرة البلطجة اجتماعيا على مستوى الأسواق والأماكن العامة؟ تقارير أجهزة الشرطة ودراسات الباحثين الاجتماعيين والنفسيين تقول إن هناك تزايدا ملفتا لظاهرة البلطجة العامة من حيث التنوع والتصنيف، إذ لم تعد مقصورة على الفئة العمرية التي تتراوح ما بين سن 18 الى 30 عاما أو تنحصر في البلطجة الإجرامية، بل شملت كل الفئات العمرية من أصغرها إلى أرذل عمرها، كما توسعت ظاهرة البلطجة ونراها جلية في الأسواق ومحطات النقل وفي الشوارع الرئيسية العامة والأعراس والجنائز، مما يدل على أن هذا حصل بفعل غياب تأطير استراتيجي ثقافي قيمي للمجتمع، لأن المؤسسات المنوط بها هذا الدور كالأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات والجامعات والجوامع لم تنخرط في تربية الضمير والذوق الاجتماعي والحس الإنساني الأنيق، بل انصرفت نحو البحث عن همومها الذاتية والشخصية، وأصبحت بدورها مشكلة بلطجية وتشبيح، مما أثر على باقي المجتمع التابع لها، فتولدت لدينا البلطجة السياسية التي حولت العمل السياسي والبرلماني إلى حلبة المعايرة وطباع هائجة وسقوط للألفاظ مما أسقط المشهد السياسي كله في الرذالة والعبث، وأما البلطجة الرياضية فما تنتهي منافسات أو مقابلات بين فريقين إلا وتنتهي بالفتك والمنازلات بالأيدي وبنقل المشهد الرياضي الجميل إلى مستنقع الانتقام والانتقام المضاد، كما تزداد البلطجة سوءا في فضاءات التربية والتعليم عندما يصبح الاعتداء الجسدي وفلقات الضرب للأساتذة السمة البارزة والموضة الجديدة في مؤسساتنا التربوية التعليمية، بالمقابل أصبح الصياح والتهريج والتوبيخ والتقريع والغضب المستفز للتلاميذ الوسيلة التعليمية الحضارية التي يوصل بها ورثة الأنبياء العلم للطلبة والتلاميذ، فالبلطجة التلاميذية الأساتيذية المتبادلة بينهما هي رمز تخلف نظامنا التعليمي، وهكذا إذا تحولنا إلى فضاء آخر من المفروض أن يساهم في تنمية مناخ السكينة والطمأنينة، تحول بدوره إلى علة وداء بدل أن يكون الدواء الشافي لهذه الأمراض النفس اجتماعية، وهي المساجد والزوايا وغيرها من المؤسسات الدينية، فإذا قمت بإطلالة على مندوبيات الشؤون الإسلامية والمجالس العلمية فلاشك أنك ستستمتع بالمرافعات والدفوعات اليومية والصياح والعويل -الذي نشهده في محاكمنا الموقرة- وكأنك تطل على أحد مشاهد عذاب جهنم، فالصورة النمطية اليومية صدام أبدي بين جماعة الحي وإمام المسجد أو بين المؤذن والواعظ أو بين الخطيب ومراقبي المساجد نتيجة الغضب وشهوة الغلبة، والأحقاد بين الأطراف التي لا يعلم أحد لماذا ولصالح من تنتج هذه الصراعات. وهكذا فمشهدنا العام أصبح مسرحا للبلطجة والشمكرة والتشبيح من المؤسسات الدينية والمدنية، من المتدينين وغير المتدينين، من المتعلمين وغير المتعلمين، من مغاربة الداخل والخارج من الأدباء وغير الأدباء، مما يدل أن هذه الظاهرة لها مبررات بالطبع ولم تأتى من فراغ، إذ أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية ساعدت على انتشار تعبيرات الرذالة والخسة وضعف التمييز والإفراط في قوة الشهوة والغضب والعنف وتحكم صفات البهائم والسباع، مما أخرج المجتمع تقريبا برمته إلى منطقة الحمق واللاتحكم النفسي، مما سهل من حدوث عمليات الضرب والتجريح والتنكيل والخصومة والسرقة والنهب وتعذيب الآخرين والقتل، مما يدل أننا أمام تدنى خطير للمستوى الخلقى والقيمى، وأن مجتمعاتنا أصبحت وللأسف لا تخضع لأي قيم إنسانية أو ضمير، أو وازع دينى أو أخلاقى، ويلاحظ أن انتشار سلوك البلطجية بوسائلها المادية وغير المادية بدأ يهدد كيان استقرار المجتمع وتماسكه. - فما الحل في نظرك للرفع من مستوى التفكير والذوق والجمال والأمن الاجتماعي؟ سنحاول أن نشير فقط إلى نقط نعرض فيها رؤيتنا لبعض الخطوات الإجرائية المحتمل أنها ستخفف من ظاهرة البلطجة المجتمعية والمتمثلة في: رفع مستوى الوعى والإحساس بالمسؤولية وتحفيز الجميع نحو الاستزادة من المعرفة، فالتربية بالعلم تشجع المواطن على الوعى بوطنه وأهمية انضباطه والحفاظ على نظامه وهدوء فضاءاته العامة، ومن ثم لا يقبل أن يندمج في هذه الظاهرة لنضج تفكيره، كما ينبغي إعادة تفكيك وبناء وظائف وزارة الثقافة والشبيبة والرياضة والتربية والتعليم والأوقاف والشؤون الإسلامية بسياسات معاصرة قوية، وبأطر مؤمنة بمشروع بقيمة التثقيف والتوعية المجتمعية، كما يقتضي موازاة مع المقاربات الرسمية تشجيع تدخل المجتمع المدني الفاعل الواعي بدوره الوطني، الحامل لبرنامج إعادة تشكيل الوعي الجمعي الإيجابي النهضوي. التدخل بسياسات تربوية واجتماعية تواصلية تحسيسية ومستمرة مع المحيط الأسري والطفل وإشراكها في علاج ظاهرة البلطجة. تشجيع وتوسيع أنشطة المؤسسات الرسمية وغير الرسمية التي تعنى بالأدب والشعر والفن الراقي والتراث الأخلاقي الأصيل، لتمني الجمال والذوق والوجدان الحي والعقل اللانفعالي، لإخراج المجتمع من أخلاق السوء ومظاهر العنف الهمجي وضعف التمييز، وإدخاله عالم الرحمة والخير والفضيلة والطمأنينة والسعادة، والتي تتنافى مع طباع السباع والوحوش الضارية. وضع جهاز أمني متخصص يتجاوز الأدوار الكلاسيكية إلى أدوار مجتمعية متكاملة مع المؤسسات الأخرى الفاعلة في مجال القضاء على البلطجة، لأن غياب دور الأمن وانحصاره وتحييده أو تدخله بطريقة غير مدروسة للحد من الظاهرة قد يزيد من تفاقم المشكلة، مما يستدعي إعادة تكوينه وتأهيله طبقا لمقاربات تخدم الحد من البلطجة التي تولد الإجرام وتزيد من متاعب رجال الأمن، لأن هناك فئة محرضة من أصحاب المصالح، يهمها في المرتبة الأولى غياب الأمن وضياع حالة الاطمئنان لدى المواطن، لأنها تعمل على نشر الفوضى، فهم يستأجرون البلطجية لنشر ثقافة الفوضى والقتل، ونحن نعلم جيدا أن هناك فئات مأجورة ومدفوعة الثمن لصالح مراكز قوى تعيث فى الأرض فسادا حتى تشعل الفتن فى الوطن، وللأسف الشديد أن رجل الأمن الآن أصبح يواجه نوعية جديدة من المجرمين والبلطجية ذوي مهارات عالية في المكر والحيلة والغش، فرجل الأمن له الحق والدعم من المجتمع ككل، ولزاما على وزارة الداخلية أن تدعم رجل الأمن معنويا وماديا على ما يقوم به من أعمال تعرضه للخطر، كما أن المجتمع عليه دائما أن يقف إلى جانب رجل الأمن، لأنه هو السند للمجتمع من البلطجية لصوص الوطن. يجب على رجال القانون وعلماء الاجتماع والنفس وعلماء الإجرام والدين وضع منهج علمى لمكافحة ظاهرة البلطجة، كما يجب أن يقوم هذا المنهج على أسس وأطر علمية وموضوعية للحد من انتشار تلك الظاهرة، القيام بدراسات علمية سيكولوجية واجتماعية موضوعها هؤلاء البلطجية. إحداث برامج إعلامية مكثفة ومدروسة لتوعية المجتمع بخطورة تلك الظاهرة لأنها تسيء إلى صورة الوطن، ويجب تجريم المجتمع لهذه الظاهرة وذلك عن طريق المشاركة الفاعلة لأفراد المجتمع للحد من انتشار الظاهرة. ومما سبق نستنتج أن ظاهرة البلطجة بدأت تنتشر بشكل كبير فى مجتمعنا، مما يؤشر على تصاعد العنف والتعصب وقلة احترام الغير، مما يقتضي اتخاذ تدابير استعجالية وقائية لعلاج البلطجة قبل تفاقم الحالة. * رئيس مركز ابن رشد للدراسات الفكرية والأبحاث المعاصرة