يبلغ «با عبد القادر» 120 سنة، نصف عمره قضاه في التشرد، والوقوف أمام أبواب المساجد، طلبا لدرهم أو ريالات معدودة، يهدئ بها من روع الجوع، الذي يقطع أمعاءه الهشة، أو يحتمي بها من البرد القارس، الذي ينخر جسده النحيف. «با عبد القادر»، كما يطلق عليه عدد من أصحاب المحلات و»الفراشة» وحراس السيارات والدراجات النارية، عجوز بلغ من الكبر عتيا، واشتعل رأسه شيبا، «مقطوع من شجرة»، لا أحد يعرفه اليوم في مراكش، وهو الذي جاء من منطقة جبلية بنواحي امنتانوت. فالسماء سقف «بيته» الفسيح، والقمر مصباح «غرفته»، ليس له في هذا العالم من أسرة سوى، أولئك الذين ينظر إليه بعين الرحمة، وينعمون عليه بدريهمات يُسكن بها ألم الجوع في فصل شتاء قارس، والعطش خلال الصيف، يرغم الكثيرين إلى الرحيل عن المدينة أو اللجوء إلى أجهزة التبريد «كليماتيزور». أمام باب مسجد جليز التقت «المساء» بعجوز لا يقدر على الحركة، حتى أنه لا يقوى على النظر إلى من يقف أمامه، بله، النطق بكلمة بصعوبة بالغة. يرقد «با عبد القادر»، الذي يتغطى بلحاف أحمر اللون، وبعض الأغشية البلاستيكية. لم يقوى العجوز على الإجابة عن استفسارات «المساء»، ومحاولة معرفة معلومات أكثر عنه، اللهم بعض الكلمات، التي كانت مفتاحا وشفرات لنا لمعرفة قصة واقعية تندرج في إطار الخيال الواقعي، الذي للأسف بدأ ظاهرة تنتشر في مجتمعنا، الذي قوامه التضامن الاجتماعي. يحكي الرجل العجوز عن مراحل حياته التي كلها آسى، فقد اشتغل «با عبد القادر» سنوات داخل مزرعة، يرعى الغنم، بالرغم من أنه لم يجد من يرعاه، وسخر قوته البدنية، التي صارت وَهَنًا ومرضا، في حمل أكوام التبن، وأعمدة حديدية يسقي بها الحرث والزرع، وكان يحظى باهتمام صاحب الضيعة وأبنائه، لكن ما إن اخترق المرض جسمه النحيف، وصار يعاني من أمراض مزمنة، حتى رمي به إلى الشارع، دون مراعاة لتضحيات «با عبد القادر»، الذي قضى سنوات من أجل الحفاظ على عطاء الضيعة، بالرغم من مرضه وشيبه الذي اشتعل في رأسه، فصار «با عبد القادر» نموذجا يصدق عليه مثل «في وقت الخير كايتلموا عليك حيت يخوا ليك الجيب، وفي وقت الشدة ما تلقى لا صديق ولا حبيب». فصار بتعليمات من رب الضيعة دون مأوى يحميه، ويقيه من برد مراكش القارس، ولا مصدر رزق يسد به حاجياته الأساسية المتمثلة في أكل وشرب وملبس. يرقد اليوم، ومنذ أزيد من 60 سنة، «با عبد القادر» أمام باب مسجد جليز، حيث يقيم المسلمون صلواتهم الخمس. لا يقوى على الحركة أو التململ إلا بصعوبة، حتى أنه لا يقوى على مد يده من أجل تلقف درهم أو 50 سنتيم... يجود بها من يشفق على حاله، أو يبتغي وجه الله تعالى من الصدقة. فلا معين ل «باعبد القادر» من أجل قضاء حاجته أو الوقوف من أجل دب الحياة في جسده، سوى بعض الباعة المتجولين من «الفراشة»، وكذا حراس السيارات والدراجات النارية، التي يتركها المصلون، الذين يرتادون مسجد جليز. يحتضر «با عبد القادر» أمام باب مسجد جليز ببطء، فلا من يمنح له كوب ماء، أو من يمن عليه بقطعة خبز تترك له فرصة العيش للحظات قليلة، لكن اليوم مع اشتداد قسوة البرد، وانخفاض درجة الحرارة إلى مستويات، تجعل أجهزة التدفئة تنفث حرارتها داخل المنازل، تصير فرص عيش «با عبد القادر» ضئيلة، في ظل عدم التفاتة من يعيله أو ينقذه من برد يتسرب إلى جسمه كالسم، وجوع ينخر أمعاءه كالسرطان.