كيف سيغلقون نوافذ بيوتهم إذا ما هبت الريح هذه الليلة؟ أية ملابس ستدفئهم بعد أن هبط مؤشر الحرارة إلى أقصى الدرجات؟ ومتى سينزل الحساء الدافئ إلى أمعائهم ليطردوا جوع الشتاء؟ مشردو فاس -وغيرها من المدن- ليست لديهم نوافذ لأنهم يعيشون في الشارع وملابسهم الرثة لا تقيهم البرد القارس ولا طعام لهم سوى ما يجمعونه من القمامة… فاس: محمد المتقي ليلا تتضاعف معاناتهم بسبب انخفاض درجة الحرارة إلى أدنى مستوياتها. شبان مشردون وجدوا أنفسهم «وجها لوجه» مع البرد القارس. يتخذون أماكن مختلفة للاحتماء من قساوة المناخ الذي تعرفه فاس. وأطفال وشبان وشيوخ ونساء من مختلف الأعمار يبحثون عن دفء يحميهم برد ليالي الشتاء. مهما اختلفت أحلامهم، فإن ظروف العيش في الشارع توحدهم وتجعلهم يقتسمون نفس الفضاء. كلما أسدل ليل فاس ستاره على المدينة، إلا وبدأ هؤلاء الذين يوصفون «بالمشردين والمتسكعين» في البحث عن أماكن تقيهم قساوة البرد، خاصة وأن المدينة توجد في موقع على مرمى حجر من جبال الأطلس المتوسط المغطاة بالثلوج ، وهذا ما يجعلها أكثر عرضة لموجة البرد بسبب الرياح . الشارع: البيت المشترك روائح كريهة تنبعث من درج أحد أبواب بناية مجاورة لمركز اتصالات المغرب وسط المدينةالجديدةبفاس، هناك استلقى شخص استعدادا لقضاء ليلة باردة جديدة في العراء. الرجل اعتاد المبيت في هذا المكان بعد أن سرح قطعة كرتون مقوى على الدرج واختفى جسده في جلباب أسود قاتم لا يظهر منه إلا وجهه الشاحب وهو يتابع بعينيه المارة. بالكاد يفتحهما قبل أن يبتسم في وجوههم ابتسامة المغلوب والمقهور في إشارة استعطافية لعلهم يجودون عليه بما يتيسر من المال أو الطعام. وضع لم تتردد إحدى السيدات وهي تنزل من سيارتها في التعليق عليه قائلة : «الله يحسن العون …تلقاه جمد مسكين بالبرد». حالة هذا الشخص لا تختلف عن آخر اتخذ من زاوية قرب باب منزل مهجور بزنقة 16 نونبر بالقرب من السوق المركزي بالمدينةالجديدة، مكانا يلتحف الكارتون المقوى مفترشا أقمشة رثة و وسخة وأغطية لا تختلف عنها في الوصف والخصائص، وقد تجمدت ملامحه بعد أن أخذ البرد القارس منه الكثير حتى أصبح منهكا لا يقدر على الكلام. تشكل أبواب بعض المساجد وسلالم بعض العمارات وكذا بعض المنازل المهجورة وحتى مغارة القطار وبعض الساحات العامة والشوارع والأزقة فضاءات يلجأ إليها هؤلاء «المشردون»، تأويهم حيث يفترشون الكارطون والجرائد وفي أحسن الحالات أغطية رثة لحماية أنفسهم من قساوة البرد، وفي العديد من الحالات يلتحفون السماء في ظل غياب الاهتمام الكافي سواء من طرف الجهات الرسمية أو فعاليات المجتمع المدني للتخفيف من معاناتهم . يعاني هؤلاء المشردون من التهميش والإقصاء المطلق، وضعف المساعدات الاجتماعية التي يمكن أن تقيهم قساوة أحوال الطقس البارد التي تجتاح المدينة في ظل غياب مقاربة اجتماعية واضحة تستهدفهم لمساعدتهم على العيش في مؤسسات خيرية وملاجىء قد تكون معدة لهذا الغرض وتوفر الحدود الدنيا من شروط العيش. وتنضاف قساودة البرد إلى شظف العيش ليزداد تدهور حالاتهم الصحية وهذا ما يجعلهم أكثر عرضة للأمراض المختلفة ويجعلهم مهددين في صحتهم. كما هو الشأن للجثة التي تم العثور عليها أواخر شهر نونبر الماضي بحديقة قريبة من دار الشباب القدسبالمدينةالجديدة، وهي جثة شاب مجهول الهوية في عقده الثالث. لم يتم العثور على أي وثيقة إدارية تثبت هوية صاحب الجثة، وبدا من مظهره أنه مشرد رغم استبعاد احتمال أن يكون دخل في نزاع مع مشردين دأبوا على النوم والاستقرار بتلك الحديقة المهجورة. وقبل ذلك بأيام تم العثور على جثة شخص آخر قرب متجر بطريق إيموزار. تشرد أم انحراف؟ ورغم أن المواطنين لايترددون في إبداء تعاطفهم مع هذه الفئة سواء بتقديم أغطية أو أغذية ونقود، لكن العديد منهم يرى أن هذه «الظاهرة» وجب البحث في أسبابها ومعالجتها أو على الأقل «التقليل من حدتها»، وهنا يرى مصدر قانوني بأن التشرد وظاهرة الانحراف لهما أبعاد متعددة مضيفا بأنه يجب التمييز بين التسول والتشرد، «فظاهرة التسول تبقى مخالفة تماما لظاهرة التشرد، فالمتسول يحتكم إلى مأوى يقصده عند آخر الليل وعقوبته سالبة للحرية إذا ثبت أن لديه دخلا ماديا يقيه امتهان التسول»، يضيف المتحدث بينما «التشرد آفة يجب محاربتها وعلاجها وعرض بعض هؤلاء على أخصائيين اجتماعيين وأطباء معالجين للإدمان على تعاطي المخدرات وآخرون نفسانيون، خاصة أن أغلب أسباب التشرد حسب المتحدث تتجلى في عامل التفكك العائلي والمشاكل العائلية،فيما ذهب العديد إلى وصف هذه الظاهرة «بالدخيلة على المجتمع المغربي»، وبالتالي فهي تحتاج إلى مزيد من التعبئة من أجل الحد من تبعاتها السلبية». ورغم صعوبة تحديد أرقام مضبوطة لعدد هؤلاء المشردين، فإن معطيات مستقاة من عدة تقارير صحفية واستنادا إلى مصادر أمنية تفيد بأن «حوالي 1000 قاصر تتم إحالتهم سنويا على العدالة بتهمة السرقة الموصوفة والنشل والضرب والجرح ومختلف الجنايات والجنح» من طرف مصلحة الشرطة القضائية بفاس. كما أن هذه التقارير ودائما استنادا إلى نفس المصادر، تتحدث عن إنجاز الضابطة القضائية بفاس سنويا لما يفوق 1000 قضية يكون أغلب المتهمين فيها في حالة تخدير، وهي سلوكات يتصف بها معظم المشردون. ويؤدي الإدمان على المخدرات وخصوصا الرخيصة إلى الانحراف، وفي حالات عديدة إلى ارتكاب جنح وجرائم مختلفة، تصل في بعض الأحيان إلى حد القتل ، وحسب نفس التقارير فإن معلومات صادرة عن مصالح الأمن بفاس تشير إلى حجم الملفات التي تحال على العدالة التي لها ارتباط بالإدمان، إذ أن هناك المئات من الملفات سنويا يتابع فيها أصحابها بجنح وجنايات لها صلة بالإدمان على المخدرات»، وهو ما يجعلهم عرضة للمتابعة، حيث تتم إحالتهم على المراكز الموجودة بالمدينة كما هو الحال بالنسبة لمركز عبد العزيز بن ادريس الذي يأوي العشرات من الأطفال الجانحين المنحدرين من المدن والمناطق المجاورة. إمكانيات إيواء محدودة ورغم وجود بعض المراكز الخاصة ببعض الفئات العمرية من المنحرفين والمشردين والدور الذي تلعبه بعض الجمعيات ومؤسسات الرعاية الاجتماعية في إيواء واحتضان هذه الشريحة، فإن صعوبة حصرهم وتعدادهم تزيد من تفاقم وضعية العديد منهم، فعدد المراكز الموجودة بمدينة فاس التي يمكن أن تقوم بهذا الدور، تبقى معدودة على رؤوس الأصابع، فيما طاقتها الاستيعابية و إمكانياتها المالية «تبقى غير كافية لتلبية حاجيات هذه الفئة»، فبالإضافة إلى مركز عبد العزيز بن ادريس لحماية الطفولة الذي يأوي العديد من هؤلاء خصوصا الجانحين منهم هناك مركز «أهلي لاستقبال الطفولة في وضعية صعبة» ودار الخيرية الخاصة بالبنات الجانحات إضافة إلى مركز خاص للأطفال المتخلى عنهم،ينضاف إليهم «مركز أولادي لتكوين وإدماج الأطفال والشباب» الذي يمكن أن يستقبل حوالي 130طفلا يساهم المركز في إدماجهم أسريا ومدرسيا ، غير أن تقرير سنة 2012 لهذا المركز سجل 10 حالات العود رغم الجهود التي قام بها في سبيل إدماجهم، وعلل هذا التقرير سبب ذلك بعدم رغبة الطفل في التمدرس وعدم وجود الحالة المدنية ثم وجود أطفال مهملين. ورغم ما تقدمه هذه المراكز لهؤلاء الأحداث الجانحين من خدمات ومبادرات كما هو الحال بالنسبة للمركب الاجتماعي المتعدد الاختصاصات الذي قام بتجربة تحت شعار «شتاء دافىء للجميع» حيث يقوم المركز بتجميع المشردين وإيوائهم بالمركز «إلا أن ذلك يبقى محدودا في الزمان» حسب ما يراه أمين الصديقي أحد أطر دار الأطفال الفاسية وأحد أطر هذا المركز،معتبرا أن دورالجمعيات يبقى هو التحسيس والترافع وأن الأمر يعود للدولة في تبني مقاربة أكثر واقعية »، خصوصا أن شريحة المشردين تضم فئات عمرية مختلفة كهولا وشبانا وأطفالا يحتاجون إلى حلول أكثر فاعلية تراعي شروطا خاصة بهم، بما فيها بناء مراكز خاصة بهم تراعي حاجاتهم وتقيهم من أحوال الطقس المتقلبة، وقبل ذلك تحتاج الظاهرة إلى مقاربة اجتماعية صارمة تفرض عليهم العيش في هذه المراكز والملاجيء التي يمكن أن تعد لهذا الغرض، إلى ذلك يتساءل العديد من المتتبعين لهذه الظاهرة عن أسباب غياب جمعيات مهتمة بإعادة إدماج وتأهيل المشردين و المدمنين بالمدينة .