أعادتنا واقعة جنوح الباخرة «سيلفر العيون» عشرات السنوات إلى الوراء، وجعلتنا نقتنع بأن خبراتنا في مجال الإنقاذ البحري لا تتجاوز انتشال غريق أو زورق صيد من السواحل، بينما نلجأ إلى الخبرة الأجنبية حين يتعلق الأمر بجنوح بحري ناتج عن «غرق» ناقلة في وحل رمال بوابة ميناء طانطان. لم تنفع الاجتماعات التي عقدت في مقر عمالة طانطان، ولم تجد النوايا الحسنة شيئا أمام كارثة بيئية تهدد سواحلنا، وحرر بلاغ ختامي يقول: «العين بصيرة واليد قصيرة»، حينها تم الاستنجاد بخبراء من الأراضي المنخفضة، وبتجهيزات لا تتوفر عليها موانئ المملكة، بالرغم من أن المجال البحري المغربي يتجاوز نظيره الهولندي ألف مرة. أعلنت الحكومة استقالتها من الإنقاذ، وتطلع الجميع إلى الخبرة الأجنبية التي ستخلص المدينة والسواحل الجنوبية من كارثة بيئية راقدة في أحشاء الباخرة، حددت في 5 آلاف طن من الفيول الصناعي. وفي منتصف ليلة باردة، نزلت الخبيرة الهولندية سيلفيا بمطار طانطان والمسؤولون نيام، انتقلت على الفور إلى الميناء وشرعت في تفحص الناقلة التي منعتها الرمال من دخول مرسى طانطان ورمت بها خارج الميناء. قالت سيلفيا إن تفريغ الفيول أمر معقد نظرا إلى اضطراب الأحوال الجوية، بينما وزع مذيعو نشرات الأخبار الرسمية أقراص التفاؤل على المغاربة، أما مالك الباخرة فآمن بأن سيلفيا هي القادرة على إجهاض سيلفر. بدأت بقع الفيول تظهر حول الباخرة الجانحة، وتغير لون ماء البحر وكأن سيلفر المنكوبة تعاني من إسهال، وتبين أن أقصى ما تقوم به الوقاية المدنية هو تعيين بضعة «ميطر ناجورات» في شاطئ «الوطية»، تنتهي مهمتهم بانتهاء الموسم الصيفي. أما لجنة الكوارث على مستوى عمالة طانطان، فلا تملك إلا النوايا الحسنة وفقيها جاهزا لقراءة الأدعية في حفلات التأبين. في ظل هذه الكارثة، شرع بعض كبار المسؤولين في تبني شركات تنظيف الشواطئ، استعدادا لصفقة ما بعد إجهاض «سيلفر العيون» المنكوبة، فقد هداهم تفكيرهم إلى الاستخارة والاستشارة وخلصوا إلى مصدر رزق آخر من رحم الفاجعة البيئية، بينما المشكل الحقيقي يكمن في ارتفاع نسبة الترمل (ليس المقصود هنا الأرامل) في مدخل ميناء طانطان الذي يسميه البحارة بوابة الموت. قبل كارثة «سيلفر العيون» بأيام، انقلبت باخرة تدعى «أيت باعمران»، كانت محملة بالأسماك، لم تصنف الحادثة في خانة الكوارث ولم تستنجد الشركة المالكة للباخرة بخبرة أجنبية، لأن الخسائر لم تتجاوز 11 ضحية، في استخفاف بأرواح المواطنين. وحين كان الجميع يبحث عن حل هولندي لمشكلة الفيول غرق «العندليب» في بوابة الميناء، والعندليب هو اسم باخرة كانت محملة بأطنان الأسماك المعدة للتصدير، وغرقت عشرات المراكب دون أن تحجز لنفسها مساحة في نشرات الأخبار الرئيسية والجهوية. للأمانة، فليست كل حوادث جنوح البواخر في سواحلنا كوارث بيئية، ففي منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، غرقت سفينة محملة بأطنان من الخشب قبالة ميناء الجديدة، وتم إفراغ الشحنة الخشبية بخبرة مغربية تعرف أهمية الخشب الطافح فوق المياه، حينها تحولت الحادثة البحرية إلى هبة إلهية لازالت صالونات كبار المسؤولين في دكالة شاهدة عليها، بينما لازال هيكل الباخرة جاثما في مسرح الجريمة قبالة سواحل الحوزية. عشت في طانطان أولى سنوات الوظيفة العمومية، ولمست طيبوبة سكانها وبساطتهم وعشقهم للبحر والرمل والشاي الداكن، ومع مرور الأيام، لم يعد للمدينة ذكر إلا حين تضرب موعدا لأهاليها مع موسم سنوي، أو عندما يلبي انفصالي نداء «الوطن غفور رحيم»، أو لما تغرق سفينة عند مدخل المرسى وتعجز عن العبور إلى البر في مدينة تسمى «مدينة العبور». لله يا سفينة فين غاديا بينا.