الفلسطينيون يرفضون أن يقدموا إلى إسرائيل ما عجزت عن أخذه منهم بالقوة تبذل الحكومة المصرية قصارى جهودها في ملف المصالحة الفلسطينية، وتحاول تحقيق بعض الإنجاز على مستوى العلاقة بين الفصائل الفلسطينية، وقد خصصت لهذا الغرض طاقماً أمنياً كبيراً ومهماً يرأسه الوزير عمر سليمان، رئيس المخابرات المصرية العامة، وأجرى الرئيس المصري محمد حسني مبارك أكثر من اتصالٍ هاتفي مع العاهل السعودي الملك عبد الله، ومع الرئيس السوري بشار الأسد. وللغاية نفسها، عقدت مصر أكثر من لقاء قمة عربي بين عددٍ من قادة الدول العربية لتهيئة أجواء عربية داعمة وضاغطة على الأطراف الفلسطينية المتحاورة في القاهرة، فمصر تخشى الفشل، وتخاف من اهتزاز صورتها في المنطقة، وتتحسب لدورها الوظيفي . ولكن الحكومة المصرية، في سعيها إلى تحقيق أهدافها، لم تكتفِ بممارسة الضغوط السياسية على الفصائل الفلسطينية، ولا بحشد التأييد والدعم العربي لتحقيق المصالحة الفلسطينية، بل لجأت إلى ممارسة بعض العقوبات على الفلسطينيين، وأكثرت من الضغط والتضييق علي سكان غزة، وهم في أمس الحاجة إلى رفع الحصار المفروض عليهم، فأحكمت إغلاق معبر رفح، وباشرت بإغلاق وتدمير بعض الأنفاق التي هي شرايين الحياة لأهل غزة، وشددت في سياستها إزاء السماح للمرضى والمصابين بالخروج من قطاع غزة، كما عادت لتمنع الفلسطينيين العالقين على الحدود المصرية الفلسطينية من العودة إلى قطاع غزة، بل امتدت سياستها المتشددة على قطاع غزة لتطال الوفود العربية والدولية التي ترغب في الدخول إلى قطاع غزة أو مغادرته، فمنعت الكثير من الوفود والمنظمات الإنسانية والحقوقية من دخول القطاع، كما منعت قوافل المساعدات الإنسانية العربية والدولية من العبور إلى قطاع غزة عبر معبر رفح الحدودي، وأجبرت بعضهم على العبور عبر معبر العوجا الإسرائيلي، بحجة أن المعدات المرافقة لهم معداتٌ ثقيلة، والاتفاقيات المبرمة بينها وبين إسرائيل تحول دون دخولها عبر معبر رفح الحدودي، وتعتقد الإدارة المصرية أنها بتشديدها وتضييقها على سكان قطاع غزة الذي يتطلع إلى إعادة الإعمار، وإلى دخول المساعدات الغذائية والطبية والإنسانية إليه، تستطيع أن تفرض على المفاوضين الفلسطينيين بعض المواقف، وتستطيع أن تحصل من بعضهم على بعض التنازلات . ولكن الحقيقة أن الإدارة المصرية الراعية للحوار الفلسطيني تخطئ عندما تسعى إلى تحقيق أهدافها عبر ممارسة الضغط على سكان قطاع غزة، إذ إن الفلسطينيين، الذين هم في أمس الحاجة إلى المصالحة الوطنية. وإلى رفع الحصار المطبق عليهم، يدركون أن الحكومة المصرية تواجه مأزقاً حقيقياً، فهي تخشى أن تفشل في المهمة الموكولة إليها من الإدارة الأمريكية، إذ ليس مسموحا للقاهرة أن تفشل من جديد، وقد فشلت أكثر من مرة في تحقيق المصالحة الفلسطينية، رغم أنها جمعت الأطراف الفلسطينية في القاهرة أكثر من مرة، وتمكنت من التوصل إلى أكثر من اتفاق، ولكن كل المحاولات السابقة لم تعمر طويلاً، ولم يكتب لها النجاح. ويغيب عن الإدارة المصرية أن من أهم أبجديات نجاح الوسيط في مهمته أن يكون نزيهاً في دوره، وسطياً في مواقفه، وأن يقف على مسافةٍ واحدة من أطراف الحوار، فلا ينحاز إلى طرفٍ دون آخر، ولعل التجربة القطرية الناجحة في الوساطة بين فرقاء الأزمة اللبنانية تعطي دليلاً واضحاً على أثر النزاهة في تحقيق الهدف المنشود، وهو الدور الذي تكرر مع حوار المصالحة السودانية في الدوحة بين حركة العدل والمساواة والحكومة السودانية . المهام الملقاة على القاهرة بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة كثيرة وعديدة، وقد أوكلت إليها بموافقةٍ إسرائيلية وأمريكية، وبمباركةٍ عربية. وفضلاً عن تحقيق المصالحة الفلسطينية وتشكيل حكومةٍ فلسطينية جديدة، بعد إزالة كافة العقبات التي تعترض تشكيلها، فإن المطلوب من القاهرة هو إنهاء ملف الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط والإفراج عنه في ظل حكومة إيهود أولمرت المنصرفة، وقبل أن يتسلم نتنياهو مهامه كرئيسٍ للحكومة الإسرائيلية، ومطلوب من مصر تجديد التهدئة الفلسطينية – الإسرائيلية، وضمان عدم قيام الفصائل الفلسطينية بخرقها ومنعها من إطلاق الصواريخ على المدن والبلدات الإسرائيلية، وهذه هي المهام الأساس والتي بموجبها أعطيت الحكومة المصرية الضوء الأخضر من الإدارة الأمريكية للمضي في مشروع المصالحة الفلسطينية. وتدرك الحكومة المصرية أن لهذه المهمة سقفاً زمنيا وأن المهلة المعطاة لها مهلةٌ محددة، ومن المستبعد تجديدها أو تمديدها، لذا عليها أن تنجح في تحقيق وظيفتها في المنطقة كأكبر دولة عربية، ولهذا طلبت من المفاوضين الفلسطينيين أن يمددوا إقامتهم في القاهرة وأن يواصلوا حواراتهم الداخلية، وحافظت في كل لجنة على وجود ضابطٍ أمني كبير يرعى الحوارات، ويوجهها أحياناً، ويحاول تجاوز بعض العقبات التي تعترضها، وأوفدت عمر سليمان إلى واشنطن لينقل إلى الإدارة الأمريكية صورة ما يجري من حواراتٍ في القاهرة، وليحاول أن يتجاوز الفيتو الأمريكي الذي وضعته وزيرة الخارجية الأمريكيةالجديدة هيلاري كلينتون، بأن الإدارة الأمريكية لن تقبل بحكومةٍ فلسطينية لا تقبل بقرارات الشرعية الدولية، ولا بقرارات الرباعية الدولية، ولا تعترف بالاتفاقيات الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، والتي يعني القبول بها الاعتراف بدولة إسرائيل، إذ بموجب الشروط الأمريكية والمطالب الإسرائيلية فإن التوصل إلى اتفاقٍ أمرٌ في غاية الصعوبة، فحركة حماس لن تقدم تنازلاً في كثيرٍ من الملفات المطروحة، فلن تقبل بالاعتراف بالاتفاقيات الموقعة بين م.ت.ف وإسرائيل، كما لن تقبل بغير التزامن على مختلف الصعد الأمنية في الضفة والقطاع، والانتخابية للمجلسين التشريعي والوطني، ولن تقبل بالإفراج عن الجندي الأسير دون أن تستجيب إسرائيل لطلباتها بالإفراج عن جميع المعتقلين الذين أوردتهم حماس ضمن قائمتها، ولن تقبل بمبدأ الالتزام المسبق دون وجود ضماناتٍ دولية، وهذه ليست مطالب حركة حماس، وإنما هي مطالب الشعب الفلسطيني كله، كما هي اعتراضات الفلسطينيين كلهم، الذين يرفضون أن يقدموا إلى إسرائيل ما عجزت عن أخذه منهم بالقوة. فحتى تنجح القاهرة في مساعيها ولا تفشل، وحتى يكون لها دور في المنطقة، مقدر ومحترم، فإن عليها أن تصيغ السمع إلى المطالب الوطنية الفلسطينية، وأن تبتعد عن المحاباة والانحياز، وعليها أن تتقن دور الوسيط، نزاهةً وإنصافاً وعدلاً، وعليها أن تتوقف عن ممارسة الضغوط على بعض المتحاورين، وألا تستخدم مشروع إعادة إعمار قطاع غزة ورقة ضغط، وعليها أن تصم آذانها عن المطالب الأمريكية والإسرائيلية، وأن ترفض الخضوع والانصياع إلى الاعتراضات الأمريكية والإسرائيلية، كما عليها أن ترفع ضغوطاتها وأن تخفف من تشددها المفروض على أبناء قطاع غزة، فالحصار والتشديد، الذي يقود إلى التجويع والموت ليس طريقاً إلى الوفاق والاتفاق، فالفلسطينيون لم يعرفوا طوال القرن الماضي أيام رخاء، ولا ساعات رفاهية وهناء، ومع ذلك فإنهم لم يتخلوا عن نضالهم، ولم يتنازلوا عن حقوقهم، وعلى مصر أن تدرك أن القادم الإسرائيلي الجديد إنما هو يميني متطرف، بل يميني موغل في التطرف، ولا يؤمن بالسلام، ولذا فإن كان من ضامنٍ لدور مصر ونجاحها، فإنما هو المطالب الفلسطينية الوطنية المتمسكة بالحق، والرافضة لمنطق الهزيمة والاستسلام، فهي التي تحفظ لمصر دورها الطليعي القومي التاريخي، وإلا فإنها ستفقد فرصتها لاستعادة الدور الذي فاتها، ولن يحسب الفشل إلا مصرياً .