سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
بيضا: لا ولوج لدينا للأرشيف الملكي وعلى العائلات المخزنية تسليم وثائق المغاربة قال إن التعليمات الشفاهية يلجأ إليها من يخشى الأرشيف ويحب العمل في الظلام
يتحدث جامع بيضا، مدير مؤسسة «أرشيف المغرب» في هذا الحوار عن التحديات التي تواجه المؤسسة في تنظيم رصيد الوثائق الوطني، والذي لا يتعدى مخزون المؤسسة منه 2000 متر خطية، الثلث منه في وضع صحي «مريض». ويكشف بيضا علاقة الأرشيف بمحاربة الفساد وتكريس الشفافية في عمل مختلف المؤسسات. - صرح رئيس الحكومة بمناسبة إحياء اليوم الوطني للأرشيف في 30 نونبر الماضي بأن هذا القطاع طاله نسيان يكون أحيانا مقصودا. هل يمكن القول بأن إهمال الأرشيف سلوك منهجي؟ قبل أن أكون مسؤولا عن هذا القطاع فأنا باحث في التاريخ، وبالتالي فأنا أؤمن بنسبية الأشياء والتصرفات. فإن قلت بأنه منهجي فقد أرمي باللائمة على أناس لم ينخرطوا في ذلك التصور أبدا، وإن قلت بأنه لم يكن مقصودا البتة أخطأت أيضا، ولذا أختار السبيل الأوسط. فربما كانت هنالك عند البعض نوايا قصدت تهميش هذا القطاع، ولكن إلى جانب ذلك كانت هناك أيضا نوايا طيبة وتطلعات ديمقراطية سعت إلى حفظ الأرشيف، حتى في الحالات التي لم يكن هنالك قانون ينظم ولوج الجمهور الواسع إليه. والحاصل أنه إذا كنت لا أسمح لنفسي باتهام قطاع معين لأنني لا أملك الحجة على ذلك، فالواقع يجعل المرء يميل إلى تفسير التأخر الذي حصل فعلا في هذا الحقل بكون بعض القطاعات لم ترغب أبدا في أن يصبح الأرشيف رهن إشارة الجمهور. ومقابل ذلك وجدت مصالح، ولو في غياب قانون يلزمها بذلك، حافظت على أرشيفها في بعض الوزارات، وهي بذلك ساعدت هذه المؤسسة من حيث لا تدري. -هل لديك أمثلة عن هذه الوزارات؟ أعرف مثلا أن بنك المغرب ووزارة المالية قامتا بمجهود مشكور، وربما نوعية المعلومات المتضمنة في أرشيفاتهما كأرقام وإحصائيات جعلت هذه القطاعات تعي مبكرا أن هذا الأرشيف، الذي ليس حساسا من الناحية السياسية الصرفة، حيوي بالنسبة لمصير البلاد، فأقدمت على حفظه أكثر من غيرها. وهناك مجهودات أخرى في بعض القطاعات حسب ما وصلني من أخبار، كوزارة الأوقاف، ولعل السبب في ذلك ارتباط الوثيقة هنا بالحقل الديني. مع هذا، يجب الإقرار أنه ليس لدينا اليوم تشخيص دقيق لما عليه حالة الأرشيف في جميع القطاعات العمومية. فمؤسسة أرشيف المغرب في بداية مسارها، ولا يمكنها بين عشية وضحاها أن توظف طاقمها الأول، وأن تشتغل على المراسيم التطبيقية، وتصلح جدرانها حتى يكون لها موضع قدم، وأن تفتح قاعة للمطالعة، كما فعلنا، لتستوعب أربعين شخصا في الوقت ذاته، ونيسر الاطلاع على الأرشيف الذي هو متوفر بين هذه الجدران منذ زمان، وهو أرشيف فترة الحماية، والذي هو متيسر اليوم لأي مواطن. كيف وجدت الحالة الصحية للأرشيف المغربي؟ لا يمكن أن أتحدث إلا عن الأرشيف المودع بين جدران هذا المركز، الذي هو مجرد جناح من المكتبة العامة القديمة التي أصبحت فيما بعد المكتبة الوطنية. لدينا حوالي 2000 متر خطية من الأرشيف، الذي هو مريض تقريبا في ثلثه، والثلثان المتبقيان في حالة مُرضية. إن الثلث «المريض» يستدعي التدخل السريع إما بالترميم المباشر أو على الأقل بالرقمنة حتى لا توضع الوثائق الأصلية رهن إشارة الباحثين. - لأي حقب يعود هذا الأرشيف؟ الأرشيف المتوفر الآن يعود إلى الفترة المتراوحة بين أواخر القرن 19 إلى حدود 1968. - بالعودة إلى أسباب التأسيس، هل هي مرتبطة أساسا بقضية الصحراء وظروف اشتغال هيئة الإنصاف والمصالحة؟ قضية الصحراء لفتت انتباه المسؤولين إلى أهمية الأرشيف، لأنه عندما عقدت الدولة المغربية العزم على استرجاع أقاليمنا الصحراوية الجنوبية، فقد اختارت الطريق الدبلوماسي والسلمي، عبر إيداع ملفها لدى محكمة العدل الدولية في لاهاي. وفي هذه اللحظة جندت الدولة طاقات الباحثين والأساتذة للبحث عن الوثائق، لأنه لا يكفي للمرء أن يكون على حق في أرضه ووطنه، بل يجب أن يقدم الحجة للآخر الذي قد يكون عدوا متآمرا أو متشككا. والحالة هذه، فإن المغرب كان يبحث عن تأشيرة أو تزكية من لدن محكمة العدل الدولية بلاهاي، وبالتالي جند طاقات وأفرادا بحثوا وجمعوا ما هو مشتت في المغرب هنا وهناك، لأنه ليست لدينا مؤسسة بمجرد الضغط على الزر تعطيك ما نتوفر عليه. ثم أرسلت الحكومة أيضا إلى ديار أخرى، كفرنسا وإسبانيا وغيرهما، مختصين للبحث في المراكز لعلهم يجدون ما يعززون به الملف المغربي الذي وضع أمام أنظار محكمة العدل الدولية. وشكل هذا السياق ناقوس خطر أولي، ونتيجته المباشرة أن تأسست مديرية الوثائق الملكية التي كان يديرها المرحوم عبد الوهاب بن منصور، وكان من مهامها الأولى جمع ما هو متوفر في القصور الملكية عبر التراب المغربي، ووضعه في مكان واحد وترتيبه ومعرفة ما لدينا من الأرشيفات الرسمية، خاصة الأرشيف الملكي. كما كان من مهامها أيضا استقدام بعض النسخ المختارة التي كان السيد عبد الوهاب بن منصور يظن أن لها قيمة تاريخية. ويمكن القول بأن هذه المؤسسة تقوم بمهامها المحترمة في التعريف بالوثائق الملكية والدفاع عن بعض مقومات البلاد، وخير مثال على ذلك هو أنه عندما زار كريستوفر روس مؤخرا الأقاليم الجنوبية، تم إهداؤه مؤلفا يتضمن وثائق تبين العلاقة التاريخية بين القبائل الصحراوية والسلطة المركزية في المغرب، وهذا جانب يؤكد إلى أي مدى يمكن للأرشيف أن يساهم في بعض القضايا الوطنية. - هل لديكم ولوج إلى الأرشيف الملكي والعسكري؟ ليس لدينا ولوج للأرشيف الملكي، فالوثائق الملكية لديها قطاعها الذي هو مديرية الوثائق الملكية، كما أن للوثائق العسكرية قطاع آخر ينظمها ويهتم بها هي اللجنة المغربية للتاريخ العسكري. وفي كل بلدان العالم، قد تجد قطاعات لا تخضع بالضرورة لمؤسسة الأرشيف الوطني لذلك البلد، ولكن يتم التنسيق مع هذه القطاعات كلها. وفيما يخص المغرب، أقوم بالتنسيق مع الأستاذة بهيجة سيمو، المسؤولة عن مديرية الوثائق الملكية، وهدفنا جميعا مصلحة هذا الوطن. والتنسيق قد يتعزز أكثر في المستقبل القريب بعد أن تكون قد رسخت قدم الانطلاقة بالنسبة - لمؤسسة «أرشيف المغرب» الفتية. - ماذا عن السبب الثاني المتعلق بهيئة الإنصاف والمصالحة؟ معروف، طبعا، أن عمل هيئة الإنصاف والمصالحة اصطدم بغياب الأرشيف تارة أو غياب أرشيف منظم تارة أخرى، حيث عانى المناضلون في تلك الهيئة من هذا الخلل الموجود في صرح دولة «حديثة»، لأنه لا يمكن القول بوجود دولة عصرية في حالة غياب تنظيم للأرشيف. وأكثر من ذلك، فحتى في الحالات التي كان فيها الأرشيف متوفرا، فالهيئة المذكورة عانت من شيء آخر هو أن المالك لهذا الأرشيف ليس مجبرا لتسليمه، لأنه ليس هناك قانون يؤطر ذلك. فعندما يذهب خبراء الهيئة عند إدارة ما قاصدين البحث في مستودعاتها، فإن المسؤول عن تلك الإدارة قد يسألها عن القانون الذي تستند إليه لكي تدخل إلى هذه الدهاليز، وبالتالي قد يرفض ذلك المسؤول السماح بذلك لأن القانون لا يجبره على تقديم أرشيف المؤسسة. والحاصل من هذه التجربة هو أن هذه الهيئة أولت عناية خاصة لهذا القطاع في تقريرها النهائي، وأوصت بضرورة إصدار قانون منظم للأرشيف، وهو الذي جاء في 30 نونبر 2007، ثم تأسيس مؤسسة تسمى بأرشيف المغرب. - هل يمكن القول بأنه لو توفر الأرشيف بالشكل المطلوب لتوصلت الهيئة إلى نتائج أفضل في عملها، خاصة أنها اعتمدت بشكل مهم على الشهادات الشفاهية؟ هذا صحيح، ومن البديهي أنه لو كان الأرشيف منظما ومسموحا بالولوج إليه فعمل الهيئة قد يعطي نتائج في سقف يعلو ما وصلت إليه، وهذه مسألة منطقية تماما. وأكاد أقول من موقع تجربتي كأستاذ جامعي إنك عندما تمنح طالبا ينجز أطروحة ما المادة الضرورية لبحثه، فإنه قد يقدم عملا رفيعا من حيث الجودة يفوق بطبيعة الحال مستوى العمل الذي قد ينجزه في ظروف كثرت فيها العراقيل والمطبات. - هل تؤرقكم في المؤسسة إشكالية التعليمات الشفاهية؟ التعليمات الشفاهية يلجأ إليها الذي يخشى من الأرشيف. بعبارة أخرى، فعندما أريد أن أقول لك شيئا ما فإنني أتبع القناة الرسمية، فأبعث لك بكلام أو موضوع مدقق ومؤرخ بالزمن والمكان، فأرسل لك تعليمات ويكون لذلك خيط يمكن لأي أحد بعد ذلك أن يتبعه من أين انطلق ومن أي محطات مر حتى وصل إليك، وهذه هي الشفافية التامة. فغدا عندما نريد معرفة من أصدر هذه الأوامر، فإننا نرجع إلى الأرشيف.أما غير ذلك، من تعليمات شفاهية، فلا يلجأ إليها إلا «للي في كرشو لعجينة» كما نقول بالدارجة المغربية. وهذا نقيض الشفافية والديمقراطية في الجانب الملقي والجانب المتلقي على السواء، ومثل هذه الطرق لا تخلف أرشيفا. - هل لامستم هذه الثغرة على مستوى الأرشيف المغربي؟ شخصيا عملت كباحث في التاريخ، واشتغلت في مواضيع غير لصيقة بهذه الممارسات، فتخصصي هو تاريخ الصحافة، و لم أصطدم شخصيا بذلك أثناء إنجاز بحوثي. لكن ما تومئ إليه هو حقيقة يعرفها الكبير والصغير الآن، بمعنى آخر لو صدرت إلي جدلا تعليمات شفوية لما طبقتها، بل سأطلب من الجهة التي قد تصدر لي تلك التعليمات أن توجهها إلي كتابة، فالخطأ يمكن أن يكون في الطرفين الذي يلقي التعليمات والذي يتلقاها. - ماذا عن إشكالية ما يسمى بالأرشيف الخاص، الذي يكون في كثير من الأحيان أرشيفا للدولة أو للشعب، والموجود في حوزة بعض الوزراء والمسؤولين؟ هذا حصل كثيرا في تاريخ ما قبل القرن العشرين، وربما هناك حالات أخرى حتى في القرن العشرين. لذا أوجه نداء إلى تلك الأسر المنحدرة من أسر مخزنية، والتي تمتلك أرشيفا تعتبره أحيانا خاصا، فأطلب منها فقط أن تطلع على قانون الأرشيف إن لم تفعل بعد ذلك. فأرشيف الدولة هو ذلك الأرشيف الذي أنتجه أو توصل به موظف ما أثناء ممارسة مهامه بغض النظر عن تاريخه ومكانه. فهل، على سبيل المثال، عندما أتوصل برسالة أثناء ممارسة مهامي موجهة إلي لا كجامع بيضا ولكن كمدير أرشيف المغرب ولها علاقة بمهامي، هل من حقي أن آخذ هذا الأرشيف إلى بيتي عندما تنتهي مأموريتي؟ لا أبدا. فالآن بعض العائلات المغربية قد ورثت أرشيفا، وشكرا لها على الحفاظ عليه، ولكن الشكر أكبر وأسمى، وهو مفعم بغيرة وطنية راقية عندما تتفضل هذه الأسر المنحدرة من فلان وفلان، وتودع ذلك الرصيد الوثائقي في «مؤسسة أرشيف المغرب» لأنه للمغاربة جميعا وللوطن. وآنذاك فقط سنلمس أن غيرتهم على الوطن أكبر من غيرتهم على نفعهم الخاص أو نفع أسرهم. - هل تعملون على تجميع الأرشيف «الخصوصي» وطنيا أو دوليا؟ هناك محاولات جس نبض بعض الأسر لتحسيسها بما ننوي الإقدام عليه، لأنه في هذه المسألة الحساسة أريد الإقناع قبل تفعيل القانون، فإذا أجبرت شخصا على أن يسلمك أرشيفا يعتبره خاصا فربما كانت ردة فعله إتلافه أو إخفاءه بدل تسليمه. فالقانون مفتوح سواء بالنسبة للأرشيف الذي يعتبر خاصا وهو غير خاص، أو الأرشيف الخاص فعلا المتعلق بالأفراد الذين ورثوه أو وجدوه بديارهم ولا علاقة له بوظيفة رسمية لكن بعض الأسر لا تتوفر على ظروف حفظه وقد يتلاشى، أو ربما يرثه أبناء لا يعرفون قيمته وتجده في «الجوطية» بعد ذلك يباع بأبخس الأثمان. لذلك فالقانون فتح ذراعي أرشيف المغرب لاستقبال حتى الأرشيف الخاص، إما هبة أو شراء أو وصية أو وديعة صالحة للاسترجاع بمجرد اتفاق. وبالتالي فضروري مستقبلا بعد أن ننتهي من أمور مستعجلة أن نعير هذا الجانب اهتماما خاصا حتى لا تقع بعض الأرشيفات الوطنية في أيدي تجار التحف الذين يشترون المخطوطات ثم يبيعونها ونجد تراثنا يباع في المتاجر العالمية أو يعرض في المتاحف الأجنبية، ونحن في أمس الحاجة إليه. - ماذا عن الأرشيف الموجود في بعض الدول؟ أنا براغماتي وواقعي، فإن دخلت معارك لاسترجاع الأصول ربما لا أسترجع شيئا، لأن استرجاع الأصول معركة سياسية وأنا لا أخوض المعارك السياسية من موقع مسؤوليتي. ما يهمني في الوقت الحاضر هو أن أيسر للباحثين الاطلاع على ذلك الأرشيف المودع في الخارج والذي قد يكلفهم الكثير سفرا وإقامة وتأشيرة، وجيوب طلبتنا لا تسمح بذلك. لذا اخترت السهل والواقعي عندما لجأت إلى بعض الزملاء في مصالح الأرشيف الفرنسية وفي مقدمتها «أرشيف فرنسا» و«الأرشيف الدبلوماسي لفرنسا»، وبدأت باليسير جدا وطلبت منهم أن يساعدوا هذه المؤسسة الفتية والبحث الجامعي في المغرب وغيره، بأن يوفروا في المغرب أرصدة مرقمنة وجاهزة من تلك الأرصدة المتوفرة لديهم، فلست هنا أطلب المستحيل أو الأرشيفات المقيدة بقوانين الآجال، لأن هناك قوانين صارمة جدا في هذا الشأن. وقد توصلنا قبل أيام برصيد أولي لم يتم جرده بعد من الأرشيف الدبلوماسي الفرنسي، وهو عبارة عن سجلات مرقمنة توثق لكل المراسلات التي كان المفوضون الفرنسيون بطنجة يبعثونها أو يتوصلون بها، وهي تغطي فترة ما قبل 1912. - أكدتم على أن التعليمات الشفاهية هي نقيض الديمقراطية. هل الأرشيف مدخل لمحاربة الفساد؟ الذين لا يحبون الشفافية والمحاسبة يكرهون الأرشيف وهذه مسألة معروفة، لأنهم لا يودون أن يحاسبوا غدا على أعمالهم، وبالتالي فهم يفضلون الاشتغال في الظلام. وفي المقابل فالموظف أو المسؤول الذي ليس لديه ما يخفيه فهو يعزز الأرشيف لأنه ضمانة بالنسبة إليه، ويحفظ حقوق عامة الناس وحقوق المسؤولين النزهاء. فالمسؤول النزيه يرحب بلجان الافتحاص، ويقدم الوثائق المتعلقة بالصفقات والإعلانات التي تمت في الجرائد ومحاضر الاجتماعات، وكل ذلك هو أرشيف، لأن الأرشيف ليس فقط الماضي والتراث، بل أيضا هو الحاضر والشفافية والإدارة واقتصاد اليوم. فبطبيعة الحال، عندما يأتي مستثمر أجنبي ويجد أن الصفقات تتم بما هو شفاهي ودون أرشيف وشفافية، فهو يخشى على مصالحه، لأنه كما قد يكسب اليوم صفقة فقد يضيع فيها بنفس الأسلوب غدا. - صنفت «أرشيف المغرب» ضمن 20 مؤسسة استراتيجية يعين الملك رئيسها. هل هذا الوضع القانوني يشكل ضمانة لمستقبل المؤسسة؟ هذا مؤشر إيجابي بالنسبة لهذه المؤسسة التي طال انتظارها، وأيضا يعكس إرادة سياسية من مستوى عال. فلو وضعت المؤسسة بين أيدي بعض المنخرطين في تيارات سياسية معينة، فقد يخشى أن يتلون مصير هذه المؤسسة بتلونات من هم في الحكم، ومن الأحسن أن تكون هذه المؤسسة وطنية بالضرورة وبالدرجة الأولى وليست حزبية، ولا تحتكم لشيء غير القانون. فإذا أرادت أحزاب أو مجتمع مدني أن تغير القانون فلتسع إلى ذلك، وآنذاك فما على المدير إلا التنفيذ. لذا أظن أنه من الوجيه جدا، وبكل تجرد، أن تكون هذه المؤسسة بعيدة عن التيارات السياسية والدينية والتوجهات الإيديولوجية، وأن تبقى في خدمة الدولة، تودع فيها أرشيفها وذاكرتها لمصلحة الوطن. أظن أنه كان من الحكمة أن صنفت هذه المؤسسة العمومية ضمن المؤسسات الاستراتيجية، وهذا يجعل المرء يطمئن إلى المستقبل. وهذا يعني أن هناك فعلا إرادة سياسية لنتدارك ما فات من التأخر ومن ذلك الخلل الذي ساد لعقود. - هل ما توفره الدولة اليوم كاف لإدارة أرشيف المغاربة؟ نحن في بداية الطريق، رغم أنني معروف بكوني أشكو وأصيح كثيرا عندما لا أجد آذانا صاغية، لكن للتاريخ وللأمانة أقول بأن الأمور تسير في الاتجاه الحسن. فربما ساورتني بعض الشكوك في الشهور الأولى، لأنني عينت في أواخر مارس 2011، وتم الإعلان عن فتح المؤسسة دون أن تفتح في الحقيقة في أواخر ماي من السنة ذاتها. وفي 2011 لم تكن ولو خانة واحدة متعلقة بالأرشيف في قانون المالية، ولكن الأمور تحسنت بكثير ابتداء من 2012 و2013، والدليل على ذلك أنني كنت وحيدا بين هذه الجدران في ماي 2011، واليوم أصبحنا 37 نفرا. لكن هذه الجدران التي تحتضننا ليست مؤهلة لاستقبال الأرشيف العمومي للمغاربة، وتفتقر للمواصفات والمعايير الدولية في حفظ الأرشيف. ومع ذلك أظن أن الخير قادم، بحكم أن الدولة وفرت لنا 4 هكتارات بمنطقة «تكنوبوليس» في سلا الجديدة لتشييد مقر جديد، وهو مؤشر له دلالته في زمن المسغبة. والإرادة السياسية لمستها أيضا فيما شهده الجميع بمناسبة الاحتفال باليوم الوطني الأول للأرشيف، حيث حضر رئيس الحكومة السيد عبد الإله بن كيران ومستشار صاحب الجلالة السيد أندري أزولاي ووزير الثقافة السيد محمد الأمين الصبيحي ورئيس جامعة محمد الخامس-أكدال السيد وائل بنجلون، وشخصيات عديدة وطنية ودولية، وكل هذا يجعل المرء يطمئن ويستشرف المستقبل بتفاؤل. - في إحدى المحاضرات بمدينة تيزنيت صرحت بأن المسؤول عن هذه المؤسسة إما أن يكون في مستوى المسؤولية أو في منزله أو في السجن. هل القطاع بهذه الخطورة؟ هكذا أرى هذه المسؤولية، فإما أن أقوم بمهمتي أحسن قيام، وأنا قرأت القانون مئات المرات ووعيت كم هي جسيمة المهام الموضوعة على كتفي كمسؤول عن المؤسسة. فأنا الذي أمضي باسم المؤسسة، إما أن أقوم بعملي بكل إخلاص مع جسامة المسؤولية، وهذا ما أقوم به. وعندما سأشعر يوما ما أن قوتي المعنوية أو الجسدية لم تعد تسمح لي بذلك، فإنني سأسلم المفاتيح وأرحل إلى منزلي. طبعا ذكرت السجن في المحاضرة المومئ إليها لأن المسؤول الذي لا يستطيع القيام بهذا العمل ويتمادى في العمل دون احترام لما تفرضه المهنة وما هو منصوص عليه في القانون، فمصير هذا الشخص هو السجن. إن المسؤولية على رأس أرشيف البلد تكليف أكثر مما هو تشريف. فحتى السيد رئيس الحكومة عندما زارني ذات يوم سبت وجلس معي لحوالي الساعتين في المكتب، أشعرته بأن هذه المسؤولية جسيمة جدا، فإما أن توفر لي وسائل العمل للقيام بها أحسن قيام، أو أرجع إلى الجامعة التي احتضنتني لمدة 30 سنة وما زالت تفتح لي ذراعيها. وهذا الكلام الذي قلته له بكل صراحة وأخوة استحسنه كثيرا، ومنذ ذلك الحين أخذت بعض العقبات تزول من الطريق.